فصل: الْبَابُ الْخَامِسِ: فِي آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَمَا قَبْلَهُ الْمُؤَيَّدَةُ بِأَضْعَافِهَا فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى، تُثْبِتُ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ لِشَأْنِ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ؛ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِاللهِ وَشَرَائِعِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَبِسُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَتَعْظِيمَ شَأْنِ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ مِنْ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى نَقْصِ أَهْلِ الْجَهْلِ بِهَا.
(الْأَصْلَانِ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ) أَمْرُ النَّاسِ بِأَخْذِ زِينَتِهِمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَبِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمِنَ الرِّزْقِ، وَبَيَانُ أَنَّهَا حَقٌّ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوَّلًا، وَبِالذَّاتِ بِقَيْدِ عَدَمِ الِاعْتِدَاءِ وَالْإِسْرَافِ فِيهَا، وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا بِعُمُومِ فَضْلِ اللهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِهِمْ، وَأَنَّهَا تَكُونُ خَالِصَةً لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَتَيْنِ 31 و32 وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا الرُّكْنَانِ اللَّذَانِ يَقُومُ عَلَيْهِمَا بِنَاءُ الْحَضَارَةِ بِعُلُومِهَا وَفُنُونِهَا وَصِنَاعَاتِهَا، وَإِظْهَارِهَا لِمَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ، وَأَسْرَارِ صُنْعِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَهُمَا الْمُبْطِلَانِ لِأَسَاسِ الدِّيَانَةِ الْبِرَهْمِيَّةِ مِنْ جَعْلِ مَقْصِدِ الدِّينِ تَعْذِيبَ النَّفْسِ، وَحِرْمَانَهَا مِنَ الزِّينَةِ وَاللَّذَّةِ، وَقَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ النَّصَارَى، وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ تَقْلِيدِهِمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ دَارَ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ خَالِيَةٌ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ، خِلَافًا لِبَعْضِ تَصْرِيحَاتِ الْإِنْجِيلِ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي الْمَلَكُوتِ، وَكَوْنِ الصَّائِمِينَ وَالْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ يَشْبَعُونَ هُنَالِكَ.
وَلَمَّا كَانَ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ كَغَيْرِهِ مِنْ أُمُورِ الْبَشَرِ يَقْوَى الِاسْتِعْدَادُ لَهُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مَنْ كُلِّ أُمَّةٍ، بَدَأَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْمُبَالِغِينَ فِي الْعِبَادَةِ بِتَرْكِ أَكَلِ اللُّحُومِ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ بِالِاخْتِصَاءِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَعَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَنَزَلَ فِي شَأْنِهِمْ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} (5: 87) الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ بِمَعْنَى مَا هُنَا.
وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ كُلُّهُ بَعْضَ مُسْلِمِي الْمُتَصَوِّفَةِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي تَرْكِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ، وَصَارَ الْجَاهِلُونَ بِكُنْهِ الْإِسْلَامِ يَعُدُّونَ الْغُلُوَّ فِي ذَلِكَ هُوَ الْكَمَالَ فِي الدِّينِ، وَأَهْلَهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَإِنْ كَانُوا جَاهِلِينَ خُرَافِيِّينَ. وَيُرَاجَعُ مَا فِي تَفْسِيرِنَا لِلْآيَتَيْنِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنْ مُفَسِّرِينَا الْمُتَقَدِّمِينَ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى (ص338- 350 ج 8 ط الْهَيْئَةِ).
(الْأَصْلُ السَّابِعُ) هِدَايَةُ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ بِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ خِيَارَ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آيَةِ 159، وَخِيَارَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ 181، فَهَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ الْعَامَّةِ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِهِ. وَالْحَقُّ هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ فِي الشَّرْعِ إِنْ كَانَ شَرْعِيًّا، وَفِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ إِنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا، وَالْعَدْلُ مَا تُحِرِّيَ بِهِ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ إِلَى طَرَفٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوِ الْأَطْرَافِ الْمُتَنَازِعَةِ فِيهِ أَوِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَصْلِ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّضْحِيَةُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (29) وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْعَامُّ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ بَيْنَ النَّاسِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْمَدَنِيَّةِ إِذْ صَارَ لِلْأُمَّةِ حُكْمٌ وَدَوْلَةٌ: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (4: 58) وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي وُجُوبِ عُمُومِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعَ تَفْسِيرِهَا. فَمَنْ تَحَرَّى الْعَدْلَ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ وَعَرَفَ مَكَانَهُ فَحَكَمَ بِهِ، كَانَ حَاكِمًا بِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى نَصٍّ خَاصٍّ فِي الشَّرِيعَةِ بِهِ، فَإِنْ وَجَدَ النَّصَّ كَانَتِ الثِّقَةُ بِالْعَدْلِ أَتَمَّ بَلْ لَا حَاجَةَ مَعَ النَّصِّ إِلَى الِاجْتِهَادِ، كَمَا أَنَّ الِاجْتِهَادَ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ الْخَاصِّ أَوْ لِلْعَدْلِ الْعَامِّ بَاطِلٌ.
(الْأَصْلُ الثَّامِنُ) حَصْرُ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ الدِّينِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (33) يُرَاجَعُ بَيَانُ وَجْهِ الْحَصْرِ فِي تَفْسِيرِهَا (ص351- 357 ج 8 ط الْهَيْئَةِ).
(الْأَصْلُ التَّاسِعُ) بَيَانُ أُصُولِ الْفَضَائِلِ الْأَدَبِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ الْجَامِعَةِ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ مُعْجِزَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.

.الْبَابُ الْخَامِسِ: فِي آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ:

وَفِيهِ 14 أَصْلًا:
(1) خَلْقُ اللهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَنِظَامُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ بِأَمْرِهِ، وَكَوْنُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ لَهُ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ فِي الْآيَةِ 54 وَهِيَ تَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي عِلْمَيِ الْفَلَكِ وَالْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ دُونَ عِلْمِ التَّنْجِيمِ الْخُرَافِيِّ، وَقَدْ بَلَغَ أَهْلُ الْغَرْبِ مِنَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَا لَوْ ذُكِرَ أَبْسَطُهُ وَأَبْعَدُهُ عَنِ الْغَرَابَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْعَصْرِ لَقَالَ فِيهِ أَذْكَى الْعُقَلَاءِ إِنَّهُ مِنْ هَذَيَانِ الْمَجَانِينِ، أَوْ تَخَيُّلِ الْحَشَّاشِينَ، وَلَا يُوجَدُ عِلْمٌ أَدَلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ وَقُدْرَتِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ، وَدِقَّةِ حِكْمَتِهِ مِنْ عِلْمِ الْفَلَكِ، وَقَدْ كَانَ قَوْمُنَا الْعَرَبُ فِي عَهْدِ حَضَارَتِهِمُ الْإِسْلَامِيَّةِ أَعْلَمَ الْبَشَرِ بِهِ، فَصَارُوا أَجْهَلَهُمْ بِهِ.
(2) خَلْقُ اللهِ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَ وَإِحْيَاؤُهُ الْأَرْضَ بِهِ، وَإِخْرَاجُهُ الثَّمَرَاتِ وَالْخِصْبَ وَضِدَّهُ، وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ 57 و58 وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قُلْنَاهُ فِيمَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ مَعْرِفَةِ آيَاتِ اللهِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ مَا يُعْطِي مُتَأَمِّلَهُ الْيَقِينَ فِي الْإِيمَانِ إِذَا قَصَدَهُ، وَيُغْدِقُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ الَّتِي مَنَّ عَلَيْهِ بِهَا، وَيُعِدُّهُ لِشُكْرِهَا فَتَجْتَمِعُ لَهُ بِذَلِكَ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ، وَقَدِ اتَّسَعَتْ عُلُومُ بَعْضِ الْبَشَرِ بِذَلِكَ فَاسْتَحْوَذُوا عَلَى أَكْثَرِ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ فِي بِلَادِهِمْ، وَبِلَادِ الْجَاهِلِينَ بِهَا، الَّذِينَ أَضَاعَ الْجَهْلُ عَلَيْهِمْ دُنْيَاهُمْ وَدِينَهُمْ بِالتَّبَعِ لَهَا.
(3) خَلْقُ اللهِ النَّاسَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلْقُ زَوْجِهَا مِنْهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، وَإِعْدَادُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِلتَّنَاسُلِ كَمَا فِي الْآيَةِ 189 وَفِي قِصَّةِ جَنَّةِ آدَمَ وَمَعْصِيَتِهِ وَتَوْبَتِهِ مِنَ الْآيَاتِ 19- 25 بَعْضُ صِفَاتِ النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَاسْتِعْدَادِهَا وَحَالِهَا فِي سُكْنَى الْأَرْضِ.
(4) تَفْضِيلُ اللهِ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ عَلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (11) وَبَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ تَفْصِيلًا لِمَا تَقْتَضِيهِ قِصَّةُ آدَمَ الْمُطَوَّلَةُ فِيهَا، وَالتَّصْرِيحُ فِيهَا بِجَعْلِ آدَمَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَفِي بَابِ التَّأْوِيلِ هُنَالِكَ سَبْحٌ طَوِيلٌ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِيمَا نَعْلَمُ. فَيُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
(5) خَلْقُ بَنِي آدَمَ مُسْتَعِدِّينَ لِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى، وَإِشْهَادُ الرَّبِّ إِيَّاهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَشَهَادَتُهُمْ بِذَلِكَ بِمُقْتَضَى فِطْرَتِهِمْ، وَمَا مُنِحُوهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَحُجَّتُهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ 172 و173 فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ. وَكَذَا خَلْقُهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلشِّرْكِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ كَمَا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا وَالْآيَةِ 190.
(6) ضَرْبُ الْمَثَلِ لِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِكُلٍّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبِرِّ وَالْإِثْمِ، وَعَلَامَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِمْ، وَكَوْنُهُمْ يُعَرَّفُونَ بِثِمَارِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} (58)، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ بِأَثَرِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَثَرِ بِمَصْدَرِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْأَشْيَاءِ خَبِيثًا وَطَيِّبًا، وَجَيِّدًا وَرَدِيئًا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِلَخْ وَهُوَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا.
(7) الْكَلَامُ فِي إِبْلِيسَ وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَعَدَاوَتِهِ لِآدَمَ، وَامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، وَوَسْوَسَتِهِ لَهُ وَلِزَوْجِهِ بِالْإِغْرَاءِ بِالْمَعْصِيَةِ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَعَاقِبَةِ ذَلِكَ. وَهُوَ فِي الْآيَاتِ 20- 25 وَكَوْنِهِ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
(8) عَدَاوَةُ إِبْلِيسَ وَالشَّيَاطِينِ مِنْ نَسْلِهِ لِبَنِي آدَمَ، وَتَزْيِينُهُمْ لَهُمُ الشَّرَّ وَالْبَاطِلَ، وَإِغْرَاؤُهُمْ بِالْفَسَادِ وَالْمَعَاصِي وَحِكْمَةُ ذَلِكَ، وَهِيَ فِي الْآيَاتِ 16 و17 و20- 22 و27 وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْهُ فِي الْآيَةِ 27 مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ يَرَاهُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ.
(9) نَزْغُ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ، وَمُقَاوَمَتُهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَكَوْنُ الْمُتَّقِينَ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْهُ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ لَا تَطُولُ غَفْلَتُهُمْ فَيَغُرُّهُمْ وَسْوَاسُهُ، وَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ 200- 202.
(10) بَيَانُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءُ لِلْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ فِي فَاصِلَةِ الْآيَةِ 27 وَبَيَانُ أَنَّ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ مِنْ بَنِي آدَمَ يُمَكِّنُونَ الشَّيَاطِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِعَدَمِ تَقْوَاهُمْ، فَهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ وَلَا يُقْصِرُونَ فِيهِ، وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ 202.
قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا عَلَى مَبَاحِثِ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ قَدْ أَحَلْنَا عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْأَعْرَافِ، وَزِدْنَا عَلَى ذَلِكَ عَقْدَ فَصْلٍ اسْتِطْرَادِيٍّ فِي حِكْمَةِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى الْخَلْقَ، وَاسْتِعْدَادِ الشَّيْطَانِ وَالْبَشَرِ لِلشَّرِّ. فَيُرَاجَعُ (فِي ص302- 306 ج 8 ط الْهَيْئَةِ).
(11) مِنَّةُ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ بِتَمْكِينِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَتَسْهِيلِ أَسْبَابِ الْمَعَايِشِ لَهُمْ كَمَا فِي الْآيَةِ 10، وَمِنَ الشُّكْرِ الْوَاجِبِ لَهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ طَلَبُ سَعَةِ الْعِلْمِ بِاسْتِعْمَارِ الْأَرْضِ وَوَسَائِلِ الْمَعَايِشِ.
(12) مِنَّةُ اللهِ عَلَى الْبَشَرِ بِاللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ 26 وَرَاجِعْ فِي ذَلِكَ الْأَصْلَيْنِ 5 و6 مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ.
(13) صِفَاتُ شِرَارِ الْبَشَرِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِجَهَنَّمَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَهْمَلُوا اسْتِعْمَالَ عُقُولِهِمْ وَحَوَاسِّهِمْ فِيمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنِ اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ- وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَةِ 179 وَذُكِرَتْ فِي أَصْلِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ (وَهُوَ 11 مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ) وَفِي تَعْظِيمِ شَأْنِ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ (وَهُوَ الْأَصْلُ 3 مِنَ الْبَابِ 4).
(14) آيَاتُهُ تَعَالَى وَنِعَمُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتُرَاجَعُ فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَهُمْ.

.الْبَابُ السَّادِسُ: فِي سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ الْبَشَرِيِّ:

وَفِيهِ 7 أُصُولٍ:
(1) إِهْلَاكُ اللهِ الْأُمَمَ بِظُلْمِهَا لِنَفْسِهَا وَلِغَيْرِهَا، كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ 4 و5 وَمِصْدَاقُهُ فِي خَلْقِ آدَمَ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْبَشَرِيَّةِ، وَجَعْلُهُ تَعَالَى الْمَعْصِيَةَ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ ظُلْمًا لِلنَّفْسِ فِي الْآيَةِ 19 وَاعْتِرَافُ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِي دُعَاءِ تَوْبَتِهِمَا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِمَا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا (23) وَبِأَنَّ شَأْنَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْأَفْرَادِ أَنْ تُغْفَرَ بِالتَّوْبَةِ فَيُعْفَى عَنْ عِقَابِهَا، وَهُوَ خُسْرَانُ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِمَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَأَمَّا خَسَارَةُ الْأُمَمِ فَهِيَ إِضَاعَةُ اسْتِقْلَالِهَا، وَسُلْطَانُ أُمَّةٍ أُخْرَى عَلَيْهَا تَسْتَذِلُّهَا، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ، وَأَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ لابد مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا ظُلْمُ الْأَفْرَادِ وَعِقَابُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَيُرَاجَعُ فِي الْأَصْلِ 4 مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ.
(2) بَيَانُ أَنَّ لِلْأُمَمِ آجَالًا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْ أَسْبَابِهَا الَّتِي اقْتَضَتْهَا السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ 34، وَكَوْنُهَا إِذَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِهَذِهِ السُّنَنِ تُؤْخَذُ بَغْتَةً، وَعَلَى غَفْلَةٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَاتِ 94- 100 وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَرَدَتْ فِي عِقَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ، وَكَانَ عِقَابُهَا وَضْعِيًّا لَا اجْتِمَاعِيًّا- وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْأُمَمِ نَوْعَانِ:
(أَحَدُهُمَا) الْعِقَابُ بِمَا تَوَعَّدَ تَعَالَى بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ رُسُلِهِ وَمُعَانَدَتِهِمْ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عِقَابِ الْحُكَّامِ لِرَعَايَاهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرَائِعِ أُمَّتِهِمْ وَقَوَانِينِهَا وَنُظُمِهَا.
(وَثَانِيهِمَا) الْعِقَابُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْجَرَائِمِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَاقَبُ بِهِ الْمَرِيضُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ طَبِيبِهِ فِي مُعَالَجَتِهِ لَهُ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى كَذَا مِنَ الْغِذَاءِ، وَالْتِزَامِ كَذَا مِنَ الدَّوَاءِ. (رَاجِعْ ص257 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ).
(3) ابْتِلَاءُ اللهِ الْأُمَمَ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ تَارَةً، وَبِضِدِّهَا مِنَ الرَّخَاءِ وَالنَّعْمَاءِ تَارَةً أُخْرَى. فَإِمَّا أَنْ تَعْتَبِرَ فَيَكُونَ تَرْبِيَةً لَهَا، وَإِمَّا أَنْ تَغْبَى وَتَغْفُلَ فَيَكُونَ مَهْلَكَةً لَهَا كَمَا فِي الْآيَاتِ 94 وَمَا بَعْدَهَا مِمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
(4) بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا دَعَا اللهُ إِلَيْهِ، وَالتَّقْوَى فِي الْعَمَلِ بِشَرْعِهِ فِعْلًا وَتَرَكًا، سَبَبٌ اجْتِمَاعِيٌّ طَبِيعِيٌّ لِسَعَةِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَخَيْرَاتِهَا عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (96) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِآيَاتٍ أُخْرَى فِي سُوَرٍ أُخْرَى منها الْآيَةُ 52 مِنْ سُورَةِ هُودٍ (11)، وَالْآيَاتُ 123- 127 مِنْ سِيَاقِ بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ سُورَةِ طه، وَمِثْلُهُ فِي الْآيَاتِ 10- 12 مِنْ سُورَةِ نُوحٍ، وَالْآيَتَيْنِ 16 و17 مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ بَعْدَهَا وَغَيْرِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ.