فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}.
وما دام قد أوضح لك المولى سبحانه وتعالى من قبل أن هذا القرآن بصائر من ربنا وهدى ورحمة، ألا يستحق أن تحتفي به أيها المؤمن؟.. ألا تجذبك هذه الحيثيات الثلاث لأن تعطي له أذنك وألا تنصرف عنه؟.
إذن لابد أن تنصت للقرآن الكريم لتتلقى الفوائد الثلاث؛ البصائر، والهدى، والرحمة، وهو حقيق وجدير أن يُحْرَص على سماعه إن قُرئ.
ولنلحظ أن الله تعالى قال: {فاستمعوا لَهُ} ولم يقل اسمعوا، لأن الاستماع فيه تعمد أن تسمع، أما السمع فأنت تسمع كل ما يقال حولك، وقد تنتبه إلى ما تسمع وقد لا تنتبه، ومن الرحمة المحمدية يقول حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ناهيًا عن التسمع لأسرار الغير تجسسًا عليهم بالبحث عن عوراتهم فيما يرويه عنه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تجسَّسُوا ولا تحسّسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا».
وفي هذا تحذير من هذه الأمور الخمسة التي منها التلصص والتصنت إلى أسرار الناس. {وَإِذَا قرئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
والإنسان قد يصمت ويستمع ولكن بغير نية التعبد فيحرم من ثواب الاستماع، فاستمع وأنصت بنية العبادة، لأن الله هو الذي يتكلم، وليس من المعقول والتأدب مع الله أن يتكلم ربك ثم تنصرف أنت عن كلامه، وقد لفت أنظارنا سيدنا جعفر الصادق: ونبهنا إلى ما فيه الخير حيث يقول: عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، فإني سمعت الله عقبها يقول: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء}.
وعجبت لمن اغتم، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فإني سمعت الله عقبها يقول: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين}.
وعجبت لمن مُكر به، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد}. فإني سمعت الله عقبها يقول:- {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ}.
وعجبت لمن طلب الدنيا ولم يَفْزَع إلى قوله تبارك وتعالى: {مَا شَاءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله}. فإني سمعت الله عقبها يقول: {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ}.
ونحن حين نستمع لقراءة القرآن الكريم بنية التعبد فذلك هو حُسْن الأدب الذي يجب أن نستقبل به العبر التي تعود بالفائدة علينا.
ووقف العلماء حول الإنصات سماعًا للقرآن؛ أيكون الإنصات إذا قرئ القرآن مطلقًا في أي حال من الأحوال، أو حين يُقرأ في الصلاة، أو حين يُقرأ في خطبة الجمعة؟
وقد اختلفوا في ذلك، فبعضهم قال: إن المقصود هو الإنصات للقرآن حين يُقرأ في الصلاة، والسبب في ذلك أن الأوائل من المسلمين كانوا حينما يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، يعيدون بعده كل جملة قرآها فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم؛ قالوا: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قالوا: الحمد لله رب العالمين فينبههم الله عز وجل إلى أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وهم يستمعون إليه دون ترديد للقراءة.
وقال آخرون من العلماء: الإنصات للقرآن الكريم يكون في الصلاة، وفي خطبة الجمعة أو العيدين، لأنها تشتمل على آيات من القرآن، ولكن اشتمالها على الآيات أقل مما يقوله الخطيب، ونبه البعض إلى أن الإنصات للخطبة ثبت بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت».
إذن الإنصات للخطبة جاء بدليل من السنة.
وهناك قول بأن الاستماع مطلوب للقرآن في أي وضع من الأوضاع حين يُقرأ؛ ففي هذا احترامٌ ومهابةٌ لكلام الله عز وجل، وينسب هذا القول إلى إمامنا وسيدنا ومولانا سيدي أبي عبدالله الحسين، فيقول:
إذا قُرئ القرآن سواءٌ إن كنت في صلاة أو كنت في خطبة، أو كنت حرًّا فأنصت؛ لأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يميز القرآن على مطلق الكلام، فميزه بأشياءَ، إذا قُرئ ننصت له، وإذا مسّ المصحف لابد أن يكون على وضوء حتى لا يجترئ الناس ويمسّوا المصحف كأي كتاب من الكتب، وهذا يربي المهابة فلا تمسك المصحف إلا وأنت متوضئ، فإذا علمنا أولادنا، نقول للواحد منهم: لا تقرب المصحف إلا وأنت متوضئ؛ فتنشأ المهابة في نفس الولد.
وأيضًا في الكتابة شاء الحق تبارك وتعالى لبعض ألفاظه كتابة خاصة غير كتابة التقعيد الإملائي؛ حتى يكون للقرآن قداسة خاصة، فهو كتاب فريد وليس ككل كتاب وكلامه ليس ككل كلام. {وَإِذَا قرئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
وبعض العلماء قال: ليس المطلوب مجرد الاستماع بالآذان، بل المقصود بالاستماع هنا هو أن نستجيب لمطالبه، ألا تقولون لبعضكم حين يدعو بعضكم لبعض: الله يسمع دعاك؟ إنك تقولها وأنت تعلم أن الله سامعك، ولكنك تقصد بها أن يستجيب سبحانه وتعالى لهذا الدعاء، إذن فالاستماع للقرآن يقتضي الاستجابة لمطلوبات القرآن. لماذا؟ لننال الرحمة من الحق فهو الرحمن الرحيم. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
ونعلم أن لعل وعسى حين تقال يقصد بها الرجاء، وليت تعني التمني وهو مستحيل ولا يُتَوَقّع، ونحن نتمنى لنظهر أن هذا أمر محبوب لنا، لكننا نعلم أنه مستحيل، مثلما قال الشاعر العجوز:
ألا ليت الشباب يعود يوما ** فأخبره بما فعل المشيب

إنه يعلم يقينًا أن الشباب لن يعود ولكن قوله يدل على أن الشباب فترة محبوبة. ومثل قول الشاعر:
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ** عقود مدح فما أرضى لكم كَلِم

ولن تدنو الكواكب.
إذن ساعة تسمع عسى أو لعل يتبادر إلى ذهنك أن هذا رجاء لأن يحدث، وإذا كان رجاء من الله، فهو رجاء من كريم لابد له من واقع.
ويقول الحق بعد ذلك:
والذكر مرور الشيء، إن كان بالبال، فهو ذكر في النفس، وإن كان باللسان ولا يُسْمِع الغير ويُسْمِعك أنت فهذا ذكر السر، وإن كان جهرا فهو قسمان؛ جهر مقبول، وجهر غير مقبول، والجهر غير المقبول هو أن يتحول الذِّكرُ إلى إزعاج والعياذ بالله، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {... وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلًا} [الإسراء: 110].
ولعل إخواننا القراء يتنبهون إلى هذه الآية؛ تنبهًا يجعلهم يلتفتون إلى أداء أمر الله في هذا المجال فلا يجهرون ولا يرفعون أصواتهم به لدرجة الإزعاج، لأني أقول لكل واحد منهم: إن ربك لم يطلب منك حتى الجهر، إنما طلب دون الجهر، وأقول ذلك خاصة لهؤلاء الذين يفسدون نعمة الله على خلقه؛ فيصيحون ليلا ويمنعونهم من رحمة الله ليلا التي قال عنها: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73].
فلا تفسدوا على الناس رحمة ربنا؛ لأن الدعوة إلى الله ليست صياحًا على المنابر، إلا إذا كنتم تصنعون لأنفسكم دعاية إعلامية على مساجد الله وعلى منابر الله. وهذا أمر مرفوض وغير مقبول شرعًا. {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} والحق تبارك وتعالى يقول مرة: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41].
ومرة يقول: {واذكر رَّبَّكَ}.
وقوله: اذكر الله يستشعر سماعها التكاليف؛ لأن الله هو المعبود، والمعبود هو المطاع في الأوامر والنواهي.
أما قوله: {اذكر ربك} فهو تذكير لك بما حباك به من أفضال؛ خلقك ورباك وأعطاك من فيض نعمه ما لا يعد ولا يحصى. فاذكر ربك؛ لأنك إن لم تعشقه تكليفًا، فأنت قد عشقته لأنه ممدك بالنعم، وسبحانه يتفضل علينا ويوالينا جميعًا بالنعم.
وأضرب لك هذا المثل- ولله المثل الأعلى وهو منزه عن التشبيه- وأنت لك أولاد، وتعطي لهم مصروفًا، وحين تعطي لهم المصروف كل شهر، تجدهم لا يحرصون على أن يروك إلا كل شهر، لكن إن كنت تعطي مصروفهم يوميا فأنت تلتفت لتجدهم حولك، فإن كنت نائمًا يدخل ابنك لغرفة نومك يسير بجانبك ويتنحنح ليقول إنه يحتاج لشيء موجود بالغرفة، فما بالك وأنت بكل وجودك عبد لإحسان ربك؟ وما دمت عبد الإحسان فاذكر من يحسن إليك، اذكر ربك دائمًا.
واذكره على حالين: الأول تضرعًا. أي بذلة، لأنك قد تذكر واحدًا بكبرياء، إنما الله الخالق المحسن يجب عليك أن تذكره بذلة عبودية لمقام الربوبية، واذكر ربك {خيفة} أي خائفًا متضرعًا؛ لأنك كلما ذللت له يعزك، ولذلك نجد العبودية مكروهة في البشر وهي استعباد، والناس ينفرون ممن يستعبدهم؛ لأن عبودية الإنسان لمساويه طغيان كبير وظلم عظيم فهي تعطي خير العبد للسيد، ولكن عبوديتك لله تعطي خير الله لك. ولذلك نجد الحق يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1].
وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة كبرى بحادث الإسراء، وكان الحديث عنها بامتنان من الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والشاعر المؤمن يقول:
حسب نفسي عزًا بأني عبد ** يحتفي بي بلا مواعيد رب

هو في قدسه الأعز ولكن ** أنا ألقي متى وأين أحب

وأنت أيها العبد المؤمن تلقى الله متى أردت، وإذا أسلمت زمامك للإيمان؛ فالزمام في يدك. يكفي أن تنوي الصلاة وتقول: الله أكبر فتكون في حضرته سبحانه سواء كنت في البيت أو في الشارع أو في أي مكان. وفي منتهى العزة لك. {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول...} [الأعراف: 205].
ولم يقل هنا رب العالمين: بل ربك أنت يا محمد، وهذه قمة العطاءات التي جاءت للناس، فهذا العطاء الذي جاء بمحمد رسولًا، نعمةٌ ومنةٌ من الله على المؤمنين برسالته، وبعد ذلك ينسب لكل مسلم العطاء الذي جاء لمحمد. وقوله تعالى لرسوله: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي أنه سبحانه لم يجعل دليل عنايته بك مقصورًا على ما يشاهد في الخارج والبعيد عنك فقط؛ لأنك قد لا ترى شيئًا في الكون أو لا تسمع شيئًا في الكون؛ لأن الكون منفصل عنك، إنما انظر إلى نفسك أنت وستجد الآيات كلها تذكرك بخالقك، {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].
فقبل أن يجعل ربنا الدليل في الكون الذي حولك، جعل لك الدليل أيضا في نفسك؛ لأن نفسك لا تفارقك وأنت أعلم بملكاتها وبجوارحها، وبنوازعها، ولهذا كان التضرع إلى الله والخيفة منه لهما مجال هنا؛ لأنك تستطيع أن ترى سر صنعته فيك، وستجد الكثير من الآيات، وهي آيات أكبر منك، لذلك أنت تتضاءل أمام من وهب لك كل هذا، وتخاف ألا تؤدي حقه لديك.
ونعود إلى قول الله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول بالغدو والآصال} والذكر حَدَثٌ، والحدَثُ يحتاج إلى زمان وإلى مكان. والغدو والآصال زمنان يستوعبان النهار؛ فالغدو هو أول النهار، والآصال هو من العصر للمغرب، مثلما نقول شمس الأصيل.
وهذه الآية الكونية تتكرر في القرآن الكريم كثيرا، فالحق تبارك وتعالى يقول: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41- 42].