فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}.
ثم لما كان أمر النبوة مفرعا على التوحيد ذكر سبحانه ما يدل عليه فقال جل شأنه: {أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ في مَلَكُوتِ السموات والأرض} فهو مسوق للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل بالآيات التكوينية إثر مانعي عليهم مانعي، والهمزة هنا كالهمزة فيما قبل، والواو للعطف على مقدر كما تقدم أو على الجملة المنفية بلم، والملكوت الملك العظيم، أي أكذبوا أو لم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال فيما يدل على كمال قدرة الصانع ووحدة المبدع وعظيم شأن المالك ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه ذاك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكأن التعبير بالنظر هنا دون التفكر الذي عبر به فيما قبل للإشارة إلى أن الدليل هنا أوضح منه فيما تقدم.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْء} يحتمل أن يكون عطفًا على ملكوت وتخصيصه بالسموات والأرض لكما لظهور عظم الملك فيهما، وأن يكون عطفًا على المضاف هو إليه فيكون منسحبًا على الجميع، والتعميم لاشتراك الكل في عظم الملك في الحقيقة، و{مِن شَيْء} بيان {لَّمًّا}، وفي ذلك تنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض بل كل ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء.
نعم منهم من جعل وجه الدلالة الحدوث وهو الذي عليه معظم المتكلمين، ومنهم من جعل وجهها الإمكان وهو الذي عليه الفلاسفة واختاره بعض المتكلمين، ورجح الأول قطب عصره الشيخ خالد المجددي قدس سره في تعليقاته على حواشي عبد الحكيم على الخيالي فارجع إليها، وقوله تعالى: {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} عطف على ملكوت فهو معمول لينظروا لكن لا يعتبر فيه بالنظر إليه أنه للاستدلال بناء على ما قالوا: إن قيد المعطوف عليه لا يلزم ملاحظته في المعطوف، وقد تقدم الكلام في ذلك، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى مع فاعلها الذي هو {أَن يَكُونَ}، وخبر ضمير الشأن لا يشترط فيه الخبرية ولا يحتاج إلى التأويل كما نص عليه المحققون فلا معنى للمناقشة في ذلك، واسم يكون أيضًا ضمير الشأن والخبر {قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ}، ولم يجعلوا هذا من باب التنازع لأن تنازع كان وخبرها مما لم يعهد لا لأن ذلك خلاف الأصل لما فيه من الإضمار قبل الذكر لأن ذلك لازم على جعل الاسم ضمير الشأن ولا ضير في كل، وأمر التكرار فيما ذكرنا سهل فلا يرتكب له خلاف المعهود خلافًا للقطب الرازي، وجوز أبو البقاء أن تكون مصدرية، وتعقب بأنها لا توصل إلا بالفعل المتصرف وعسى ليست كذلك، والمعنى أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة الموت ومفاجأته ونزول العذاب، فالمراد بأجلهم أجل موتهم، وجوز أن يكون عبارة عن الساعة، والإضافة إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة إنكارهم إياها وبحثهم عنها، وقوله جل وعلا: {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} قطع لاحتمال إيمانهم رأسًا ونفي له بالكلية بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر، والباء متعلقة بيؤمنون، وضمير بعده للقرآن على ما ذهب إليه غالب المفسرين وهو معلوم من السياق، والحديث بمعنى الكلام فلا دليل في الآية لمن يزعم حدوث القرآن، وقيل: ولئن سلمنا كونه دليلًا يراد من القرآن الألفاظ وهي محدثة على المشور، والمعنى إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو النهاية في البيان فبأي كلام يؤمنون بعده، وقيل: الضمير للآيات على حذف المضاف المفهوم من {كَذَّبُوا} والتذكير باعتبار كونها قرآنًا أو بتأويلها بالمذكور أو إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة.
والمعنى أكذبوا بالآيات ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله عليه الصلاة والسلام وأحوال المصنوعات فبأي حديث بعد تكذيبها يؤمنون، وفيه بعد، وقيل: إنه يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم بتقدير مضاف أيضًا أي بعد حديثه يؤمنون وهو أصدق الناس، وقيل: المراد بعد هذا الحديث، وقيل: بعد الأجل أي كيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم؟، وجعل الزمخشري ذلك مرتبطًا بقوله تعالى: {وَأَنْ عسى} إلخ ارتباط التسبب عنه، والضمير للقرآن كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الموت وماذا ينظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يئمنوا، وتقدير ما قدر عند صاحب الكشف ليس لأنه لابد من تقديره ليستقيم الكلام بل للتنبيه على معنى الاستبطاء الذي في ضمن أي، وأنه ليس بعد هذا البيان الواضح أمر ينتظر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}.
ترق في الإنكار والتعجيب من حالهم في إعراضهم عن النظر في حال رسولهم.
إلى الإنكار والتعجيب من إعراضهم عن النظر فيما هو أوضح من ذلك وأعم، وهو ملكوت السموات والأرض، وما خلق الله من شيء مما هو آيات من آيات وحدانية اللَّه تعالى التي دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بها.
والمناسبة بين الكلامين: أن دعوة الرسول إلى التوحيد وإبطال الشرك هو من أكبر بواعثهم على تكذيبهِ {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيءٌ عُجابٌ} [ص: 5].
وعُدِّي فعل النظر إلى متعلِّقه بحرف الظرفية، لأن المراد التامل بتدبر، وهو التفكر كقوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21] وتقول نظرت في شأني، فدل بحرف الظرفية على أن هذا التفكر عميق متغلغل في أصناف الموجودات وهي ظرفية مجازية.
والملكوت المُلك العظيم، وقد مضى عند قوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} في سورة الأنعام (75).
وإضافته إلى السماء والأرض بيانية أي الملك الذي هو السماوات والأرض أي مُلك الله لهما، فالمراد السماء بمجموعها والأرض بمجموعها الدالين على عظم ملك الله تعالى.
وعطف {وما خلق الله من شيء} على {ملكوت} فقسّم النظر إلى نظر في عظيم مُلك الله تعالى، وإلى نظر في مخلوقاته ودقائق أحوالها الدالة على عظيم قدرة الله تعالى، فالنظر إلى عظمة السموات والأرض دليل على عظم ملك الله تعالى فهو الحقيق بالإلهية دون غيره، والنظر إلى المخلوقات دليل على عظم قدرته تعالى، وأنه المنفرد بالصنع فهو الحقيق بالإلهية، فلو نظروا في ذلك نظر اعتبار؛ لعلموا أن صانع ذلك كله ليس إلا إله واحد، فلزال إنكارهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبطال الشرك.
وقوله: {وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} معطوف على {وما خلق الله من شيء}.
و{أنْ} هذه هي أن المفتوحه الهمزة المشددة النون خففت، فكان اسمها ضمير شأن مقدرًا.
وجملة: {عسى أن يكون} إلخ خبر ضمير الشأن.
و{أن} التي بعد عسى مصدرية هي التي تزاد بعد عسى غالبًا في الاستعمال.
واسمُ {يكون} ضمير شأن أيضًا محذوف، لأن ما بعد {يكون} غير صالح لأن يعتبر اسمًا لكان، والمعنى ألم ينظروا في توقع قرب أجلهم.
وصيغ الكلامُ على هذا النظم؛ لإفادة تهويل الأمر عليهم وتخويفهم، بجعل متعلق النظر من معنى الإخبار للدلالة على أنه أمر من شأنه أن يخْطر في النفوس، وأن يتحدث به الناس، وأنه قد صار حديثًا وخبرًا فكأنه أمر مسلم مقرر.
وهذا موقع ضمير الشان حيثما ورد، ولذلك يسمى: ضميرَ القصة اعتدادًا بأن جملة خبره قد صارت شيئًا مقررًا ومما يقصه الناس ويتحدثون به.
ومعنى النظر في توقع اقتراب الأجل، التخوفُ من ذلك.
والأجل المضاف إلى ضمير المكذبين هو أجل الأمة لا أجل الأفراد، لأن الكلام تهديد بأجل غير متعارف، نبههم إلى التفكر في توقع حلول الاستئصال بهم وإهلاكهم كما هلك المكذبون من قبلهم، لأنهم إذا تفكروا في أن صاحبهم ليس بمجنون حصل لهم العلم بأنه من العقلاء، فما كان العاقل بالذي يُحدث لقومه حادثًا عظيمًا مثل هذا، ويحدث لنفسه عناء كهذا العناء لغير أمر عظيم جاء به، وما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله، وإذا نظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء علموا أن الله الملك الأعظم، وأنه خالق المخلوقات، فأيقنوا بأنه الإله الواحد، فآل ذلك إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام، وإبطال معتقدهم تعدد الآلهة أو آل في أقل الاحتمالات إلى الشك في ذلك، فلا جرم أن يفضي بهم إلى النظر في توقع مصير لهم مثل ما صار إليه المكذبون من قبلهم.
ويجوز أن يكون المراد بالأجل مجيء الساعة، وانقراض هذا العالم، فهو أجلهم وأجل غيرهم من الناس فيكون تخويفًا من يوم الجزاء.
ومن بديع نظم هذه الآيات: أنه لما أريد التبصر والتفكر في ثبوت الحقائق والنِّسب في نفس الأمر جيء مع فعلى القلب بصيغة القضية والخبر في قوله: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} [الأعراف: 184] وقوله: {وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} ولما أريد التبصر والتفكر في صفات الذات جعل فعل القلب متعلقًا بأسماء الذوات في قوله: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء}.
ثم فرع على التهديد والوعيد توبيخهم والإنكارُ عليهم بطريقة الاستفهام التعجيبي المفيد للاستبعاد بقوله: {فبأي حديث بعده يؤمنون} فهو تعجيب مشوب باستبعاد للإيمان بما أبلغ إليهم الله بلسان رسوله عليه الصلاة والسلام، وما نصب لهم من الآيات في أصناف المخلوقات، فإن ذلك كله قد بلغ منتهى البيان قولًا ودلالة بحيث لا مطمع أن يكون غيره أدل منه.
وأي هنا اسم أُشربَ معنى الاستفهام، وأصله اسم مبهم يفسره ما يضاف هو إليه، وهو اسم لحصة متميزة عما يشاركها في نوع من جنس أو صفة، فإذا أُشرب أي معنى الاستفهام، كان للسؤال عن تعييننِ مشارك لغيره في الوصف المدلول عليه بما تضاف إليه أي طلبًا لتعيينه، فالمسؤول عنه بها مُساو لمماثل له معروف فقوله: {فبأي حديث} سؤال عن الحديث المجهول المماثل للحديث المعروف بين السائل والمسؤول وسيأتي الكلام على أي عند قوله تعالى: {فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون} في سورة القلم (5، 6).
والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار، أي لا يؤمنون بشيء من الحديث بعد هذا الحديث.
وحقيقة الحديث أنه الخبر والقصة الحادثة {هل أتاك حديثُ ضيف إبراهيم} [الذاريات: 24] ويطلق مجازًا على الأمر الذي من شأنه أن يصير حديثًا وهو أعم من المعنى الحقيقي.
فالحديث هنا إن حُمل على حقيقته جاز أن يراد به القرآن، كما في قوله تعالى: {فليأتوا بحديثثٍ مثله} [الطور: 34] فيكون الضمير في قوله: {بعده} بمعنى بعد القرآن، أي بعدَ نزوله، وجاز أن يراد به دعوى محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة من عند الله، وكلا الاحتمالين يناسب قوله: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} [الأعراف: 184].
والباء في قوله: {فبأي حديث} على هذا باء التعدية لتعدية فعل {يؤمنون}، وإن حمل على المجاز شمل القرآن وغيره من دلائل المصنوعات باعتبار أنها من شأنها أن يتحدث الناس بها كما في قوله: {فبأي حديثثٍ بعد الله وآياته يؤمنون} [الجاثية: 6] فيكون الضمير في قوله: {بعده} عائدًا على معنى المذكور أي ما ذُكر من ملكوت السموات والأرض، وما خلق الله من شيء، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، وأفرد الضمير لتأويله بالمذكور كما في قوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلةً فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفْسًا} في سورة النساء (4) أي فبأي شيء يستدل عليهم غير ما ذكر بعدَ أن لم ينتفعوا بدلالة ما ذكر، ولم يؤمنوا له فلا يرجى منهم إيمان بعد ذلك.
والباء على هذا الوجه للسببية متعلقة بيؤمنون و{بَعد} هنا مستعارة لمعنى غير، لأن الظروف الدالة على المباعدة والمفارقة تستعمل استعمال المغاير قال تعالى: {فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23] وحمل {بعد} على حقيقتها هنا يحوج إلى تأويل، ويخرج الكلام عن سواء السبيل. اهـ.