فصل: من فوائد المراغي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد المراغي في الآيات السابقة:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ}.

.تفسير المفردات:

من نفس واحدة: أي من جنس واحد، ليسكن إليها: أي ليأنس بها ويطمئن إليها، وتغشاها: أتاها كغشيها ويراد بالتغشى أداء وظيفة الزوجية، ومقتضى الفطرة وآداب الدين أن يكون ذلك في السر، حملت: أي علقت منه، والجمل بِالْفَتْحِ ما كان في بطن أو على شجرة وبالكسر ما كان على ظهر ونحوه، فمرت به: أي استمرت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق، واستمرت في أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استثقال، وأثقلت: أي حان وقت ثقل حملها وقرب وضعها، صالحا. أي نسلا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء، فتعالى اللّه: أي ارتفع مجده وتعالى جده وتنزه عن شرك هؤلاء الجهلاء.

.المعنى الإجمالي:

بعد أن افتتح عزت قدرته السورة بالدعوة إلى التوحيد واتباع ما أنزل على لسان رسوله وتلاه بالتذكير بنشأة الإنسان الأولى في الخلق والتكوين والعداوة بينه وبين الشيطان.
اختتم السورة بهذه المعاني، فذكر بالنشأة الأولى، ونهى عن الشرك واتباع وسوسة الشيطان، وأمر بالتوحيد واتباع ما جاء به القرآن.

.الإيضاح:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها} أي هو الذي خلقكم من جنس واحد وجعل زوجه من جنسه فكانا زوجين ذكرا وأنثى كما قال في آية أخرى {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى}.
وهكذا خلق من كل الأنواع ومن كل أجناس الأحياء زوجين اثنين كما قال عز من قائل: {ومِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
والمشاهد أن كل خلية من الخلايا التي ينمو بها الجسم الحي تنطوى على نواتين ذكر وأنثى إذا اقترنتا ولدتا خلية أخرى وهلم جرا.
وفى التوراة إن حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم، وعليه حمل بعض العلماء الحديث: «استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، قاستوصوا بالنساء خيرا» رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا.
ولكن المحققين ذهبوا في تفسيره إلى أن المراد أنها ذات اعوجاج وشذوذ تخالف به الرجل، ويؤيده مارواه ابن حبّان عن أبي هريرة «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج» فهو على حد قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ}.
وفى التعبير عن ميل الزوج الجنسي إلى زوجه هنا وفى الروم بالسكون، إشارة إلى أن المرء متى بلغ سن الحياة الزوجية يجد في نفسه اضطرابا لا يسكن إلا إذا اقترن بزوج من جنسه واتحد ذلك الاتحاد الذي لا تكمل حياتهما الجنسية المنتجة إلا به.
{فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} أي فلما تغشى الذكر الأنثى علقت منه وكان الحمل أول عهده خفيفا لا تكاد تشعر به، وقد تستدل على وجوده بارتفاع الحيض فحسب ومن ثم استمرت في أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استثقال.
{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي فلما حان قرب وضعها وكبر الولد في بطنها، توجها: أي آدم وحواء إلى اللّه ربهما بدعواته أن يعطيهما ولدا صالحا أي تام الخلق يصلح للقيام بالأعمال النافعة التي يعملها البشر، وأقسما على ما وطّنا عليه أنفسهما من الشكر له إزاء هذه النعمة قولا وعملا واعتقادا.
{فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما} أي فلما أعطاهما ما طلبا وجاء الولد بشرا سويا لا نقص فيه ولا فساد في تركيب جسمه جعلا له شركاء فيما أعطاه. أي أظهرا ما كان راسخا في أنفسهما منه.
وقد نسب هذا الجعل إلى آدم وحواء والمراد أولادهما، قال الحسن البصري هم اليهود والنصارى رزقهم اللّه أولادا فهوّدوا ونصرّوا.
وقال الحافظ ابن كثير: أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا وأنه ليس المراد من السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك ذريته، ولهذا قال: {فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
ثم قال فذكره آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس اهـ.
وقال صاحب الانتصاف: إن المراد جنس الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين، وكأن المعنى واللّه أعلم: خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر، الجنس الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون، لأن المشركين منهم كقوله. {وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} وقوله: {قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ} وقوله: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ}. اهـ.
وقال صاحب الكشاف: إن المراد بالزوجين الجنس لا فردان معينان، والغرض بيان حال البشر فيما طرأ عليهم من نزعات الشرك الخفي والجلى في هذا الشأن وأمثاله والجنس يصدق ببعض أفراده.اهـ.
وبهذا تعلم أن ما روى عن بعض الصحابة والتابعين من أن الآية في آدم وحواء وما روى في حديث سمرة بن جندب مرفوعا قال: «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فانه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان».
ونحوه آثار كثيرة في هذا المعنى مفصلة ومطولة- فهو خرافة من دس الإسرائيليين نقلت عن مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه فلا يوثق بها، لأن فيها طعنا صريحا في آدم وحواء عليهما السلام ورميا لهما بالشرك، ومن ثم رفضها كثير من المفسرين، وقال الحافظ ابن كثير وهذه الآثار يظهر عليها واللّه أعلم أنها من آثار أهل الكتاب وقد صح الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم».
وأخبار أهل الكتاب ثلاثة أقسام:
(1) فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب اللّه وسنة رسوله.
(2) ومنها ما علمنا كذبه بما دل الدليل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا.
(3) ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام: «حدّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج».
وهو لا يصدّق ولا يكذّب لقوله: «فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم».
ثم بين سبحانه فساد رأيهم وسخافة عقولهم لهذا الشرك فقال: {أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي أ يشركون به سبحانه وهو الخالق لهم ولأولادهم ولكل مخلوق ما لا يخلق شيئا وإن كان حقيرا كما قال: {إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} بل هم مخلوقون أيضا ولا يليق بذي العقل السليم أن يجعل المخلوق العاجز شريكا للخالق القادر.
والآية وما بعدها حكاية لشرك عبّاد الأصنام عامة، وينتظم فيهم مشركو مكة وأمثالهم ممن نزل القرآن في عهدهم، وتوبيخ لهم بتفصيل أحوال أولئك الشركاء التي تنافى ما اعتقدوه.
{وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} أي ولا يستطيعون لعابديهم معونة إذا حزبهم أمر مهمّ وخطب ملمّ كما لا يستطيعون لأنفسهم نصرا على من يعتدى عليهم بإهانة لهم أو أخذ شيء مما عندهم من طيب أو حلى كما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.
والخلاصة- إنهم يحتاجون إليكم في تكريمهم وفى النضال عنهم وأنتم لا تحتاجون إليهم.
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ} أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به رغباتكم أو تنجون به من المكاره التي تحيق بكم، لا يتبعوكم فلا يستجيبوا لكم ولا ينفعوكم.
ثم أكد عدم نفعهم فقال: {سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ} أي مستولديكم دعاؤكم إياهم وبقاؤكم على صمتكم، فإنه لا يتغير حالكم في كلتا الحالين، إذ هم لا يفهمون دعاءكم ولا يسمعون أصواتكم ولا يعقلون ما يقال لهم.
والخلاصة- إنه لا ينبغى أن يعبد من كانت هذه صفته، وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده، الضار من يعصيه، الناصر وليّه، الخاذل عدوّه، الهادي إلى الرشاد من أطاعه، السامع دعاء من دعاه.
ولا شك أن هذه الحجة قائمة على من يقصدون قبور الأولياء والصلحاء ويعظمونها ويطلبون منها قضاء الحاجات، لأن هذه الأوصاف التي سيقت في معرض التوبيخ والإنكار تنطبق على حالهم أشد الانطباق، فهم لا ينفعون ولا يضرون و{سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ} وقد روى البخاري عن ابن عباس في أصنام قوم نوح التي انتقلت إلى العرب، أنها لم تنصب إلا للتذكير بأناس من الأولياء والصالحين وقد كانت اللات لرجل يلتّ عليها السويق ويطعم الناس.
والخلاصة- إن الأصنام والتماثيل والقبور التي تعظّم تعظيما دينيا، عمل لم يأذن به اللّه، وكلها سواء في كونها وضعت للتذكير بأناس عرفوا بالصلاح وكانوا هم المقصودين بالدعاء تخيلا من عابديها بأن لها تأثيرا في إرادة اللّه أو التصرف الغيبى في ملك اللّه، وذلك من أفحش الشرك وأقبحه ولا فرق بين إشراك الصنم والوثن وإشراك الولي أو النبي أو الملك. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وَإِن تَدْعُوهُمْ} الظاهرُ أنَّ الخطاب للكفَّار، وضمير النَّصْبِ للأصنام، أي: وإن تدعوا آلهتكم إلى طلب هدى ورشاد- كما تطلبونه من الله- لا يتعابعوكم على مُرادكُم، ويجُوزُ أن يكون الضميرُ للرسُولِ والمؤمنين، والمنصوب للكفَّارِ، أي وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإيمان، ولا يجوزُ أن يكون تَدعُوا مسندًا إلى ضميرِ الرسُولِ فقط، والمنصوبُ للكُفَّارِ أيضًا؛ لأنَّه كان ينبغي أن تحذف الواو، لأجل الجازم، ولا يجوزُ أن يقال: قدَّر حذف الحركة وثبت حرف العلَّة؛ كقوله: [البسيط]
هَجَوْتَ زبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِرًا ** مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولمْ تَدَعِ

ويكون مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} [يوسف: 90]، {فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] {لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تخشى} [طه: 77] لأنَّه ضرورةٌ، وأمَّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك.
قوله: {لا يَتَّبِعُوكُم} قرأ نافع بالتخفيف، وكذا في الشعراء {يَتْبَعُهُمْ} [244].