فصل: قال صاحب المنار في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيتين:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}.
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهَا إِرْشَادٌ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ السَّاعَةِ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا أَجْلُ جَمِيعِ النَّاسِ، فِي أَثَرِ الْإِرْشَادِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي اقْتِرَابِ أَجَلِ مَنْ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ وَعَهْدِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُمْ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا كَلَامٌ فِي السَّاعَةِ الْعَامَّةِ، وَبَعْدَ الْكَلَامِ فِي السَّاعَةِ الْخَاصَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} السَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ جُزْءٌ قَلِيلٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَتُسَمَّى سَاعَةٌ زَمَانِيَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} (7: 34) وَفِي اصْطِلَاح الْفَلَكِيِّينَ جُزْءٌ مِنْ 24 جُزْءًا مُتَسَاوِيَةً مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى سِتِّينَ دَقِيقَةً، وَالدَّقِيقَةُ إِلَى سِتِّينَ ثَانِيَةً، وَقَدْ صَارَ هَذَا التَّقْسِيمُ عُرْفًا عَامًّا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الْحَضَرِيَّةِ يُضْبَطُ بِآلَةٍ تُسَمَّى السَّاعَةُ، وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً» يَعْنِي نَهَارَهَا.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: السَّاعَةُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْجَمِيعُ سَاعَاتٌ وَسَاعٌ، وَجَاءَنَا بَعْدَ سَوْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَبَعْدَ سَوَاعٍ. أَيْ بَعْدَ هَدْءٍ مِنْهُ- أَوْ بَعْدَ سَاعَةٍ. وَالسَّاعَةُ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} (30: 55) يَعْنِي بِالسَّاعَةِ الْوَقْتَ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ، فَلِذَلِكَ تَرَكَ أَنْ يُعَرِّفَ أَيَّ سَاعَةٍ هِيَ. فَإِنْ سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ سَاعَةً فَعَلَى هَذَا، وَالسَّاعَةُ الْقِيَامَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اسْمٌ لِلْوَقْتِ الَّذِي يُصْعَقُ فِيهِ الْعِبَادُ، وَالْوَقْتُ الَّذِي يُبْعَثُونَ فِيهِ وَتَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ، سُمِّيَتْ سَاعَةً؛ لِأَنَّهَا تَفْجَأُ النَّاسَ فِي سَاعَةٍ فَيَمُوتُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِنْدَ الصَّيْحَةِ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} (36: 29) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَأَنَّهَا تُطْلَقُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَيَنِ، وَهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا مِنَ السَّاعَةِ الزَّمَانِيَّةِ وَالسَّاعَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَقَالَ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ: يُقَالُ جَلَسْتُ عِنْدَكَ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ أَيْ وَقْتًا قَلِيلًا مِنْهُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِاسْمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى السَّاعَةِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ: الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ- يُرِيدُ أَنَّهَا سَاعَةُ خَفِيفَةٌ يَحْدُثُ فِيهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَلِقِلَّةِ الْوَقْتِ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ سَمَّاهَا سَاعَةً. اهـ.
أَقُولُ: الصَّوَابُ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْقُرْآنِ مُنَكَّرَةً بِمَعْنَى السَّاعَةِ الزَّمَانِيَّةِ، وَمُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْعَهْدِيَّةِ بِمَعْنَى السَّاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ سَاعَةُ خَرَابِ هَذَا الْعَالَمِ، وَمَوْتِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَمَعَ بَيْنِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (30: 55) وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالسَّاعَةِ.
وَالْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ عَنْ يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْحِسَابُ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ- وَالتَّعْبِيرُ بِالسَّاعَةِ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْأَحْيَاءُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَيَضْطَرِبُ نِظَامُهُ وَيَخْرَبُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالسَّاعَةُ هِيَ الْمَبْدَأُ، وَالْقِيَامَةُ هِيَ الْغَايَةُ، فَفِي الْأُولَى الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ. وَبَعْضُ التَّعْبِيرَاتِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ حُلُولُهُ مَحَلَّ الْآخَرِ فِي الْغَالِبِ، وَفِي الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يَعُمُّ الْمَبْدَأَ وَالْغَايَةَ. وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَاتِ عَلَى الْقِيَامَةِ الصُّغْرَى لِكُلِّ فَرْدٍ وَهِيَ سَاعَةُ مَوْتِهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمُ الْقِيَامَةَ الْوُسْطَى، وَهِيَ هَلَاكُ الْجِيلِ أَوِ الْقَرْنِ، وَفَسَّرُوا بِهِ حَدِيثَ: «إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ يُرَادُ بِالسَّاعَةِ هُنَا سَاعَةُ زَوَالِ الدَّوْلَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ شُئُونِهَا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِحَدِيثِ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ صَحِيحٍ مُسْلِمٍ: كَانَ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّاعَةِ فَنَظَرَ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فَقَالَ: «إِنَّ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهِرَمُ قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ» وَمِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَهُ أَيْضًا وَهُوَ أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِإِضَافَةِ السَّاعَةِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الدَّاوُودِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: لَا أَدْرِي- ابْتِدَاءً مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَفَاءِ، وَقَبْلَ تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ- لَارْتَابُوا، فَعَدَلَ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَنْقَرِضُونَ هُمْ فِيهِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ دَعُوا السُّؤَالَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى فَإِنَّهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ، وَاسْأَلُوا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ انْقِرَاضُ عَصْرِكُمْ فَهُوَ أَوْلَى لَكُمْ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَكُمْ تَبْعَثُكُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ فَوْتِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَنِ الَّذِي يَسْبِقُ الْآخَرَ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَكَلَّمُ بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ دَلِيلٌ مَعْمُولٌ بِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فِي قُرْبِ السَّاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (16: 1) وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} (16: 77) حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى مُضِيِّ قَرْنٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الدَّجَّالِ «إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ» فَجَوَّزَ خُرُوجَ الدَّجَّالِ فِي حَيَاتِهِ. قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ- وَذُكِرَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الدَّاوُودِيِّ، وَرَجَّحَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ.
وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ السَّاعَةِ فِيهِ بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} (6: 31) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (6: 40)؟ وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ.
وَحَيْثُ يُذْكَرُ قِيَامُ السَّاعَةِ كَآيَاتِ سُورَةِ الرُّومِ الثَّلَاثِ (12 و14 و55) وَآيَةِ سُورَةِ غَافِرٍ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (40: 46) فَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ غَايَتُهَا يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ- وَحَيْثُ يُذْكَرُ التَّكْذِيبُ بِهَا أَوِ الْمُمَارَاةُ فِيهَا، فَالْمُرَادُ الْمَعْنَى الْعَامُّ لِكُلِّ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ وَأَوْعَدَ مِنْ أَمْرِ مُبْئِسِهَا وَغَايَتِهَا.
وَحَيْثُ يُذْكَرُ اقْتِرَابُ السَّاعَةِ أَوْ مَجِيئُهَا وَإِثْبَاتُهَا وَلاسيما إِذَا قُرِنَ بِبَغْتَةٍ، فَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ مَبْدَأُ الْقِيَامَةِ وَخَرَابُ الْعَالَمِ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ السُّؤَالُ عَنْهَا فَإِنَّ السُّؤَالَ يَكُونُ عَنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ الْمُنْتَظَرِ فِي الْغَالِبِ، وَمِنْهُ آيَةُ الْأَعْرَافِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} مَعْنَاهُ يَسْأَلُونَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَنِ السَّاعَةِ قَائِلِينَ: أَيَّانَ مُرْسَاهَا؟ أَيْ مَتَى إِرْسَاؤُهَا وَحُصُولُهَا وَاسْتِقْرَارُهَا- أَوْ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا مِنْ حَيْثُ زَمَنِ مَجِيئِهَا وَثُبُوتِهَا بِالْوُقُوعِ وَالْحُصُولِ... فَأَيَّانَ ظَرْفُ زَمَانٍ، وَمُرْسَاهَا، مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ إِرْسَاؤُهَا، يُقَالُ: رَسَا الشَّيْءُ يَرْسُو: ثَبَتَ، وَأَرْسَاهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ إِرْسَاءُ السَّفِينَةِ وَإِيقَافُهَا بِالْمِرْسَاةِ الَّتِي تُلْقَى فِي الْبَحْرِ فَتَمْنَعُهَا مِنَ الْجَرَيَانِ، قَالَ تَعَالَى: {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (11: 41) وَقَالَ: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} (79: 32).
وَفِي السُّؤَالِ عَنْ زَمَنِ وُقُوعِهَا بِحَرْفِ الْإِرْسَاءِ الدَّالِّ عَلَى اسْتِقْرَارِ مَا شَأْنُهُ الْحَرَكَةُ وَالْجَرَيَانُ أَوِ الْمَيَدَانُ وَالِاضْطِرَابُ- نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ هِيَ فِي أَعْلَى دَرَجِ الْبَلَاغَةِ. وَهُوَ أَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِهَاءِ أَمْرِ هَذَا الْعَالَمِ، وَانْقِضَاءِ عُمْرِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي تَدُورُ بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْعَوَالِمِ الْمُتَحَرِّكَةِ الْمُضْطَرِبَةِ، فَعَبَّرَ بِإِرْسَائِهَا عَنْ مُنْتَهَى أَمْرِهَا وَوُقُوفِ سَيْرِهَا، وَالسَّاعَةُ زَمَنٌ، وَهُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ، لَا جِسْمٌ سَائِرٌ أَوْ مُسَيَّرٌ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ فَهُوَ حَرَكَةُ اضْطِرَابٍ وَزِلْزَالٍ، لَا رُسُوٌّ وَلَا إِرْسَاءٌ، وَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ لَا حَاصِلٌ، وَمُتَوَقَّعٌ لَا وَاقِعٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} (52: 7، 8) مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَيَقَعُ حَتْمًا؛ وَلِذَلِكَ عَلَّقَ بِهِ بَيَانَ مَا يَقَعُ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (152: 9- 11) فَلَمْ يَبْقَ لِإِرْسَائِهَا مَعْنًى إِلَّا إِرْسَاءَ حَرَكَةِ هَذَا الْعَالَمِ فِيهَا، وَإِنَّهُ لَتَعْبِيرٌ بَلِيغٌ، لَمْ يُعْهَدْ لَهُ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ نَظِيرٌ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا نَبَّهَ لِهَذَا. وَذِكْرُ السَّاعَةِ أَوَّلًا، وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ زَمَنِ وُقُوعِهَا ثَانِيًا عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ.
قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّائِلِينَ هُنَا الْيَهُودُ، سَأَلُوهُ عَنْهَا امْتِحَانًا. قَالُوا: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَإِنَّهُ لَا يُعَيِّنُ لَهَا زَمَنًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ، وَقِيلَ: قُرَيْشٌ. وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَكَّةَ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَصِيغَةُ {يَسْأَلُونَكَ} الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا الْحَالُ لَا الِاسْتِقْبَالُ الْبَعِيدُ، وَفِي آيَةِ الْأَحْزَابِ: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} (33: 63) وَهَذِهِ مَدَنِيَّةٌ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ تَرْجِيحِ كَوْنِ السَّائِلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: وَكَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِهَا، وَتَكْذِيبًا بِوُجُودِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (10: 48) وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (42: 18) وَقَوْلُهُ: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُنْتَهَاهَا. أَيْ مَتَى مَحَطُّهَا، وَأَيَّانَ آخِرُ مُدَّةِ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ السَّاعَةِ اهـ.
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} قُلْ أَيُّهَا النَّذِيرُ: إِنَّ عِلْمَ السَّاعَةِ عِنْدَ رَبِّي وَحْدَهُ، لَيْسَ عِنْدِي وَلَا عِنْدَ غَيْرِي مِنَ الْخَلْقِ شَيْءٌ مِنْهُ- وَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ {إِنَّمَا} مِنَ الْحَصْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي فَسَّرَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَفَاتِحَ الْغَيْبِ: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} (31: 34) أَيْ عِنْدَهُ لَا عِنْدَ أَحَدٍ سِوَاهُ- وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} (41: 47) الْآيَةَ. أَيْ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَأَشْبَهُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِئْثَارِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِالسَّاعَةِ بِآيَةِ الْأَعْرَافِ آيَتَانِ: آيَةُ الْأَحْزَابِ (33: 63) وَذَكَرْنَاهَا آنِفًا- وَآيَةُ أَوَاخِرِ النَّازِعَاتِ وَمَا بَعْدَهَا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (79: 42- 46) أَيْ إِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ مِنْ دُونِكِ، وَدُونِ سَائِرِ خَلْقِهِ مُنْتَهَى أَمْرِ السَّاعَةِ الَّذِي يَسْأَلُونَكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَهَا، وَيَسْتَعِدُّونَ لَهَا لَا تَعْدُو وَظِيفَتُهُ الْإِنْذَارَ وَالتَّعْلِيمَ وَالْإِرْشَادَ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ كَآيَةِ الْأَعْرَافِ سُؤَالًا وَجَوَابًا، فَالسُّؤَالُ عَنِ السَّاعَةِ مِنْ حَيْثُ إِرْسَاؤُهَا وَمُنْتَهَى أَمْرِهَا، وَالْجَوَابُ رَدُّ ذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ رَسُولِهِ، فَمَا أَخْبَرَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّكِ مُنْتَهَاهَا} هُوَ مَا أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَ بِهِ فِي قَوْلِهِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِ الرَّبِّ، لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ، فَهُوَ تَعَالَى قَدْ رَبَّاهُ لِيَكُونَ مُنْذِرًا وَمُبَشِّرًا لَا لِلْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ بِأَعْيَانِهَا وَأَوْقَاتِهَا، وَالْإِنْذَارُ إِنَّمَا يُنَاطُ بِالْإِعْلَامِ بِالسَّاعَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَالنَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، وَلَا تَتِمُّ الْفَائِدَةُ مِنْهُ إِلَّا بِإِبْهَامِ وَقْتِهَا؛ لِيَخْشَى أَهْلُ كُلِّ زَمَنٍ إِتْيَانَهَا فِيهِ، وَالْإِعْلَامُ بِوَقْتِ إِتْيَانِهَا وَتَحْدِيدِ تَارِيخِهَا يُنَافِي هَذِهِ الْفَائِدَةَ بَلْ فِيهِ مَفَاسِدٌ أُخْرَى، فَلَوْ قَالَ الرَّسُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّ السَّاعَةَ تَأْتِي بَعْدَ أَلْفَيْ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا، مَثَلًا- وَأَلْفَا سَنَةٍ فِي تَارِيخِ الْعَالَمِ وَآلَافُ السِّنِينَ تُعَدُّ أَجَلًا قَرِيبًا- لَرَأَى الْمُكَذِّبِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَيُلِحُّونَ فِي تَكْذِيبِهِ، وَالْمُرْتَابِينَ يَزْدَادُونَ ارْتِيَابًا، حَتَّى إِذَا مَا قَرُبَ الْأَجَلُ وَقَعَ الْمُؤْمِنُونَ فِي رُعْبٍ عَظِيمٍ يُنَغِّصُ عَلَيْهِمْ حَيَاتَهُمْ، وَيُوقِعُ الشَّلَلَ فِي أَعْضَائِهِمْ، وَالتَّشَنُّجَ فِي أَعْصَابِهِمْ، حَتَّى لَا يَسْتَطِيعُونَ عَمَلًا وَلَا يَسِيغُونَ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ وَمَا يَمْلِكُهُ، مِنْ حَيْثُ يَكُونُ الْكَافِرُونَ آمِنِينَ، يَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي أُورُبَّةَ أَنْ أَخْبَرَ بَعْضُ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ كَانَ يُقَلِّدُهُمُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ فِي سَنَةِ كَذَا، فَهُلِعَتِ الْقُلُوبُ، وَاخْتَلَّتِ الْأَعْمَالُ، وَأُهْمِلَ أَمْرُ الْعِيَالِ، وَوَقَفَ الْمُصَدِّقُونَ مَا يَمْلِكُونَ عَلَى الْكَنَائِسِ وَالْأَدْيَارِ، وَلَمْ تَهْدَأِ الْأَنْفُسُ، وَيَثُبْ إِلَيْهَا رُشْدُهَا إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ كَذِبِ النَّبَأِ بِمَجِيءِ أَجَلِهِ دُونَ وُقُوعِهِ، فَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ إِذًا فِي إِبْهَامِ أَمْرِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ لِلْعَالَمِ، وَكَذَا السَّاعَةِ الْخَاصَّةِ بِأَفْرَادِ النَّاسِ، أَوْ بِالْأُمَمِ وَالْأَجْيَالِ، وَجَعْلِهَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ فِي إِيضَاحِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ حَصْرِ أَمْرِهَا فِي عِلْمِهِ:
لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ هَذَا جَوَابٌ عَنْ طَلَبِ مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ إِرْسَاؤُهَا فِيهِ، يُقَالُ: جَلَا لِي الْأَمْرُ وَانْجَلَى، وَجَلَّاهُ فَلَانٌ تَجْلِيَةً بِمَعْنَى: كَشَفَهُ وَأَظْهَرَهُ أَتَمَّ الْإِظْهَارِ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى وَقْتِهَا تُسَمَّى لَامُ التَّوْقِيتِ كَقَوْلِهِمْ: وَكُتِبَ هَذَا الْكِتَابُ لِغُرَّةِ الْمُحَرَّمِ أَوْ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ أَوْ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يُكْشَفُ حِجَابُ الْخَفَاءِ عَنْهَا، وَلَا يُظْهِرُهَا فِي وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ عِنْدَ الرَّبِّ تَعَالَى إِلَّا هُوَ، فَلَا وَسَاطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي إِظْهَارِهَا، وَلَا الْإِعْلَامِ بِمِيقَاتِهَا، وَإِنَّمَا وَسَاطَةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْإِنْذَارِ بِهَا.
وَقَفَّى عَلَى هَذَا الْإِيئَاسِ مِنْ عِلْمِ أَمْرِهَا، وَالْإِنْبَاءِ بِوَقْتِ وُقُوعِهَا بِقَوْلِهِ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا وَسِرِّ إِخْفَاءِ وَقْتِهَا: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: ثَقُلَ وَقْعُهَا وَعَظُمَ أَمْرُهَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى نَبَّأَهُمْ بِأَهْوَالِهَا، وَلَمْ يُشْعِرْهُمْ بِمِيقَاتِهَا، فَهُمْ يَتَوَقَّعُونَ أَمْرًا عَظِيمًا لَا يَدْرُونَ مَتَّى يَفْجَؤُهُمْ وُقُوعُهُ.