فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والضمير المنصوب من تغشاها للزوج وهو بمعنى الزوجة مؤنث، والتغشي كناية عن الجماع أي فلما جامعها {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} أي محمولًا خفيفًا وهو الجنين عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة فإنه لا ثقل فيه بالنسبة إلى ما بعد ذلك من الأطوار، فنصب حملا على أنه مفعول به وهو بفتح الحاء ما كان في بطن أو على شجر وبالكسر خلافه.
وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح.
وجوز أن يكون هنا مصدرًا منصوبًا على أنه مفعول مطلق، وأن يراد بالخفة عدم التأذي أي حملت حملًا خف عليها ولم تلق منه ما تلقي بعض الحوامل من حملهن من الكرب والأذية {فَمَرَّتْ بِهِ} أي استمرت به كما قرأ به ابن عباس والضحاك.
والمراد بقيت به كما كانت قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت وهو معنى لا غبار فيه.
والقول بأنه من القلب أي فاستمر بها حملها من القلب عند النقاد، وقرأ أبو العالية وغيره {مرت} بالتخفيف فقيل: إنه مخفف مرت كما يقال: ظلت في ظللت، وقيل: هو من المرية أي الشك أي شكت في أمر حملها.
وقرأ ابن عمر والجحدري {فمارت} من ماريمور إذا جاء وذهب فهي بمعنى قراءة الجمهور أو هي من المرية كقراءة أبي العالية ووزنه فاعلت وحذفت لامه للساكنين {بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت} أي صارت ذات ثقل بكبر الحمل في بطنها فالهمزة فيه للصيرورة كقولهم أتمر وألبن أي صار ذا تمر ولبن، وقيل: إنها للدخول في زمان الفعل أي دخلت في زمان الثقل كاصبح دخل في الصباح والأول أظهر، والمتبادر من الثقل معناه الحقيقي، والتقابل بينه وبين المعنى الأول للخفة ظاهر، وقد يراد به الكرب ليقابل الخفة بالمعنى الثاني لكن المتبادر في الموضعين المعنى الحقيق، وقرئ {أَثْقَلَت} بالبناء للمفعول والهمزة للتعدية أي أثقلها حملها {دَّعَوَا الله} أي آدم وحواء عليهما السلام لما خاقا عاقبة الأمر فاهتما به وتضرعا إليه عز وجل: {رَبُّهُمَا} أي مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء.
وفي هذا إشارة إلى أنهما قد صدرا به دعاءهما وهو المعنود منهما في الدعاء، ومتعلق الدعاء محذوف لإيذان الجملة القسمية به، أي دعواه تعالى أن يؤتيهما صالحًا وعدًا بمقابلته الشكر على سبيل التوكيد القسمي وقالا أو قائلين {لَئِنْ ءاتَيْنَا صالحا} أي نسلًا من جنسنا سويًا، وقيل: ولدًا سليمًا من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء ونحو ذلك وعليه جماعة.
وعن الحسن غلامًا ذكرًا وهو خلاف الظاهر {لَنَكُونَنَّ} نحن أو نحن ونسلنا {مِنَ الشاكرين} الراسخين في الشكر لك على إيتائك.
وقيل: على نعمائك التي من جملتها هذه النعمة.
وجوز أن يكون ضمير آتيتنا لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما وليس بذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.
جملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا، عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التوحيد وإبطال الشرك من الذي سلف ذكره في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظُهورهم ذرياتهم} [الأعراف: 172] الآية، وليست من القول المأمور به في قوله: {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا} [الأعراف: 188] لأن ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرسالة وعلْم الرسول بالغيب، وقد تم ذلك، فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلامًا موجهًا من الله تعالى إلى المشركين لإقامة الحجة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم.
ومناسبة الانتقالَ جريان ذكر اسم الله في قوله: {إلاّ ما شاء الله} [الأعراف: 188] وضمير الخطاب في {خلقكم} للمشركين من العرب، لأنهم المقصود من هذه الحجج والتذكير، وإن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر، وقد صدر ذلك بالتذكير بنعمة خلق النوع المبتدأ بخلق أصله وهو ءادم وزوجه حواء تمهيدًا للمقصود.
وتعليق الفعل باسم الجمع، في مثله، في الاستعمال يقع على وجهين: أحدهما: أن يكون المراد الكل المجموعي، أي جملة ما يصدق عليه الضمير، أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة فتكون النفس هي نفسَ آدم الذي تولد منه جميع البشر.
وثانيهما: أن يكون المراد الكل الجميعي أي خَلق كل أحد منكم من نفس واحدة، فتكون النفس هي الأب، أي أبو كل واحد من المخاطبين على نحو قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} [الحجرات: 13] وقوله: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39].
ولفظ {نفس واحدة} وحْدَه يحتمل المعنيين، لأن في كلا الخلقين امتنانًا، وفي كليهما اعتبارًا واتعاضًا.
وقد جعل كثير من المفسرين النفسَ الواحدة آدم وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد، وهو المأثور عن الحسن، وقتادة، ومشى عليه الفخر، والبيضاوي وابنُ كثير، والأصم، وابن المنير، والجبائي.
ووصفت النفس بواحدة على أسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة، لأن كونها واحدة أدعى للاعتبار إذ ينسل من الواحدة أبناء كثيرون حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة أو أمّة، ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم حيث بثه من نفس واحدة رجالًا كثيرًا ونساء، وقد تقدم القول في ذلك في طالعة سورة النساء.
والذي يظهر لي أن في الكلام استخدامًا في ضميري {تغشاها} وما بعده إلى قوله: {فيما آتاهما} وبهذا يجمع تفسير الآية بين كلا الرأيين.
و{من} في قوله: {من نفس واحدة} ابتدائية.
وعبر في جانب الأنثى بفعل جعل، لأن المقصود جعل الأنثى زوجًا للذكر، لا الإخبارُ عن كون الله خلقها، لأن ذلك قد علم من قوله: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة}.
ومن في قوله: {وجعل منها} للتبعيض، والمراد: من نوعها، وقوله: {منها} صفة ل {زوجها} قدمت على الموصوف للاهتمام بالامتنان بأن جعل الزوج وهو الأنثى من نوع ذكرها وهذه الحكمة مطردة في كل زوجين من الحيوان.
وقوله: {ليسكن إليها} تعليل لما أفادته من التبعيضية.
والسكون مجاز في الاطمئنان والتأنس أي: جعل من نوع الرجل زوجه ليألفها ولا يجفو قربها، ففي ذلك منة الإيناس بها، وكثرة ممارستها لينساق إلى غشيانها، فلو جعل الله التناسل حاصلًا بغير داعي الشهوة لكانت نفس الرجل غير حريصة على الاستكثار من نسله، ولو جعله حاصلًا بحالة ألم لكانت نفس الرجل مقلة منه، بحيث لا تنصرف إليه إلاّ للاضطرار بعد التأمل والتردد، كما ينصرف إلى شرب الدواء ونحوه المعقبة منافع، وفُرع عنه بفاء التعقيب ما يحدث عن بعض سكون الزوج إلى زوجه وهو الغشيان.
وصيغت هذه الكنابة بالفعل الدال على التكلف لإفادة قوة التمكن من ذلك لأن التكلف يقتضي الرغبة.
وذُكِّر الضمير المرفوع في فعلي {يَسْكُنَ} وتغشى: باعتبار كون ما صْدق المعاد، وهو النفس الواحدة، ذكرًا، وأنّث الضمير المنصوب في {تغشاها}، والمرفوع في {حَملتْ}.
و{مرتْ}: باعتبار كون ما صْدق المعاد وهو زوجها أنثى، وهو عكس بديع في نقل ترتيب الضمائر.
ووُصف الحمل بـ {خفيفًا} إدماج ثان، وهو حكاية للواقع، فإن الحمل في مبدئه لا تجد منه الحامل ألمًا، وليس المراد هنا حملًا خاصًّا، ولكنه الخبر عن كل حمل في أوله، لأن المراد بالزوجين جنسهما، فهذه حكاية حالة تحصل منها عبرة أخرى، وهي عبرة تطور الحمل كيف يبتدىء خفيفًا كالعدم، ثم يتزايد رويدًا رويدًا حتى يثقل، وفي الموطأ قال: مالك وكذلك أي كالمريض غير المخوف والمريض المخوف: الحامل في أول حملها بشر وسرور وليس بمرض ولا خوف، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه {فبشرّناها بإسحاق} [هود: 71] وقال: {حَملت حمْلًا خفيفًا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتينا صالحًا لنكونن من الشاكرين}.
وحقيقة المرور: الاجتياز، ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء كقوله تعالى: {فلما كشفْنا عنه ضُره مر كأنْ لم يَدْعُنا إلى ضرَ مسّه} [يونس: 72] أي: نسى دعاءنا، وأعرض عن شكرنا لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله، وقوله: {وإذا مروا باللغو مروا كرامًا} [الفرقان: 72].
وقال تعالى: {وكأيّنْ من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها مُعرضون} [يوسف: 105].
فمعنى {فمرت به} لم تتفطن له، ولم تفكر في شأنه، وكل هذا حكاية للواقع، وهو إدماج.
والإثْقاللِ ثَقل الحمل وكلفته، يقال أثقلت الحامل فهي مُثقل وأثقل المريض فهو مُثقل، والهمزة للصيرورة مثل أوْرَقَ الشجر، فهو كما يقال أقْرَبت الحامل فهي مُقْرب إذا أقرب أبان وضعها.
وقد سلك في وصف تكوين النسل مسلك الإطناب: لما فيه من التذكير بتلك الأطوار، الدالة على دقيق حكمة الله وقدرته، وبلطفه بالإنسان.
وظاهر قوله: {دَعَوَا الله ربهما} أن كل أبوين يَدعوان بذلك، فإن حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبواب مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح، سواء نطقًا بذلك أم أضمراه في نفوسهما، فإن مدة الحمل طويلة، لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها، وإنما يكون التمني منهم على الله، فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية، وبأنه هو خالق المخلوقات ومُكونها، ولا حظ للآلهة إلاّ في التصرفات في أحوال المخلوقات، كما دلت علبه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى: {قل هل من شركائكم من يَبْدَؤا الخلق ثم يعيده} [يونس: 34] وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} في الأنعام (1).
وإن حمل {دَعوا} على غير ظاهره فتأويله أنه مخصوص ببعض الأزواج الذين يخطر بيبالهم الدعاء.
وإجراء صفة {ربهما} المؤذنة بالرفق والإيجاد: للإشارة إلى استحضار الأبوين هذا الوصف عند دعائهما الله، أي يَذكرَ أنه باللفظ أو ما يفيد مفاده، ولعل العرب كانوا إذا دعوا بصلاح الحمل قالوا: ربنا آتنا صالحًا.
وجملة: {لئن آتيتنا صالحًا} مبيّنة لجملة {دَعَوَا الله}.
و{صالحًا} وصف جرى على موصوف محذوف، وظاهر التذكير أن المحذوف تقديره: ذكرًا وكان العرب يرغبون في ولادة الذكور وقال تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} [النحل: 57] أي الذكور.
فالدعاء بأن يؤتَيا ذكرًا، وأن يكون صالحًا، أي نافعًا: لأنهم لا يعرفون الصلاح الحق، ويَنذران: لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.
قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} المقصود بها آدم، وقول الحق: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} المقصود بها حواء، ونلحظ في الأداء في هذه الآية أن الضمير عائد إلى مؤنث. {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
ثم جاء بالتذكير في قوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.
إذن فصل الذكورة عن الأنوثة جاء عند {لِيَسْكُنَ}. فكأن الكلام في النفس معنىٌّ به جنس بني آدم وهو الذي نسميه الإنسان ومنه ذكورة ومنه أنوثة، ولذلك فسبحانه حينما يتكلم عن الذكورة كذكورة، والأنوثة كأنوثة، يأتي بضمير المذكر، أو بضمير المؤنث، وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.
لأنه يريد أن يوضح أن المرأة جُعلَت للرجل سكنًا، لا يقال: إنها له سكن إلا إذا كان هو متحركًا، كأن الحركة والكدح في الحياة للرجل، ثم يستريح مع المرأة ويسكن إليها بالحنان، بالعطف، بالرقة. أما إن لم تكن سكنًا فهو يخرج من البيت لأن ذلك أفضل له. وقول الحق تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.