فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} أي ينخسنك بأن يحملك بوسوسته على ما لا يليق فاطلب العياذة بالله منه وهي اللواذ والاستجارة، قيل: لما نزلت: {خذ العفو} الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف والغضب فنزلت ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وفاعل ينزغنك هو نزغ على حدّ قولهم جد جده أو على إطلاق المصدر، والمراد به نازغ وختم بهاتين الصفتين لأنّ الاستعاذة تكون بالنسيان ولاتجدي إلا باستحضار معناها فالمعنى سميع للأقوال عليم بما في الضمائر، قال ابن عطية: الآية وصية من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم أمته رجلًا رجلًا ونزغ الشيطان عام في الغضب وتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك وفي مصنف أبي عيسى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ للملك لمة وإن للشيطان لمة» وبهذه الآية تعلق ابن القاسم في قوله: إنّ الاستعاذة عند القراءة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم انتهى.
واستنباط ذلك من الآية ضعيف لأن قوله: {إنه سميع عليم} جرى مجرى التعليل لطلب الاستجارة بالله أي لا تستعذ بغيره فإنه هو السميع لما تقول أو السميع لما تقوله الكفار فيك حين يرومون إغضابك العليم بقصدك في الاستعاذة أو العليم بما انطوت عليه ضمائرهم من الكيد لك فهو ينصرك عليهم ويجيرك منهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ}.
النزغُ والنسْغُ والنخْسُ: الغرزُ شُبّهت وسوستُه للناس وإغراؤه لهم على المعاصي بغَرْز السائق لما يسوقه، وإسنادُه إلى النزغ من قَبيل جَدّ جِدُّه أي وإما يحمِلنّك من جهته وسوسةٌ ما على خلاف ما أُمرتَ به من اعتراء غضبٍ أو نحوه {فاستعذ بالله} فالتجِىءْ إليه تعالى من شره {إِنَّهُ سَمِيعٌ} يسمع استعاذتَك به قولًا {عَلِيمٌ} يعلم تضرُّعَك إليه قلبًا في ضمن القولِ أو بدونه فيعصمُك من شره. وقد جُوّز أن يرادَ بنزغ الشيطانِ اعتراءُ الغضبِ على نهج الاستعارة كما في قول الصديقِ رضي الله عنه: إن لي شيطانًا يعتريني. ففيه زيادةُ تنفيرٍ عنه وفرطُ تحذيرٍ عن العمل بموجبه، وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويلٌ لأمره وتنبيهٌ على أنه من الغوائل الصعبةِ التي لا يُتخَلّص من مَضَرَّتها إلا بالالتجاء إلى حُرَم عصمتِه عز وجل، وقيل: يعلم ما فيه صلاحُ أمرِك فيحملك عليه، أو سميعٌ بأقوال مَنْ آذاك عليمٌ بأفعاله فيجازيه عليها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ}.
النزغ والنسغ والنخس بمعنى وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا أو ما يشبه ذلك في الجلد، وعن ابن زيد أنه يقال: نزغت ما بن القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقال الزجاج: هو أدنى حركة تكون، ومن الشيطان وسوسته، والمعنى الأول هو المشهور، وإطلاقه على وسوسة الشيطان مجاز حيث شبه وسوسته إغراء للناس على المعاصي وإزعاجًا بغرز السائق ما يسوقه، وإسناد الفعل إلى المصدر مجازي كما في جد جده، وقيل: النزغ بمعنى النازغ فالتجوز في الطرف، والأول أبلغ وأولى، أي إما يحملنك من جهة الشيطان وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه {فاستعذ بالله} فاستجربه والتجىء إليه سبحانه وتعالى في دفعه عنك {إِنَّهُ سَمِيعٌ} سمع على أكمل وجه استعاذتك قولًا {عَلِيمٌ} يعلم كذلك تضرعك إليه قلبًا في ضمن القول أو بدونه فيعصمك من شره، أو سمع أي مجيب دعاءك بالاستعاذة عليم بما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه، أو سميع بأقوال من آذاك عليم بأفعاله فيجازيه عليها، والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فلا حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وسوسة الشيطان وارتكاب المعاصي.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا: وإياك يا رسول الله قال: وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» وقال آخرون: إن نزغ الشيطان بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم مجاز عن اعتراء الغضب المقلق للنفس، وفي الآية حينئذٍ زيادة تنفير عن الغضب وفرط تحذير عن العمل بموجبه، ولذا كرر صلى الله عليه وسلم النهي عنه كما جاء في الحديث، وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لذلك وتنبيه على أنه من الغوائل التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}.
وهذا الأمر مراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء وهو شامل لأمته.
{إما} هذه هي أن الشرطية اتصلت بها ما الزايدة التي تزاد على بعض الأسماء غير أدوات الشروط فتصيرها أدواتِها، نحو مهما فإن أصلها مَاما، ونحو إذما وأينما وأيانَما وحيثما وكيفما فلا جرم أن مَا إذا اقترنت بما يدل على الشرط أكتسبته قوةَ شرطية فلذلك كتبت إما هذه على صُورة النطق بها ولم تكتب مفصولة النون عن مَا.
والنزغ النخس والغرز، كذا فسره في الكشاف وهو التحقيق، وأما الراغب وابن عطية فقيداه بأنه دخول شيء في شيء لإفساده، قلتَ: وقريبٌ منه الفسخ بالسين وهو الغرز بإبرة أو نحوها للوشْم قال ابن عطية وقلّما يُستعمل في غير فعل الشيطان {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} [يوسف: 100].
وإطلاق النزغ هنا على وسوسة الشيطان استعارة: شبه حدوث الوسوسه الشيطانية في النفس بنزغ الإبرة ونحوها في الجسم بجامع التأثير الخفي، وشاعت هذه الاستعارة بعد نزول القرءان حتى صارت كالحقيقة.
والمعنى أن ألقى إليك الشيطان ما يخالف هذا الأمر بأن سوّل لك الأخذ بالمعاقبة أوْ سَوّل لك تركَ أمرهم بالمعروف غضبًا عليهم أو يأسًا من هداهم، فاستعذ بالله منه ليدفع عنك حرجه ويشرح صدرك لمحبة العمل بما أمرت به.
والاستعاذة مصدر طَلب العوذ، فالسين والتاء فيها للطلب، والعوذ: الإلتجاء إلى شيء يدفع مكروهًا عن الملتجيء، يقال: عاذ بفلان، وعاذ بالحرَم، وأعاذه إذا منعه من الضر الذي عَاذ من أجله.
فأمرَ الله بدفع وسوسة الشيطان بالعوذ بالله، والعوذُ بالله هو الالتجاء إليه بالدعاء بالعصمة، أو استحضار ما حدده الله له من حدود الشريعة، وهذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتجاء إلى الله فيما عسر عليه، فإن ذلك شكر على نعمة الرسالة والعصمة، فإن العصمة من الذنوب حاصلة له، ولكنه يشكر الله بإظهار الحاجة إليه لادامتها عليه، وهذا مثل استغفار الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله في حديث صحيح مسلم: «إنه ليُغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة» فالشيطان لا ييأس من إلقاء الوسوسة للأنبياء لأنها تنبعث عنه بطبعه، وإنما يترصد لهم مواقع خفاء مقصده طمعًا في زلة تصدر عن أحدهم، وإن كان قد علم أنه لا يستطيع إغواءهم، ولكنه لا يفارقه رجاء حملهم على التقصير في مراتبهم، ولكنه إذا ما هم بالوسوسة شعروا بها فدفعوها، ولذلك علم الله رسوله عليه الصلاة والسلام الاستعانة على دفعها بالله تعالى.
روى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وُكل به قرينُه من الجن وقرينُه من الملائكة».
قالوا وأنت يا رسول الله، قال: «وأنا ولكن الله أعانني عليه فأسلم» روي قوله: «فأسْلم» بفتح الميم بصيغة الماضي والهمزة أصلية، صار الشيطان المقارن لهُ مُسلمًا، وهي خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم وروي بضم الميم بصيغة المضارع، والهمزة للمتكلم: أي فأنا أسْلم من وسوسته وأحسب أن سبب الاختلاف في الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق به موقوفًا عليه.
وهذا الأمر شامل للمؤمنين وحظ المؤمنين منه أقوى لأن نزغ الشيطان إياهم أكثر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة فليس للشيطان عليه سبيل.
وجملة: {إنه سميع عليم} في موقع العلة للأمر بالاستعاذة من الشيطان بالله على ما هو شأن حرف أن إذا جاء في غير مقام دَفع الشك أو الإنكارِ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك ولا يتردد فيه، والمراد: التعليل بِلازم هذا الخبر، وهو عوذه مما استعاذه منه، أي: أمرناك بذلك لأن ذلك يعصمك من وسوسته لأن الله سميع عليم.
والسميع: العالم بالمسموعات، وهو مراد منه معناه الكنائي، أي عليم بدعائك مستجيب قابِل للدعوة، كقول أبي ذؤيب:
دَعاني إليها القلب إني لامْرِه ** سَميع فما أدْري أرُشْدٌ طِلابُها

أي ممتثل، فوصفُ {سميع} كناية عن وعد بالإجابة.
وإتْباعه بوصف {عليم} زيادة في الإخبار بعموم علمه تعالى بالأحوال كلها، لأن وصف {سميع} دل على أنه يعلم استعاذة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أتبعه بما يدل على عموم العلم، وللإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بمحل عنايه الله تعالى فهو يعلم ما يريد به الشيطان عدوُه، وهذا كناية عن دفاع الله عن رسوله كقوله: {فإنك بأعْيُننا} [الطور: 48] وأن أمره بالاستعاذة وقوف عند الأدب والشكرِ وإظهارِ الحاجة إلى الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}.
و{نزغ} تساوي كلمة نخس أي أمسك بشيء ووضع طَرَفَه في جسد من بجانبه أو من أمامَه. ويتضح من معنى نخس أن هناك مسافة بين الناخس والمنخوس ووسيلة أو أداة للنخس.
وعملية النخس لا يدرك بها الناخس أو المنخوس حرارة بعضهما البعض، أما كلمة مس فقد يشعر الماس والممسوس كل واحد بحرارة الآخر منهما بسرعة، لكن أحدهما لا يدرك نعومة الآخر، أما اللمس ففيه إدراك لنعومة وحرارة اللامس والملموس. ومعارك الحرب كلها تدور في هذا النطاق، فحين يكون العدو بعيدًا يحتاج خصمه إلى أن يبتعد عنه كيلا يصيبه بالنبال أو السهام، ويحاول هو أن يصيب خصمه بالنبال أو السهام. وكما تفعل الجيوش الحديثة حين ترسل طائراتها لترمي القنابل على قوات الخصم. وتقاس قوة الدول بقدرتها على ضرب القوات المعادية دون قدرة تلك القوات على الرد، لأنها تصيبه من بعد في عصر الصواريخ بعيدة المدى. ونجد الإشارة في قول الحق تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ...} [الأنفال: 60].
وأوضح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى القوة فيما رواهُ عنه عقبة ابن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: «ألا أن القوة الرمي». لأن الرمي يُمَكّن قذيفتك من عدوك، وأنت بعيد عنه فلا يقدر أن يصيبك بما يرميه.
وقديمًا كانت الجيوش تزحف، فيُلقى الخصوم عليها النبال والسهام، وإذا ما اقتربت الجيوش أكثر من خصومها فكل فريق يوجه الرماح إلى ما يقرب من أجساد الفريق الآخر. وإذا حمى وطيس المعركة تتلاقى السيوف. إذن كلها من النخس، والمس، واللمس.
وحينما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم ربه قائلًا: «يا رب كيف بالغضب؟» أي كيف يكون علاج الغضب؟ نزل قول الحق: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
وقد يستفهم قائل فيقول: أينزغ الشيطان الرسول؟. وأقول: إنّ الحق تبارك وتعالى لم يقل: وإذ نزغك الشيطان، ولكنه قال: {وإما ينزغنك} أي إن حدث ذلك، وهو قول يفيد الشك- ثم لماذا يحرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من لذة مجابهة الشيطان؟. ونعم عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير».
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله...}.
والاستعاذة تعني طلب العون والملجأ والحفظ وأنت لا تطلب العون ولا تلجأ ولا تستجير إلا بمن هو أقوى ممن يريد أن ينالك بشر.
ومعلوم أن الشيطان له من خفة الحركة، وقدرة التغلغل، ووسائل التسلل الكثير؛ لذلك فينبغي ألا تستعيذ بمثله أو بمن هو دونه، ولكنك تستعيذ بخالق الإنس والجن وجميع المخلوقات، وهو القادر على أن يعطل فاعلية الشيطان. وسبحانه سميع عليم، والسمع له متعلق، والعلم له متعلق، فحين تستحضر معنى الاستعاذة وأنت مشحون بالإيمان وتلجأ إلى من خلقك. وخلق ذلك الشيطان؛ عندئذ لابد أن يهرب الشيطان من طريقك لأنه يعلم أنك تلجأ إلى الخالق القوي القادر وهو ليست له قوة على خالقه، وسبحانه سميع لقولك: أعوذ بالله، عليم بما في نفسك من معنى هذه الكلمة.
وإذا كان الحق تبارك وتعالى هنا قد تكلم عن حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ} أي أن الشيطان بعيد، وهو يحاول مجرد النزغ، فماذا عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاء هذا؟. هنا يقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ...}. اهـ.