فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}.
هذا تأكيد وتقرير للأمر بالاستعاذة من الشيطان، فتتنزل جملة: {إِنَّ الذين اتقوا} إلى آخرها منزلة التعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان إذا أحسّ بنزغ الشيطان، ولذلك افتتحت بـ {إن} التي هي لمجرد الاهتمام لا لرد تردد أو إنكار، كما افتتحت بها سابقتها في قوله: {أنه سميع عليم} [الأعراف: 200] فيكون الأمر بالاستعاذة حينئذ قد علل بعلتين أولاهما أن الاستعاذة بالله منجاة للرسول عليه الصلاة والسلام من نزغ الشيطان، والثانية: أن في الاستعاذة بالله من الشيطان تذكرًا الواجب مجاهدة الشيطان والتيقظِ لكيده، وأن ذلك التيقظ سنة المتقين، فالرسول عليه الصلاة والسلام مأمور بمجاهدة الشيطان: لأنه متق، ولأنه يبتهج بمتابعه سيرة سلفه من المتقين كما قال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده} [الأنعام: 90].
وقد جاءت العلة هنا أعم من المعلل: لأن التذكر أعم من الاستعاذة.
ولعل الله ادخر خصوصية الاستعاذة لهذه الأمة، فكثر في القرآن الأمر بالاستعاذة من الشيطان، وكثر ذلك في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وجعل للذين قبلهم الأمر بالتذكر، كما ادخر لنا يوم الجمعة.
والتقوى تقدم بيانها عند قوله تعالى: {هدى للمتقين} في سورة البقرة (2)، والمراد بهم: الرسل وصالحو أممهم، لأنه أريد جعلهم قدوة وأسوة حسنة.
والمس حقيقته وضع اليد على الجسم، واستعير للإصابة أو لأدْنى الإصابة.
والطائف هو الذي يمشي حول المكان ينتظر الإذن له، فهو النازل بالمكان قبل دخوله المكان، اطلق هنا على الخاطر الذي يخطر في النفس يبعث على فعل شيء نهى الله عن فعله شُبه ذلك الخاطر في مبدأ جولانه في النفس بحلول الطائف قبل أن يستقر.
وكانت عادة العرب أن القادم إلى أهل البيت، العائِذَ برب البيت، المستأنسَ للقرى يستانس، فيطوف بالبيت، ويستأذن، كما ورد في قصة النابغة مع النعمان بن المنذرِ حين أنشد أبياته التي أولها:
أصم أمْ يسمعُ رب القُبّهْ

وتقدمت في أول سورة الفاتحة، ومن ذلك طواف القادمين إلى مكة بالكعبة تشبها بالوافدين على المملوك، فلذلك قُدّم الطواف على جميع المناسك وختمت بالطواف أيضًا، فلعل كلمة طائف تستعمل في معنى الملم الخفي قال الأعشى:
وتُصبح عن غب السُّرَي وكأنّها ** ألمَّ بها من طائِف الجن أَوْلَقُ

وقال تعالى: {فطاف عليها طائفٌ من ربك وهم نائمون} [القلم: 19].
وقراءة الجمهور: {طائف}، بألف بعد الطاء وهمزة بعد الألف، وقراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب: {طيْف} بدون ألف بعد الطاء وبياء تحتية ساكنة بعد الطاء، والطيْف خيال يراك في النوم وهو شائع الذكر في الشعر.
وفي كلمة {إذا} من قوله: {إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا} مع التعبير بفعل {مَسهم} الدال على إصابة غير مكينة، إشارة إلى أن الفزع إلى الله من الشيطان، عند ابتداء إلمام الخواطر الشيطانية بالنفس، لأن تلك الخواطر إذا أمهلت لم تلبث أن تصير عزمًا ثم عملًا.
والتعريف في {الشيطان} يجوز أن يكون تعريف الجنس: أي من الشياطين ويجوز أن يكون تعريف العهد والمراد به إبليس باعتبار أن ما يوسوس به جنده وأتباعُه، هو صادر عن أمره وسلطانه.
والتذكر استحضار المعلوم السابق، والمراد: تذكروا أوامر الله ووصاياه، كقوله: {ذَكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} [آل عمران: 135] ويشمل التذكر تذكر الاستعاذة لمن أمر بها من الأمم الماضية، إن كانت مشروعة لهم، ومن هذه الأمة، فالاقتداءُ بالذين اتقوا يعم سائر أحوال التذكر للمأمورات.
والفاء لتفريع الإبصار على التذكر.
وأكد معنى فاء التعقيب بـ {إذا} الفجائية الدالة على حصول مضمون جملتها دَفعة بدون تريث، أي تذكروا تذكر ذويَ عزم فلم تتريث نفوسهم أن تَبين لها الحقُ الوازع عن العمل بالخواطر الشيطانية فابتعدت عنها، وتمسكت بالحق، وعملت بما تذكرت، فإذا هم ثابتون على هداهم وتقواهم.
وقد استعير الإبصار للاهتداء كما يستعار ضده العمى للضلال، أي: فإذا هم مهتدون ناجون من تضليل الشيطان، لأن الشيطان أراد إضلالهم فسلموا من ذلك ووصفُهم باسم الفاعل دون الفعل للدلالة على أن الإبصار ثابت لهم من قبلُ، وليس شيئًا متجددًا، ولذلك أخبر عنهم بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}.
ومن رحمة الله تعالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مسّهم} ولم يقل: لمسَهم. لأنهم من الذين اتقوا، أي وضعوا بينهم بين صفات جلال الله وقاية تجعلهم يقفون عند حدوده ولذلك يقول: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ}.
والطائف هو الخيال الذي يطوف بالإنسان ليلًا، وبما أن الشيطان لا يرى، لذلك نصوره على أنه خيال، فإذا ما طاف الشيطان بالمس للذين اتقوا وتذكروا خالق الشيطان وخالقهم، وتذكروا منهج الله الذي يصادم شهواتهم، وتذكروا أن عين الله تراهم ولا تغفل عنهم، وأن محارم الله واضحة وبينة، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن بشير: «الحلال بيّن والحرامُ بيّن وبينهما مشَبهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
وإذا ما تذكر المؤمنون العقوبة المترتبة على أي فعل شائن يزينه الشيطان لهم، هنا تزول عنهم أي غشاوة ويبصرون الطريق القويم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائيُّ: {طَيْفٌ} والباقون {طائفٌ} بزنة فاعل.
فأما {طَيْفٌ} ففيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنَّهُ مصدر من: طَافَ يَطِيفُ كبَاعَ يَبِيعُ وأنشد أبو عبيدة: [الكامل]
أنَّى ألمَّ بِكَ الخيالُ يَطِيفُ ** ومطَافُهُ لَكَ ذُكْرَةٌ وشُغُوفُ

والثاني: أنَّهُ مُخففٌ من فَيْعِل والأصل: طَيِّف بتشديد الياءِ فحذف عين الكلمة، كقولهم في: مَيِّت مَيْت، وفي: لَيِّن لَيْن، وفي: هَيِّن هَيْن.
ثم {طَيِّف} الذي هو الأصل يَحْتَمِل أن يكون من: طافَ يطيف، أو من: طَافَ يَطُوفُ والأصل: طَيْوِف فقلب وأدغم.
وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءةُ سعيد بن جبير {طيف} بتشديد الياء.
والثالث: أنَّ أصله طَوْف من طاف يَطُوفُ، فقلبت الواو ياءً.
قال أبُو البقاءِ قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيْد وهو بعيدٌ.
قال شهابُ الدينِ: وقد قالُوا أيضًا في: حَوْل حَيْل، ولكن هذا من الشُّذُوذِ بحيث لا يقاس عليه.
وقوله: وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضيًا لمنع قلبها ياء، بل كان ينبغي أن يقال: وإن كان ما قبلها غير مكسورٍ.
وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل يحتمل أن يكون من: طاف يطُوف، فيكون كـ: قائم وقائلٍ.
وأن يكون من: طاف يطيفُ، فيكون كـ: بَائعٍ ومائل وزعم بعضهم أنَّ: طَيْفًا وطَائِفًا بمعنى واحد ويُعْزَى للفرَّاءِ، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفًا لـ: طَيْف فيجعلهما مصدرين، وقد جاء فاعل مصدرًا، كقولهم: أقائمًا وقد قعد النَّاسُ، وأن يَرُدَّ طَيْفًا لـ: طائف أي: فيجعله وصْفًا على فَعْل.
وقال الفارسي: الطَّيْف كالخَطْرة، والطَّائف كالخَاطر ففرَّق بينهما، وقال الكسائيُّ الطَّيف: اللَّمَم، والطَّائف: ما طاف حول الإنسان.
قال ابنُ عطيَّة: وكيف هذا؛ وقد قال الأعشى: [الطويل]
وتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنَّهَا ** ألمَّ بهَا من طائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ

ولا أدري ما تَعَجُّبُه؟ وكأنه أخذ قوله ما طاف حول الإنسان مقيَّدًا بالإنسان وهذا قد جعله طائفًا بالنَّاقة، وهي سَقْطة؛ لأنَّ الكسائيَّ إنَّما قاله اتفاقًا لا تقييدًا.
وقال أبُو زيدٍ النصاريُّ: طَافَ: أقبل وأدبر، يَطُوف طَوْفًا، وطَوَافًا، وأطاف يُطِيفُ إطَافةً: استدار القومُ من نواحيهم، وطافَ الخيالُ: أمَّ يطيف طَيْفًا.
فقد فرَّق بين ذي الواو، وذي الياء، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى، وفرَّق أيضًا بين فَعَل وأفْعَل كما رأيت.
وزعم السُّهَيْليُّ: أنه لا يُسْتَعمل من طاف الخيالُ اسم فاعل، قال: لأنَّهُ تَخَيُّلٌ لا حقيقة له قال: فأما قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ} [القلم: 19] فلا يقالُ فيه طَيف؛ لأنه اسم فاعل حقيقة؛ وقال حسان: [السريع]
جنَّيَّةٌ أرَّقَنِي طَيْفُهَا ** يَذهَبُ صُبْحًا ويُرى في المنَامْ

وقال السدُّ: الطَّيْفُ الجنون، والطائِفُ: الغضب، وعن ابن عباس هو بمعنى واحد، وهو النَّزغُ.
فصل:
قال المفسرون: الطَّيفُ اللمة والوسوسة.
وقيل: الطَّائِفُ ما طافَ به من سوسة الشيطان، والطيف اللم والمسُّ وقال سعيدُ بن جبير: هو الرَّجلُ يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى، فيكظم الغيظ.
وقال مجاهدٌ: هو الرَّجلُ يهم بالذنبِ، فيذكر اللَّهَ تعالى فيدعه.
{فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} هذه {إذَا} الفُجائيَّة كقولك: خرجتُ فإذا زيد، والمعنى: يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتَّفكر، وقال السديُّ: إذا زلوا تابُوا وقال مقاتلٌ: إنَّ المتقي إذا مسه نزع من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزع عن مخالفة الله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}.
إنما يمس المتقين طيفُ الشيطانِ في ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسَّهم طائف الشيطان، فإن الشيطانَ لا يَقرَبُ قلبًا في حال شهوده الله؛ لأنه ينخنس عند ذلك. ولكن لكل صارمٍ نبوة، ولكلِّ عالمٍ هفوة، ولكل عابدٍ شدة، ولكل قاصدٍ فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارفٍ حجبة، قال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليُغَان على قلبي...» أخبر أنه يعتريه ما يعتري غيرَه، وقال صلى الله عليه وسلم: «الحِدَّةُ تعتري خيار أمتي»، فأخبر أنَّ الأمة- وإنْ جَلَّتُ رُتْبَتَهُم لا يتخلصون عن حِدَّةٍ تعتريهم في بعض أحوالهم فَتُخْرِجُهم عن دوام الحِلْم. اهـ.