فصل: المسألة السابعة: المعجزات والإرهاصات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة السابعة: المعجزات والإرهاصات:

اعلم! أن كتب السير والتاريخ قد ذكرت كثيرًا من معجزاته المحسوسة، والخوارق الظاهرة المشهورة عند الجمهور، وقد فسرها المحققون. فلأن تعليم المعلوم ضائع، اَحَلْنا التفصيلَ على كتبهم فلنجمل بذكر الأنواع:
فاعلم! أن الخوارق الظاهرة وأن كان كل فرد منها آحاديا غير متواتر لكن الجنس وكثيرًا من الأنواع متواتر بالمعنى. ثم أن انواعها ثلاثة:
الأول: الارهاصات المتنوعة كانطفاء نار المجوس، ويبوسة بحر ساوة، وانشقاق ايوان كسرى، وبشارات الهواتف. حتى كأنه يتخيل للانسان أن العصر الذي ولد فيه النبيّ عليه الصلاة والسلام صار حسّاسًا ذا كرامةٍ فبشّر بقدومه بالحسّ قبل الوقوع.
النوع الثاني: الاخبارات الغيبية الكثيرة من فتح كنوز كسرى وقيصر، وغلبة الروم، وفتح مكة، وأمثالها. كأن روحه المجرّد الطيّار مزّق قيد الزمان المعيّن والمكان المشخّص، فجال في جوانب المستقبل فقال لنا كما شاهد.
النوع الثالث: الخوارق الحسيَّة التي أظهرها وقت التحدِّي والدعوى. كتكلم الحجر، وحركة الشجر وشق القمر، وخروج الماء. وقد قال الزمخشري: بلغ هذا النوع إلى الف. وأصناف من هذا النوع متواترة بالمعنى حتى أن {وانْشَقَّ الْقَمَرُ} لم يتصرف في معناه من أنكر القرآن الكريم أيضًا.
فإن قلت: مثل انشقاق القمر لابد أن يشتهر في العالم ويتعارف.
قيل لك: فلإختلاف المطالع، ووجود السحاب، وعدم الترصد للسماء كما في هذا الزمان، ولكونه في وقت الغفلة، ولوجوده في الليل، ولكون الانشقاق آنيًا.. لايلزم أن يراه كل الناس أو أكثرهم. على أنه قد ثبت في الروايات أنه قد رآه كثير من القوافل الذين كان مطلعهم ذلك المطلع.
ثم أن رئيس هذه المعجزات هو القرآن المبين المبرهن اعجازه بجهات سبع أُشير إليها في هذه الآية.
واذ تفهمت هذه المسائل فاستمع لما يتلى عليك من نظم الآية بوجوهها الثلاثة؛ من نظم المجموع بما قبله، ونظم الجمل بعضها مع بعض، ونظم هيئات وقيود جملة جملة.
أما النظم الأول فمن وجهين:
الأول: أنه لما قال: {يا أيها الناس} لإثبات التوحيد- على تفسير ابن عباس- اثبت بهذه نبّوة محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو من اظهر دلائل التوحيد. ثم أن اثبات النبوّة بالمعجزات. وأعظم المعجزات هو القرآن. وادقّ وجوه إعجاز القرآن ما في بلاغة نظمه. ثم أنه اتفق الإسلام على أن القرآن معجِز.. إلا أن المحققين اختلفوا في طرق الإعجاز، لكن لاتزاحم بين تلك الطرق، بل كلٌ اختار جهةً من جهاته. فعند بعض اعجازه: اخباره بالغيوب.. وعند بعض: جمعه للحقائق والعلوم.. وعند بعض: سلامته من التخالف والتناقض.. وعند بعض: غرابة اسلوبه وبديعيته في مقاطع ومبادئ الآيات والسور.. وعند بعض: ظهوره من أمي لم يقرأ ولم يكتب.. وعند بعض: بلوغ بلاغة نظمه إلى درجة خارجة عن طوق البشر. وكذا وكذا. إلخ.
ثم اعلم! أن معرفة هذا النوع من الإعجاز تفصيلا إنما تحصل بمطالعة أمثال هذا التفسير، واجمالًا يُعْرف بثلاث طرق. كما حققها عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة والزمخشري والسكاكي والجاحظ.
الطريق الأول: هو أن قوم العرب كانوا بدويين امّيين ولهم محيط عجيب يناسبهم.. وقد انتبهوا بالانقلابات العظيمة في العالم.. وكان ديوانهم الشعر وعلمهم البلاغة، ومفاخرتهم بالفصاحة في أمثال سوق عكاظ.. وكانوا أذكى الأقوام.. وكانوا أحوج الناس لجولان الذهن إذا.. ولقد كان لأذهانهم فصل الربيع، فطلع عليهم القرآن الكريم بحشمة بلاغته فمحا وبهر تماثيل بلاغتهم وهي المعلقات السبعة المكتوبة بذوب الذهب على جدار الكعبة. مع أن اولئك الفصحاء البلغاء- الذين هم أمراء البلاغة وحكام الفصاحة- ما عارضوا القرآن وما حاروا ببنت شفة، مع شدة تحدِّي النبيّ عليه السلام لهم، ولومه لهم، وتقريعه اياهم، وتسفيهه لأحلامهم، وتحريكه لاعصابهم في زمان طويل، وترذيله لهم مع أن من بلغائهم من يحكّ بيافوخه كتف السماء، ومنهم من يناطح السِّماكَيْن بكبره فلولا أنهم ارادوا وجربوا أنفسهم فأحسوا بالعجز، لما سكتوا عن المعارضة البتة؛ فعجزهم دليل إعجاز القرآن.
والطريق الثاني: هو أن أهل العلم والتدقيق واهل التنقيد الذين يعرفون خواص الكلام ومزاياه ولطائفه تأملوا في القرآن سورةً سورةً، وعشرًا عشرًا، وآيةً آيةً، وكلمةً كلمةً؛ فشهدوا بانه جامع لمزايا ولطائف وحقائق لاتجتمع في كلام بشر. فهؤلاء الشهداء الوف الوف. والذي يدل على صدق شهادتهم هو أن القرآن أوقع في العالم الإنساني تحوّلًا عظيما، واسس ديانة واسعة، وادام على وجه الزمان ما اشتمل عليه من العلوم. فكلما شاب الزمانُ شبّ، وكلما تكرر حلا. فإذا {إن هو إلا وحي يوحى}.
والطريق الثالث: كما حققه الجاحظ: هو أن الفصحاء والبلغاء مع شدة احتياجهم إلى إبطال دعوى النبيّ عليه السلام، ومع شدة حقدهم وعنادهم له تركوا المعارضة بالحروف الطريقَ الأسلمَ والأقربَ والأسهلَ، والتجأوا إلى المقارعة بالسيوف الطريقِ الأصعبِ الأطولِ المشكوكة العاقبة الكثيرة المخاطر؛ وهم بدرجة من الذكاء السياسي، لا يمكن أن يخفى عليهم التفاوت بين هذين الطريقين. فمن ترك الطريق الأول لو امكن- مع أنه أشد إبطالا لدعواه- واختار طريقًا أوقع مالَه وروحَه في المهالك فهو إما سفيه، وهو بعيد ممن ساسوا العالم بعد أن اهتدوا.. وإما أنه أحس من نفسه العجز عن السلوك في الطريق الأول فاضطر للطريق الثاني.
فإن قلت: يمكن أن تكون المعارضة ممكنة؟
قيل لك: لو امكنتْ لطمع فيها ناسٌ لتحريك أعصابهم لها. ولو طمعوا لفعلوا لشدة احتياجهم. ولو عارضوا لتظاهرت للرغبة وكثرة الأسباب للظهور. ولو تظاهرت لوجد من يلتزمها ويدافع عنها ويقول: أنه قد عورض لاسيما في ذلك الزمان. ولو كان لها ملتزمون ومدافعون ولو بالتعصب لاشتهرت لأنها مسألة مهمة. ولو اشتهرت لنقلتها التواريخ كما نقلت هذيانات مسيلمة بقوله: الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل صاحب ذَنَب قصير وخُرْطوم طويل.
فإن قلت: مسيلمة كان من الفصحاء فكيف صار كلامه مَسْخرة وأضحوكة بين الناس؟
قيل لك: لأنه قوبل بما فاقه بدرجات كثيرة. ألا ترى أن شخصا ولو كان حسنًا إذا قوبل بيوسف عليه السلام لصار قبيحًا ولو كان مليحا. فثبت أن المعارضة لايمكن؛ فالقرآن معجز.
فإن قلت: للمرتابين كثير من الاعتراضات والشكوك على تراكيب القرآن وكلماته مثل {إن هذان} و{الصابئون} و{الذي استوقد نارًا} وامثالها من الاعتراضات النحوية؟
قيل لك: عليك بخاتمة مفتاح السكاكي فإنه ألقمهم الحجر بأفلا يتفطنون أن من كرر كلامه في زمان مديد مع أنه فصيح بالاتفاق كيف لايحس بالغلطات التي تظهر لنظر هؤلاء الحمقاء؟
أما الوجه الثاني:
لنظم الآية فاعلم! أن الآية السابقة لما امرت بالعبادة استفسر ذهنُ السامع بعلى أية كيفية نعبد؟ فكأنه أجاب: كما علمكم القرآن! فعاد سائلا: كيف نعرف أنه كلام الله تعالى؟ فأجاب بقوله: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} إلخ.
أما نظم الجمل بعضها مع بعض فهو أن جملة {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} قد وقعت في موقعها المناسب؛ إذ لما أمر القرآن بالعبادة كأنه سُئل: كيف نعرف أنه أمر الله حتى يجب الامتثال؟ فقيل له: أن ارتبتَ فجرِّب نفسك لتتيقن أنه أمر الله.
ومن وجوه النظم ايضا أن القرآن لما اثنى على نفسه بجملة {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} ثم استتبع مدحه مدح المؤمنين، ثم استطرد مدح المؤمنين ذم الكافرين والمنافقين، ثم استعقب الأمر بالعبادة والتوحيد.. عاد القرآن إلى الأول بالنظر إلى {لاريب فيه} أي: أما القرآن فليس قابلا للشك والريب؛ فما ريوبكم إلا من مرض قلوبكم وسقامة طبعكم. كما:
قَدْ يُنْكَرُ ضَوْءُ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ ** وَيُنْفَرُ طَعْمُ اْلماءِ مِنْ سَقَمٍ

وأما نظم {فأتوا بسورة من مثله} فاعلم! أن هذه جزاء الشرط، وجزاء الشرط يلزم أن يكون لازمًا لفعل الشرط. ولما كان الأمر تعجيزيا استلزم تقدير تشبثوا. ولما كان الأمر انشاء والانشاء لايصير لازما، يلزم أن يكون لازم الأمر جزاء. وهو الوجوب الذي هو من أصول معاني الأمر، ثم وجوب التشبث أيضًا لايظهر لزومه للريب فاقتضى تقدير جمل مطوية تحت ايجاز الآية. فالتقدير أن كنتم في ريب أنه كلام الله يجب عليكم أن تتعلموا اعجازه، فإن المعجز لايكون كلام البشر ومحمّد عليه السلام بشر، وأن أردتم ظهور اعجازه فجرِّبوا أنفسكم ليظهر عجزكم، فيجب عليكم التشبث باتيان سورة من مثله.
فللّه در التنزيل ما أوجزَه وما أعجزه!.
وأما نظم {وادعوا شهداءَكم من دون الله} فبثلاثة اوجه:
أحدها: أنهم يقولون عجزنا لا يدل على عجز البشر.. فافحمهم بقوله: {وادعوا شهداءكم} أي كبراءكم ورؤساءكم.
والثاني: أنهم يزعمون: إنّا لو عارضنا فمن يلتزمنا ويدافع عنا؟ فألقمهم الحجر بانه ما من مسلك إلا وله متعصبون ولو عارضتم لظهر لكم شهداء يذبّون عنكم.
والثالث: أن القرآن كأنه يقول: لما استشهد النبيُّ عليه السلام الله تعالى صدّقه الله وشَهِد له بوضع سكة الإعجاز على دعواه. فإن كان في آلهتكم وشهدائكم فائدة لكم فادعوهم. وما هذا إلا نهاية التهكم بهم.
وأما نظم {فإن لم تفعلوا} فظاهر، إذ التقدير فإن جربتم فانظروا فإن لم تقدروا ظهر عجزكم ولم تفعلوا.
وأما نظم {ولن تفعلوا} فكأنه لما قال لم تفعلوا.. قيل من جانبهم: عدم فعلنا فيما مضى لايدل على عجز البشر فيما سيأتي. فقال: ولن تفعلوا، فرمز إلى الإعجاز بثلاثة اوجه.
احدها: الاخبار بالغيب وكان كما اخبر. ألا ترى أن الملايين من الكتب العربية مع التمايل إلى تقليد أسلوب التنزيل وكثرة المعاندين لو فتشتها؛ لم يوافقه شيء منها. كأن نوعه منحصر في شخصه. فأما هو تحت الكل وهو باطل بالاتفاق. فما هو إلا فوق الكل.
والوجه الثاني: أن القطع والجزم بعدم فعلهم مع التقريع عليهم وتحريك أعصابهم في هذا المقام المشكل وفي هذه الدعوى العظيمة علامة صادقة على أنه واثق امين مطمئن بماله ومقاله.
والوجه الثالث: أن القرآن كأنه يقول: إذا كنتم امراء الفصاحة وأشد الناس احتياجًا إليها ولم تقتدروا لم يقتدر عليه البشر. وكذا فيه إشارة إلى أن نتيجة القرآن التي هي الاسلامية كما لم يقتدر على نظيرها الزمان الماضي؛ كذا يعجز عن مثلها الزمان المستقبل.
وأما نظم {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} فاعلم! أن تعقيب أن لم تفعلوا بفاتقوا يقتضي في ذوق البلاغة تقديرًا هكذا: أن لم تفعلوا ولن.. ظهر أنه معجز، فهو كلام الله، فوجب عليكم الإيمان به وامتثال أوامره... ومن الأوامر يا أيها الناس اعبدوا لتتقوا النار فاتقوا النار. فاوجز فاعجز.
وأما نظم {التي وقودها الناس والحجارة} فاعلم! أن المقصد من {فاتقوا} هو الترهيب، ومعنى الترهيب إنما يؤكد بالتهويل والتشديد فهوّله ب {وقودها الناس} إذ النار التي حطبها كان انسانا أخوف وأدهش.. ثم شدده بعطف الحجارة؛ إذ ما تحرق الحجرَ أشد تأثيرًا.. ثم أشار إلى الزجر عن عبادة الأصنام: أي لو لم تتمثلوا أمر الله، وعبدتم أحجارًا لدخلتم نارًا تأكل العُبّاد ومعبوداتهم.
وأما نظم {أعدت للكافرين} فهو إنها توضيح وتقرير لزوم جزاء الشرط لفعله: أي هذه المصيبة ليست كالطو فإن وسائر المصائب التي لاتصيب الظالمين خاصة بل تعم الأبرار والأخيار؛ فإنما هذه تختص بالجانين يجرّها الكفرُ لاسبيل للنجاة إلا امتثال القرآن.
ثم اعلم! أن {أُعدّت} إشارة إلى أن جهنم مخلوقة موجودة الآن لا كما زعمت المعتزلة.. ثم أن مما يدلك ويفيد حدسا لك على أبدية جهنم إنك إذا تفكرت في العالم بنظر الحكمة ترى النار مخلوقة عظيمة مستولية غالبة، كأنها عنصر أساس في العلويات والسفليات. وتفهمت وجود رأس عظيم وثمرة عجيبة تدلت إلى الأبد. ألا ترى أن من رأى عرقا ممتدًا تفطن لوجود بطيخ مثلا في رأسه؛ وكذلك من رأى الخلقة النارية تفطن لإِنتهائها إلى حنظلة جهنم. وكذا من رأى النعم والمحاسن واللذائذ يحدس بأن مصبها ومخلصها وروضها الجنة.
فإن قلت: إذا كانت جهنم موجودة الآن فاين موضعها؟
قيل لك: نحن معاشر أهل السنة والجماعة نعتقد وجودها الآن لكن لا نعيّن موضعها.
فإن قلت: أن ظواهر الأحاديث تدل على إنها تحت الأرض. وفي حديث: أن نارها أشد وأحرّ من نار الدنيا بمائتي دفعة. وأن الشمس أيضا تدخل في جهنم؟
قيل لك: أن تحت الأرض عبارة عن مركزها، إذ تحت الكرة مركزها. وقد ثبت في نظريات الحكمة أن في مركزها نارًا بالغة في الشدة إلى مقدار مائتي ألف درجة. إذ كلما تحفر الأرض ثلاثة وثلاثين ذراعا بذراع التجار تتزايد تقريبا درجة حرارة. فإلى المركز تصير تقريبا مائتي ألف درجة. فهذا النظريّ مطابق لمآل الحديث الذي يقول إنها أشد من نار الدنيا بمائتي درجة. وأيضًا في الحديث أن قسمًا من تلك النار زمهرير تحرق ببرودتها. وهذا الحديث مطابق لهذا النظري؛ إذ النار المركزية مشتملة على المراتب النارية كلها إلى السطح. وقد تقرر في الحكمة الطبيعية أن للنار مرتبة تجذب دفعةً حرارة مجاورها فتحرقه بالبرودة وتصير الماء جَمَدًا.
فإن قلت: ما في جوف الأرض ومظروفها صغير فكيف تسع جهنم التي تسع السموات والأرض؟
قيل لك: نعم باعتبار المِلك والمطويتية وأن كانت مظروفة للأرض لكن بالنظر إلى العالم الأُخروي بالغة في العظمة إلى درجة تسع الُوفا من أمثال هذه الأرض. بل أن عالم الشهادة كحجاب مانعٍ لارتباط تلك النار بسائر أغصانها. فما في جوف الأرض إلا مركزها وسرّها أو قلب عفريتها. وأيضًا لا تستلزم التحتية اتصالها بالأرض، إذ شجرةُ الخلقةِ اثمرتْ أغصانُها الشمسَ والقمرَ والنجومَ وأرضَنا وأرضينَ أخرى. فما تحت الثمرة يشمل ما بينَ الأغصان اين كان. فمُلك الله تعالى واسع، وشجرة الخلقة منتشرة فأينَ سافرتْ جهنمُ لا تُرَدُّ. وفي حديثٍ {اِنَّ جَهَنَّمَ مَطْوِيَّةٌ} فيمكن أن تكون بيضة لأرضنا الطيارة متى يمتزق حجاب الملك ينفتق تلك البيضة وتتظاهر هي كاشرةً أسنانَها لأهلِ العصيان. ويحتمل أن ماشبط أهل الاعتزال وأوقعهم في الغلط بعدم وجودها الآن إنما هو هذه المطويتية.
وأما نظم هيئاتِ وقيودِ جملة جملة:
فاعلم! أن جملة {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} الواو فيها بناء على المناسبة بين المتعاطفين تومئ إلى: تقدير كما علّمكم القرآن.. وايراد {إِنْ} الترددية في موضع إذا التي هي للقطع مع أن ريبهم مجزوم به إشارة إلى أنه لأجل ظهور أسباب زوال الريب شأنه أن يكون مشكوك الوجود بل من المحال يفرض فرضا. ثم أن الشك في {إنْ} بالنظر إلى الاسلوب لا بالقياس إلى المتكلم تعالى.. وايراد {كنتم في ريب} بدل ارتبتم مع أنه اقصر إشارة إلى أن منشأ الريب طبعهم المريض وكونهم. وظرفية الريب لهم مع أنه مظروف لقلبهم إيماء إلى أن ظلمة الريب انتشرت من القلب فاستولت على القالب، فاظلم عليه الطرق.. وتنكير {ريب} للتعميم أي: أيّ نوع من أنواع الريب ترتابونه فالجواب واحد وهو: أن هذا معجز وحق. فتخطئتكم بالنظر السطحيّ خطأ فلا يلزم لكل ريب جواب خاص. ألا ترى أن من رأى رأس عين وذاقه عذبا فراتا لا يحتاج إلى ذوق كل جدول وفرع قد تشعب منه.. ومن في {مما نزلنا} إيماء إلى تقدير لفظ في شيء مما ولفظ {نزلنا} إشارة إلى أن منشأ شبهتهم هو صفة النزول. فالجواب القاطع اثبات النزول فقط. وايثار {نزّلنا} الدال على النزول تدريجا على أنزلنا الدال عليه دفعة إشارة إلى أن ما يتحججون به قولهم: لولا انزل عليه دفعة. بل على مقتضى الواقعات تدريجًا نوبة نوبة نجمًا نجمًا سورة سورة.. وايثار العبد على النبي ومحمد إشارة إلى تعظيم النبي، وايماء إلى علو وصف العبادة، وتأكيد لأمر اعبدوا ورمز إلى دفع أوهامٍ بأن النبيّ عليه السلام أعبد الناس وأكثرهم تلاوة للقرآن الكريم. فتفكر!.
وان جملة {فأتوا بسورة من مثله} الأمر في {فأتوا} للتعجيز، وفيه التحدِّي والتقريع والدعوة إلى المعارضة والتجربة ليظهر عجزهم.. ولفظ {بسورة} إشارة إلى نهاية افحام، وشدة تبكيت، وغاية إلزام؛ إذ:
أول طبقات التحدِّي هو أن يقال: فأتوا بمثل تمام القرآن بحقائقه وعلومه واخباراته الغيبية مع نظمه العالي من شخص امّي!
وثانيتها: أن يقال: إن لم تفعلوا كذا فأتوا بها مفتريات لكن بنظم بليغ مثله.
وثالثتها: أن يقال: إن لم تفعلوا هكذا ايضًا فأتوا بمقدار عشر سور.
ورابعتها:
انه أن لم تقتدروا عليه أيضًا فلا أقلّ من أن تأتوا بقدر سورة طويلة.
وخامستها:
انه أن لم يتسير لكم هذا أيضًا فأتوا بمقدار سورة مطلقا ولو أقصر ك {إنا اعطيناك} من شخص أميّ مثله.
وسادستها:
انه أن لم يمكنكم الإِتيان من أمي فأتوا من عالم ماهر وكاتب حاذق.
وسابعتها:
انه أن تعسر عليكم هذا أيضًا فليعاون بعضكم بعضا على الإتيان.
وثامنتها:
انه أن لم تفعلوا فاستعينوا بكافة الإِنس والجن واستمدوا من مجموع نتائج تلاحق افكارهم من آدم إلى قيام الساعة، ونتائج افكارهم هي مابين أيديكم من هؤلاء الكتب على الاسلوب العربي مع شوق التقليد وعناد المعارضة؛ ففضلًا عن أهل التحقيق لو تصفحها مَنْ له أدنى مسكة ولو جاهل لقال: ليس فيها مثله، فإما هو تحت الكل وهو باطل بالاتفاق وأما فوق الكل وهو المطلوب كما مر آنفًا. نعم، لم يعارض في ثلاثة عشر عصرًا هكذا مرّ الزمان، وهكذا يمرّ إلى يوم القيامة.
وتاسعتها:
أن يقال لا تتحججوا بأن ليس لنا شهداء وانتم لا تشهدون لنا. ألا فادعوا شهداءَكم والمتعصبين لكم فليراجعوا وجدانهم هل يتجاسرون على تصديق دعواكم المعارضة.
وإذا تفهمت هذه الطبقات فانظر إلى القرآن كيف أعجز بأن أوجز فأشار إلى هذه المراتب، فألقمهم الحجر وأرخى لهم العنان. ثم اعلم أن عجز البشر عن معارضة أقصر سورة اِنِيّتُهُ بديهية. وأما لمِيَّتُهُ فقيل هي: أن الله تعالى صرف القوى عن المعارضة. والمذهب الأصح في اللِّمِيَّة ما عليه عبدالقاهر الجرجاني والزمخشري والسكاكي. وهو: أن قدرة البشر لا تصل إلى درجة نظمه العالي. ثم أن السكاكي اختار أن الإعجاز ذوقي لايعبر عنه ولايشرح بل يذاق ذوقا. وأما صاحب دلائل الإعجاز فاختار أنه يمكن التعبير عنه. ونحن على مذهبه في هذا البيان.
وايثار {سورة} على نجم أو طائفة أو نوبة إشارة إلى الزامهم في منشأ شبهتهم وهي: لولا انزل عليه دفعة واحدة؟ أي فهاتوا انتم ولو بنوبة فذة.. وأيضًا إيماء إلى تضمن تسوير التنزيل سورة سورة لفوائد جمة بيّنها الزمخشري، وإلى تضمن هذا الاسلوب الغريب للطائف.. ولفظ {من مثله} فيه معنيان أي بمثل المنزَل، أو من مثل المنزل عليه. اعلم! أن حق العبارة على الأول مثل سورة منه لكن عدل إلى {من مثله} للايماء إلى ملاحظة الاحتمال الثاني، أي إنما تكون معارضتكم مبطلة لدعواه لو جاءت من مثله في عدم التعلم.. وكذا إشارة إلى أن المعارضة إنما تبطل الإعجاز لو كان المعارض به من مجموع مثل.. وكذا رمز إلى توجيه الاذهان إلى امثال القرآن في النزول من الكتب السماوية ليوازن ذهن السامع بينها فيتفطن لعلوه.
وان جملة {وادعوا شهداءكم من دون الله} ايثار {ادعوا} فيها على استعينوا أو استمدوا إيماء إلى أن من يلبيهم ويذبّ عنهم لايفقدهم بل حاضر لا يحتاجون إلا إلى ندائه.. ولفظ شهداء جامع لثلاثة معان: أى كبراءكم في الفصاحة.. ومن يشهد لكم.. وآلهتكم. فنظرًا إلى الأول إلزام لهم، يقطع تحججهم بأن عدم قدرتنا لايدل على عدم قدرة كبرائنا. ونظرًا إلى الثاني افحام لهم، يقطع تعللهم بأن ليس لنا شهداء بانه لا مسلك إلا له ذابون وشهداء. ونظرًا إلى الثالث تبكيت لهم وتهكم بهم بأن الآلهة التي ترجون منها النفع ودفع الضر كيف لاتعينكم في هذا الأمر الذي يهمّكم؟ وإضافة شهداء إلى كم المفيدة للاختصاص تقوي عضد المعنى الأول: بأن الكبراء حاضرون معكم، وبينكم اختصاص لو اقتدروا لعاونوكم البتة. وتصل جناح المعنى الثاني بانا نقبل شهادة من يلتزمكم ويتعصب لكم فإنهم أيضا لا يتجاسرون على الشهادة على بديهيّ البطلان. وتأخذ بساعد المعنى الثالث مع التقريع بأن الآلهة التي اتخذتموها معبودات كيف لاتمدكم.. ولفظ {من دون الله} نظرًا إلى الأول إشارة إلى التعميم أي كل فصيح في الدنيا ما خلا الله تعالى. وكذا إلى أن اعجازه ليس إلا لأنه من الله.. ونظرًا إلى الثاني إشارة إلى عجزهم ومبهوتيتهم بقولهم: الله شاهد، الله عليم أنا نقتدر.
لأن ديدن العاجز المحجوج الحلف بالله والاستشهاد به على ما لا يقتدر على الاستدلال عليه.. ونظرا إلى الثالث إشارة إلى أن معارضتهم مع النبيّ عليه الصلاة والسلام ليست إلا مقابلة الشرك بالتوحيد والجمادات بخالق الأرض والسموات.
وان جملة {إن كنتم صادقين} إشارة إلى قولهم: لو شئنا لقلنا مثل هذا.. وكذا تعريض بانكم لستم من أهل الصدق إلا أن يفرض فرضا، بل من أهل السفسطة، ما وقعتم في الريب من طريق طلب الحق بل طلبتم فوقعتم فيه.. ثم أن جزاء هذا الشرط محصل ما قبله أي فافعلوا.
أما جملة {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار} إلى آخره. فاعلم! أن {إن كنتم صادقين} احتجاج القرآن عليهم بقياس استثنائي استثنى نقيض التالي لانتاج نقيض المقدم.
تلخيصه: أن كنتم صادقين تفعلوا المعارضة وتأتوا بسورةٍ لكن ما تفعلون ولن تفعلوا، فانتج فلم تكونوا صادقين فكان خصمكم وهو النبيّ عليه السلام صادقا فالقرآن معجز، فوجب عليكم الإيمان به لتتقوا من العذاب... انظر كيف اوجز التنزيل فاعجز. ثم أنه ذكر موضع استثناء نقيض التالي وهو لكن ما تفعلون لفظ إن {لم تفعلوا} مشيرًا بتشكيك إن إلى مجاراة ظنهم، وبالشرطية إلى استلزام نقيض التالي لنقيض المقدم. ثم ذكر موضع النتيجة وهي نقيض المقدم أعني فلم تكونوا صادقين علة لازم لازم لازمها وهي قوله: {فاتقوا النار} لتهويل الترهيب والتهديد.
أما إن {لم تفعلوا} الماضي بالنظر إلى لم والمستقبل بالقياس إلى أن فلتوجيه الذهن إلى ماضيهم كأنه يقول لهم: أنظروا إلى خطبكم المزيّنة ومعلقاتكم المذهّبة أتساويه أو تدانيه أو تقع قريبا منه؟.
وإيثار {تفعلوا} على تأتوا لنكتتين:
احداهما: الايماء إلى أن منشأ الإعجاز عجزُهم ومنشأ العجز الفعل لا الأثر.
والثانية: الايجاز، إذ فعل كما أنه في الصرف ميزان الأفعال وجنسها؛ كذلك في الأساليب مصدر الأعمال وملخص القصص كأنه ضمير الجمل كناية عنها.
أما {ولن تفعلوا} فاعلم! أن التأكيد والتأبيد في {لن} إيماء إلى القطعية وهي إشارة إلى أن القائل مطمئن جدّي، لا ريب له في الحكم. وهذا رمز إلى أن لا حيلة.. أما {فاتقوا} بدل تجنبوا فللايماء إلى ما ناب عنه الجزاء من آمنوا واتقوا الشرك الذي هو سبب دخول النار.. أما تعريف {النار} فللعهد أي النار التي عهدت واستقرت في أذهان البشر بالتسامع عن الأنبياء من آدم إلى الآن.. وأما توصيفها ب {التي} الموصولة مع أن من شأنها أن تكون معلومة اوّلًا، فلأجل نزول {نارًا وقودها الناس والحجارة} قبل هذه الآية فالمخاطبون قد سمعوا تلك، فالموصولية في موقعها.. وأما وقودها الناس والحجارة فالغرض كما مر آنفًا الترهيب، والترهيب يؤكد بالتهويل والتشديد فهوّل بلفظ {الناس} كما قرع به، وشدد ب {الحجارة} كما وبخ بها. أي ماترجون منه النفع والنجاة وهو الاصنام يصير آلة لتعذيبكم.
وأما جملة {أعدت للكافرين} فاعلم! أن الموضع موضع أعدت لكم لكن القرآن يذكر الفذلكة والقاعدة الكلية في الأغلب في آخر الآيات ليشير إلى كبرى دليل الحكم؛ إذ اصل الكلام: أعدت لكم أن كفرتم لأنها أعدّت للكافرين.
فلهذا اقيم المظهر مقام المضمر.. وأما ماضية {أعدّت} فإشارة كما مر إلى وجود جهنم الآن. اهـ.