فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم باية قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَىَّ مِن رَّبِّى}.
معطوفة على جملة: {وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199] والمناسبة أن مقالتهم هذه من جهالتهم والآية يجوز أن يراد بها خارق العادة أي هم لا يقنعون بمعجزة القرآن فيسألون آيات كما يشاءون مثل قولهم: {تفجر لنا من الأرض ينبوعًا} وهذا المعنى هو الذي شرحناه عند قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمنن بها} في سورة الأنعام (109).
وروي هذا المعنى عن مجاهد، والسُدي، والكُلبي ويجوز أن يراد بآية ءاية من القرآن يقترحون فيها مدحًا لهُم ولأصنامهم، كما قال الله عنهم: {قال الذين لا يرجون لقاءنا ائْتتِ بقرآن غير هذا أو بَدلْه} [يونس: 15] روي عن جابر بن زيد وقتادة: كان المشركون إذا تأخر الوحي يقولون للنبيء هلا أتيت بقرآن من عندك يريدون التهكم.
و{لولا} حرف تحْضيض مثل هلا.
والاجتباء الاختيار، والمعنى: هلاّ اخترت آية وسألت ربك أن يعطيكها، أي هلا أتيتنا بما سألناك غير آية القرآن فيجيبك الله إلى ما اجتبيتَ، ومقصدهم من ذلك نصب الدليل على أنه بخلاف ما يقول لهم إنه رسول الله، وهذا من الضلال الذي يعتري أهل العقول السخيفة في فهم الأشياء على خلاف حقائقها وبحسب من يتخيلون لها ويفرضون.
والجواب الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به وهو قوله: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} صالح للمعنيين، فالاتباع مستعمل في معنى الاقتصار والوقوف عند الحد، أي لا أطلب آية غير ما أوحى الله إلي، ويعضد هذا ما في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من الأنبياء إلا أوتي من الآيات مَا مثلُه آمنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» ويكون المعنى: إنما انتظر ما يوحى إلى ولا أستعجل نزول القرآن إذا تأخر نزوله فيكون الاتباع متعلقًا بالزمان.
مستأنفة لابتداء كلام في التنويه بشأن القرآن منقطعه عن المقول للانتقال من غرض إلى غرض بمنزلة التذييل لمجموع أغراض السورة، والخطاب للمسلمين.
ويجوز أن تكون من تمام القول المأمور بأن يجيبهم به، فيكون الخطاب للمشركين ثم وقع التخلص لذكر المؤمنين بقوله: {وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.
والإشارة بـ {بهذا بصائر} إلى القرآن، ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من السورة أو من المحاجة الأخيرة منها، وإفراد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور.
والبصائر جمع بصيرة وهي ما به اتضاح الحق وقد تقدم عند قوله تعالى: {قد جاءكم بصائر من ربكم} في سورة الأنعام (104)، وهذا تنويه بشأن القرآن وأنه خير من الآيات التي يسألونها، لأنه يجمع بين الدلالة على صدق الرسول بواسطة دلالة الإعجاز وصدوره عن الأمي، وبين الهداية والتعليم والإرشاد، والبقاء على العصور.
وإنما جمع البصائر لأن القرآن أنواعًا من الهدى على حسب النواحي التي يهدي إليها، من تنوير العقل في إصلاح الاعتقاد، وتسديد الفهم في الدين، ووضع القوانين للمعاملات والمعاشرة بين الناس، والدلالة على طرق النجاح والنجاة في الدنيا، والتحذير من مهاوي الخسران.
وأفرد الهدى والرحمة؛ لأنهما جنسان عامان يشملان أنواع البصائِر فالهدى يقارن البصائِر والرحمة غاية للبصائر، والمراد بالرحمة ما يشمل رحمة الدنيا وهي استقامة أحوال الجماعة وانتظام المدنية ورحمة الآخرة وهي الفوز بالنعيم الدائم كقوله تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فنلحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون} [النحل: 97].
وقولُه: {من ربكم} ترغيب للمؤمنين وتخويف للكافرين.
و{لقوم يؤمنون} يتنازعه {بصائر} و{هدى} و{رحمة} لأنه إما ينتفع به المؤمنون، فالمعنى هذا بصائر لكم وللمؤمنين، و{هدى ورحمة لقوم يؤمنون} خاصة إذ لم يهتدوا، وهو تعريض بأن غير المؤمنين ليسوا أهلًا للانتفاع به وأنهم لهوًا عن هديه بطلب خوارق العادات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا}.
وقد جاء الحق تبارك وتعالى من قبل بكلمة آيات، والآيات- كما أوضحنا- إما آيات كونية وإما آيات المعجزات الدالة على صدق الرسل، وإما آيات الأحكام.
والله سبحانه وتعالى جاء هنا بكلمة: آية لا آيات، والكون أمامهم ملئ بآياته، والمنهج المنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام واضح، ولا ينقص إلا أن تأتي الآية المعجزة- من وجهة نظرهم- وينبه الحق هؤلاء بقوله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السماء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 89- 93].
إذن فالآياتُ المعجزاتُ التي طلبوها، لا يأتي بها الرسول من عنده، والآيات التي ينزل بها المنهج أيضًا ليست من عنده، بل هي تنزيل من لدن عزيز حكيم. وكانوا يتهمونه صلى الله عليه وسلم أنه يفتري القرآن. لذلك طلبوا منه صلى الله عليه وسلم المعجزة الحسية متناسين ما جاءت به آيات القرآن الكريم من معجزة لم يستطيعوا هم أن يأتوا بآية واحدة من مثل آياتها؛ وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي}.
يأمره هنا ربه أن يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} أي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مكلف أن يبلغهم بما يأتي به الوحي يحمله الروح الأمين جبريل عليه السلام من آيات القرآن الحاملة للمنهج الإلهي، وهذا المنهج في حد ذاته معجزة متجددة العطاء، لذلك يضيف: {... هذا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
ففي القرآن الكريم بصائرُ وهدىً رحمةُ، والبصائر جمع بصيرة، من الإبصار، إذا امتلأ القلب بنور اليقين الإيماني فإن صاحبه يعيش في شفافية وإشراق، ويسمى صاحب هذه الرؤية المعنوية صاحب بصيرة، أما البصر فهو مهمة العين في الأمور الحسية، لكنْ هناك أمور معنوية لا تكشفها إلا البصيرة، والبصيرة تضيء القلب بالنور حتى يستكشف تلك الأمور المعنوية، ولا يمتلك القلب البصيرة إلا حين يكونُ مشحونًا باليقين الإيماني.
والقرآن الكريم بصائر؛ لأنه يعطي ويمنح من يؤمن به ويتأمله بصائر ليجدد الأمور المعنوية وقد صارت مُبصَرَةً، وكأنه قادر على رؤيتها ومشاهدتها وكأنها عينُ اليقين.
وهذا القرآن المجيد بصائرُ وهدى، أي يدل الإنسان ويهديه إلى المنهج الحق وإلى طريق الله المستقيم، وهو رحمةٌ أيضًا لمن لا يملك إشراقات القلب التي تهدي للإيمان ولا يملك قوة أخذ الدليل الذي يوصله إلى الهداية، إذن فهو رحمة لكل الناس، وهدى لمن يسأل عن الدليل، وبصائر لمن تيقين أصول الإيمان مشهديًا.
وكما قلنا من قبل: إنَّ الله قد أخبر المؤمنين بأمور غيبية، ومن هذه الأمور الغيبية أن له جنةً وأن له نارًا، وصدق المؤمنون بكل ما جاءهم من البلاغ عن ربهم، وعلموا أن ذلك من الله، وصار هذا العلم علم يقين كقدر مشترك فيما بينهم، فإذا جاءَ يوم القيامة ورأوا الصراط مضروبًا عن متن جهنم مطابقًا لما صدقوه وصار عين يقين، وإذا ما دخل بعضهم النار- والعياذ بالله- تكفيرًا لذنوب ارتكبوها، فهذا حق يقين. وضربت المثل من قبل- ولله المثل الأعلى- كان الجغرافيون يحدثوننا ونحن طلاب عن خريطة الولايات المتحدة، ويقولون: إن عاصمتها واشنطن، والميناء الكبير فيها اسمه نيويورك، وفي نيويورك توجد ناطحات السحاب وهي مبان ضخمة يزيد ارتفاع المبنى الواحد من هذه المباني على مائة طابق أي أكثر من مائتي متر، وصدقنا نحن أستاذ الجغرافيا، وعندما أتيحت للبعض منا فرصة السفر ورأوا واشنطن ونيويورك من الطائرة، صارت الرؤية عين يقين بعد أن كانت علم يقين. وعند هبوط الطائرة في مطار واشنطن صارت الرؤية حق يقين.
وقد عرض الحق سبحانه وتعالى لنا الإيمان ببعض من الغيب في قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين * لَتَرَوُنَّ الجحيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 1- 7].
أورد سبحانه هناك {علم اليقين} و{عين اليقين}، وأما {حق اليقين} فقد جاء في قوله: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 88- 95].
والمؤمنون المصدقون بأخبار الغيب على درجات مختلفة.. فهناك من صدق الله في الخبر عن الغيب كعين يقين، وهناك من صدق قول الله حق اليقين، ولذلك فإننا نجد الإمام عليا- كرم الله وجهه- يقول: «لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا».
وفي الحوار الآتي الذي دار بين حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي الجليل الحارث بن مالك ما يكشف لنا جوهر هذا اللون من الإيمان:
فقد روى الحارث بن مالك الأنصاري: أنه مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا، قال: «انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظلمت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضارغون فيها. فقال يا حارث عرفت فالزم ثلاثًا».
هذا الصحابي الجليل وصل إلى أن كل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قد صار حق يقين، وامتلك البصيرة التي رأى بها كلَّ ذلك.
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هذا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
وهكذا نجد القرآن الكريم بصائر لأصحاب المنزلة والدرجات العالية، وهدى لأصحاب الاستدلال ورحمةً للجميع. اهـ.