فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {كأنك حفي} حال من ضمير المخاطب في قوله: {يسألونك} معترضة بين {يسألونك} ومتعلقه.
ويتعلق قوله: {عنها} على الوجهين بكل من {يسألونك} و{حفيّ} على نحو من التنازع في التعليق.
ويجوز أن يكون {حفيّ} مشتقًا من حَفي به، كرضي بمعنى بَالغ في الإكرام، فيكون مستعملًا في صريح معناه، والتقدير: كأنك حفي بهم أي مكرم لهم وملاطف فيكون تهكمًا بالمشركين، أي يظهرون لك أنك كذلك ليستنزلوك للخوض معهم في تعيين وقت الساعة، روي عن ابن عباس: كأنك صديق لهم، وقال قتادة: قالت قريش لمحمد: إن بيننا قرابة فأسِرَّ إليْنا متى الساعة فقال الله تعالى: {يسألونك كأنك حَفي عنها} وعلى هذا الوجه يتعلق {عنها} بـ {يسألونك} وحذف متعلق {حفي} لظهوره.
وبهذا تعلم أن تأخير {عنها} للإيفاء بهذه الاعتبارات.
وفي الآية إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتعلق همته بتعيين وقت الساعة، إذ لا فائدة له في ذلك، ولأنه لو اهتم بذلك لكان في اهتمامه تطلبًا لإبطال الحكمة في إخفائها، وفي هذا إشارة إلى أن انتفاء علمه بوقتها لا ينافي كرامته على الله تعالى بأن الله أعطاه كمالًا نفسيًا يصرفه عن تطلب ذلك، ولو تطلبه لأعْلمه الله به، كما صرف موسى عليه السلام عن الاستمرار على كراهة الموت حين حل أجله كيلا ينزع روحه وهو كاره، وهذه سرائر عالية بين الله وبين الصالحين من عباده.
وأكدت جملة الجواب الأولى بقوله: {قل إنما علمها عند الله} تأكيدًا لمعناها ليعلم أن ذلك الجواب لا يرجى غيره وأن الحصر المشتمل عليه قوله: {إنما علمها عند ربي} حصر حقيقي ثم عطف على جملة الجواب استدراك عن الحصر في قوله: {قل إنما علمها عند الله} تأكيدًا لكونه حصرًا حقيقيًا، وإبطالًا لظن الذين يحسبون أن شأن الرسل أن يكونوا عالمين بكل مجهول، ومن ذلك وقت الساعة بالنسبة إلى أوقاتهم يستطيعون إعلام الناس فيستدلون بعدم علم الساعة على عدم صدق مدعي الرسالة، وهذا الاعتقاد ضلالة ملازمة للعقول الأفنة، فإنها تتوهم الحقائق على غيْر ما هي عليه، وتوقن بما يخيل إليها، وتجعله أصولًا تبني عليها معارفها ومعاملاتها، وتجعلها حَكمًا في الأمور إثباتًا ونفيًا، وهذا فرط ضلالة، وإنه لَضغْث على إبَالة بتشديد الباء وتخفيفها، وقد حكي التاريخ القديم شاهدًا مما قلناه وهو ما جاء في سفر دانيال من كتب الأنبياء الملحقة بالتوراة أن بُخْتَنَصَّر ملك بابل رأى رؤيا أزعجته وتطلب تعبيرها، فجمع العرافين والمنجمين والسحرة وأمرهم أن يخبروه بصورة ما رآه في حلمه من دون أن يحكيه لهم، فلما أجابوه بأن هذا ليس في طاقة أحد من البشر ولا يطلع على ما في ضمير الملك إلاّ الآلهة، غضب، واغتاظ، وأمر بقتلهم، وأنه أحضر دانيال النبي وكان من جملة أسرى بني إسرائيل في بابل وهدده بالقتل إن لم ينبئه بصورة رؤياه، ثم بتعبيرها، وأن دانيال استنظره مدة، وأنه التجأ إلى الله بالدعاء هو وأصحابه عزريا وميشاييل وحننيا فدعوا الله لينقذ دانيال من القتل، وأن الله أوحى إلى دانيال بصورة ما رءاه الملك فأخبر دانيالُ الملكَ بذلك، ثم عبر له، فنال حظوة لديه انظر الإصحاح الثاني من سفر دانيال. اهـ.

.قال الشعراوي:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}.
والمسئول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسائل إما هم اليهود الذين سألوه عن الساعة، وعن الروح، وعن ذي القرنين، فكان الجواب منه مطابقًا لما عندهم في التوارة لأنهم ظنوا أن الكلام الذي يقوله محمد إنما يأتي منه جزافًا بدون ضابط وليس من رب يُنْزلُه. فلما أجاب بما عندهم في التوراة، علموا أنه لا يقول الكلام من عنده، ولذلك سألوه أيضًا عن أهل الكهف وما حدث لهم، وكانوا جماعة في الزمن الماضي، واتفقوا معه على كل شيء حدث لأهل الكهف إلا على الزمن فنزل القرآن يحدد هذا الزمن بقوله سبحانه: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا} [الكهف: 25].
فقال اليهود: الثلاثمائة سنة نعرفها، أما التسعة فلا نعرفها، وما علموا أن الحق سبحانه وتعالى يؤرخ لتاريخ الكون بأدق حسابات الكون لأن ربنا هو القائل: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ الله...} [التوبة: 36].
إذن التوقيتات كلها حسب التوقيت العربي، ونعلم أن الذين يريدون أن يحكموا التاريخ حكمًا دقيقًا فهم يؤرخون له بالهلال، والمثال أن كل عَالَم البحار تكون الحسابات المائية فيها كلها بالهلال، لأنه أدق، وأيضًا فالهلال آية تعلمنا متى يبدأ الشهر، ولا نعرف من الشمس متى يبدأ الشهر؛ لأن الشمس دلالة يومية تدل على النهار والليل، بينما القمر دلالة شهرية، ومجموع الاثنى عشر هو الدلالة السنوية. لكنهم لم يفطنوا إلى هذه، وأخذوا على الثلاثمائة سنة بالحساب الشمسي، وأضاف الحق: {وازدادوا تِسْعًا} لأنك إن حسبت الثلاثمائة سنة الشمسية بحساب السنة القمرية تزداد تسع سنين.
ومادة السؤال في القرآن ظاهرة صحية في الإيمان؛ لأن الإيمان إنما جاء ليحكم حركة الحياة ب افعل ولا تفعل، وساعة يقول الشرع: افعل، ففي ظاهر هذا الفعل مشقة، وساعة يقول: لا تفعل ففي ظاهر هذا الطلب أنه سهل ومرغوب، والمنع عنه يناقض شهوات النفس. وللتأكد من أن الأسئلة ظاهره صحية من المؤمنين نجد أسئلة كثيرة موجهة لرسول الله من أمته، حكاها القرآن بصور متعددة، ورد السؤال مرة بفعل مضارع مثل قوله: {ويَسْأَلُونَكَ}؛ ومرة ورد بصورة فعل ماض {وإذا سألك}. وكثيرًا ما جاء السؤال بهيئة المضارع {يَسْأَلُونَكَ}، لأن المضارع يكون للحال وللاستقبال.
وجاءت الأسئلة بالقرآن في صيغة المضارع خمس عشرة مرة، وجاءت بصيغة الماضي مرة واحدة. وإن نظرت إلى الخمس عشرة مرة تجد كل مرة مِنْها جاءت لتبين حكمًا. وإذا نظرنا إلى مادة الفعل يسأل في القرآن وبترتيب المصحف، نجد القرآن يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ...} [البقرة: 189].
ويقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين...} [البقرة: 215].
ويقول الحق تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل...} [البقرة: 217].
ويقول سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...} [البقرة: 219].
ومرة أخرى يقول في ذات الآية السابقة: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو...}.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ...} [البقرة: 220].
ويقول عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء فِي المحيض...} [البقرة: 222].
ويقول الحق تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات}.
وبعد ذلك في سورة الأعراف يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي...} [الأعراف: 187].
وأيضًا يقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا...} [الأعراف: 187].
ثم يقول الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول...} [الأنفال: 1].
ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي...} [الإسراء: 85].
ويقول المولى سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83].
ويقول الحق: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105].
ويختم هذه الأسئلة بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 42- 43].
تلك هي خمس عشرة آية جاء فيها الحق بقوله: {يَسْأَلُونَكَ}، وآية واحدة يقول فيها الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ...} [البقرة: 186].
والآيات الخمس عشرة التي جاء فيها الحق بصيغة المضارع {يَسْأَلُونَكَ} نجد كل جواب فيها مُصدرا ب {قل} وهو أمر للرسول: قل كذا، قل كذا، ولكن في الآية الواحدة التي جاء فيها الفعل الماضي {وَإِذَا سَأَلَكَ}، لم يقل: فقل إني قريب، بل قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع}، لأن الله يعلم حب محمد لأمته، وحرصه عليهم ولذلك يقول: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
ويقول سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6].
ولذلك حين علم الحق علم وقوع: أن رسول الله مهتم بأمر أمته ومشغول بها وحريص على أن يشملها الله بمغفرته ورحمته وألا يسؤوه فيها، أخبره المولى عز وجل بأنه سوف يرضيه في أمته. وقد ورد في الحديث ما يؤيد ذلك، فقد روى عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم صلى الله عليه وسلم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقول عيسى صلى الله عليه وسلم: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فرفع يديه فقال: أمتي أمتي وبكى فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فَسَلْهُ ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».
وتأكيدًا لعلم الحق تبارك وتعالى من حرص رسوله على أمته، أراد أن يكرم هذه الأمة من نوع ما كرّم به الرسول، فجاء الخطاب في آية الدعاء بدون قل. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ...} [البقرة: 186].
وأراد الله أن يبين لمحمد ولأمته أن الله يعلم لا بما تسألونه فقط، بل يعلم ما سوف تسألونه عنه. لذلك نجد أربع عشرة آية تأتي فيها {يَسْأَلُونَكَ} وتكون الإجابة قل، والآية الخامسة عشرة جاء فيها {يَسْأَلُونَكَ} وكانت الإجابة فقل لتدل على الفاء على أن السؤال لم يقع بعد، فكأن الفاء دلت على شرط مقدر هو: إن سألوك فقل ينسفها ربي نسفًا، وهنا يقول الحق سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
و{يجٌليها} أي يُظهرها، وهناك ما يسمى الجلوة وما يسمى الخلوة، والجلوة أن يظهر الإنسان للناس، والخلوة أن يختلي عن الناس، و{لا يجليها} أي لا يظهرها، و{لوقتها} ترى أنها مسبوقة باللام، ويسمونها في اللغة العربية لام التوقيت، مثلما يقول الحق سبحانه: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس...} [الإسراء: 78].
وهي بمعنى عند، ومعنى دلوك الشمس، أنها تتجاوز نصف السماء، وتميل إلى المغرب قليلًا. وقوله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} أي لا يُبَيّنُها عند وقتها إلا هو سبحانه وتعالى. {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}.
والثقل يعني أن تكون كتلة الشيء أكبر من الطاقة التي تحمله؛ لأن الكتلة إن تساوت مع الطاقة فهي لا تثقل على الحمل.
أو أن الطاقة التي تحمل لم تقدر على جاذبية الأرض؛ فيكون الشيء ثقيلًا، وقد يكون هذا الثقل أمْرًا ماديا، كما يحمل الإنسان- مثلًا- على ظهره أردبًا من القمح فيقدر على حمله، لكنه إن زاده إلى أردب ونصف، فالحمل يكون ثقيلًا على ظهره لأن طاقته لا تتحمل مثل هذا الوزن فينخ به. {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض}.
والثقل لا يكون ماديًا فقط، بل هو فكري وعقلي أيضًا، مثال ذلك حين يقوم الطالب بحل هندسي أو تمرين في مادة الجبر، فالطالب يشعر أحيانًا أن مثل هذا التمرين ثقيل على فكره، وصعب الحل في بعض الأحيان.