فصل: (سورة البقرة: آية 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: آية 24]:

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)}.
لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرّفون أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم وما جاء به حتى يعثروا على حقيقته وسرّه وامتياز حقه من باطله. قال لهم فإذا لم تعارضوه ولم يتسهل لكم ما تبغون وبان لكم أنه معجوز عنه، فقد صرح الحق عن محضه ووجب التصديق فآمنوا وخافوا العذاب المعدّ لمن كذب. وفيه دليلان على إثبات النبوّة: صحة كون المتحدى به معجزًا، والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا اللَّه. فان قلت: انتفاء إتيانهم بالسورة واجب، فهلا جيء بإذا الذي للوجوب دون إن الذي للشك. قلت: فيه وجهان:
أحدهما أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمّل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام. والثاني: أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه: إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكما به. فإن قلت: لم عبر عن الإتيان بالفعل وأى فائدة في تركه إليه؟ قلت: لأنه فعل من الأفعال. تقول: أتيت فلانا، فيقال لك: نعم ما فعلت. والفائدة فيه أنه جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصارًا ووجازة تغنيك عن طول المكنى عنه. ألا ترى أنّ الرجل يقول: ضربت زيدًا في موضع كذا على صفة كذا، وشتمته ونكلت به، ويعد كيفيات وأفعالا، فتقول: بئسما فعلت. ولو ذكرت ما أنبته عنه، لطال عليك، وكذلك لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل، لاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله.
ولن تأتوا بسورة من مثله. فإن قلت: وَلَنْ تَفْعَلُوا ما محلها؟ قلت: لا محل لها لأنها جملة اعتراضية. فإن قلت: ما حقيقة لن في باب النفي؟ قلت: لا ولن أختان في نفى المستقبل، إلا أن في لن توكيدًا وتشديدًا. تقول لصاحبك: لا أقيم غدًا، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غدًا كما تفعل في: أنا مقيم، وإنى مقيم. وهي عند الخليل في إحدى الروايتين عنه.
أصلها لا أن وعند الفراء لا أبدلت ألفها نونا. وعند سيبويه وإحدى الروايتين عن الخليل: حرف مقتضب لتأكيد نفى المستقبل. فإن قلت: من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو به حتى يكون معجزة؟ قلت: لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال، لاسيما والطاعنون فيه أكثف عددًا من الذابين عنه، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به فكان معجزة. فإن قلت: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت: إنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا، استوجبوا العقاب بالنار فقيل لهم: إن استبنتم العجز فاتركوا العناد فوضع فَاتَّقُوا النَّارَ موضعه، لأنّ اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد، من حيث أنه من نتائجه لأنّ من اتقى النار ترك المعاندة. ونظيره أن يقول الملك لحشمه: إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطى. يريد: فأطيعونى واتبعوا أمرى، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط. وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة. وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن، وتهويل شأن العناد بإنابة اتقاء النار منابه وإبرازه في صورته، مشيعًا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها.
والوقود: ما ترفع به النار. وأمّا المصدر فمضموم، وقد جاء فيه الفتح. قال سيبويه:
وسمعنا من العرب من يقول: وقدت النار وقودًا عاليا. ثم قال: والوقود أكثر، والوقود الحطب. وقرأ عيسى بن عمر الهمدانىّ- بالضم- تسمية بالمصدر، كما يقال: فلان فخر قومه وزين بلده. ويجوز أن يكون مثل قولك: حياة المصباح السليط، أى ليست حياته إلا به فكأنّ نفس السليط حياته، فإن قلت: صلة الذي والتي يجب أن تكون قصة معلومة، للمخاطب، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلت: لا يمتنع أن يتقدّم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب، أو سمعوه من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى في سورة التحريم {نارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} فإن قلت: فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم، وهاهنا معرّفة؟ قلت: تلك الآية نزلت بمكة، فعرفوا منها نارًا موصوفة بهذه الصفة. ثم نزلت هذه بالمدينة مشارًا بها إلى ما عرفوه أوّلا.
فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} قلت: معناه أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران، بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة، وبأن غيرها إن أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة أو قدت أوّلا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه، وتلك- أعاذنا اللَّه منها برحمته الواسعة- توقد بنفس ما يحرق ويحمى بالنار، وبأنها لإفراط حرّها وشدّة ذكائها إذا اتصلت بما لا تشتعل به نار، اشتعلت وارتفع لهبها. فإن قلت: أنار الجحيم كلها موقدة بالناس والحجارة، أم هي نيران شتى منها نار بهذه الصفة؟ قلت: بل هي نيران شتى، منها نار توقد بالناس والحجارة، يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارًا} {فَأَنْذَرْتُكُمْ نارًا تَلَظَّى}. ولعل لكفار الجن وشياطينهم نارًا وقودها الشياطين، كما أنّ لكفرة الإنس نارًا وقودها هم، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب. فإن قلت: لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقودًا. قلت: لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصناما وجعلوها للَّه أندادًا أو عبدوها من دونه: قال اللَّه تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} وهذه الآية مفسرة لما نحن فيه.
فقوله: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} في معنى الناس والحجارة، و{حَصَبُ جَهَنَّمَ} في معنى وقودها. ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون اللَّه أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم بمكانهم، جعلها اللَّه عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم، إبلاغا في إيلامهم وإعراقا في تحسيرهم، ونحوهم ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدّة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم. وقيل: هي حجارة الكبريت، وهو تخصيص بغير دليل وذهاب عما هو المعنى الصحيح الواقع المشهود له بمعاني التنزيل أُعِدَّتْ هيئت لهم وجعلت عدّة لعذابهم. وقرأ عبد اللَّه، أعتدت، من العتاد بمعنى الغدة.

.[سورة البقرة: آية 25]:

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)}.
من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط، لاكتساب ما يزلف، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف. فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي، وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر بالثواب.
فإن قلت: من المأمور بقوله تعالى: {وَبَشِّرِ}؟ قلت: يجوز أن يكون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأن يكون كل أحد. كما قال عليه الصلاة والسلام: «بشر المشاءين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة» لم يأمر بذلك واحدًا بعينه. وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به. فإن قلت: علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهى يصح عطفه عليه؟
قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهى يعطف عليه إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جمة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشر عمرًا بالعفو والإطلاق.
ولك أن تقول: هو معطوف على قوله: {فَاتَّقُوا} كما تقول: يا بنى تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بنى أسد بإحسانى إليهم. وفي قراءة زيد بن علىّ رضي الله عنه: {وَبَشِّرِ} على لفظ المبنىّ للمفعول عطفًا على: {أُعِدَّتْ}. والبشارة: الإخبار مما يظهر سرور المخبر به. ومن ثم قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرنى بقدوم فلان فهو حرّ، فبشروه فرادى، عتق أوّلهم، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين. ولو قال مكان بشرنى أخبرنى عتقوا جميعًا، لأنهم جميعًا أخبروه. ومنه: البشرة لظاهر الجلد. وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به وتألمه واغتمامه، كما يقول الرجل لعدوّه: أبشر بقتل ذرّيتك ونهب مالك. ومنه قوله:
فَأعْتَبُوا بِالصَّيْلَمِ

والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم. قال الحطيتة:
كيْفَ الهِجَاءُ وما تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ** مِنْ آلِ لَأْمٍ بظهْرِ الغَيْبِ تَأْتِينِى

والصالحات: كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة، واللام للجنس.
فإن قلت: أى فرق بين لام الجنس داخلة على المفرد، وبينها داخلة على المجموع؟ قلت: إذا دخلت على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه. وإذا دخلت على المجموع، صلح أن يراد به جميع الجنس، وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية، والجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه. فإن قلت: فما المراد بهذا المجموع مع اللام؟ قلت: الجملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف.
والجنة: البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه. قال زهير:
تَسقِى جَنَّةً سُحُقَا

وقوله: {كُلَّما رُزِقُوا} لا يخلو من أن يكون صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا، أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس؟ فقيل إنّ ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا، أى أجناسها أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا اللَّه. فان قلت: ما موقع {مِنْ ثَمَرَةٍ}؟ قلت: هو كقولك: كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئا حمدتك.
فموقع {مِنْ ثَمَرَةٍ} موقع قولك من الرمان، كأنه قيل: كلما رزقوا من الجنات من أى ثمرة كانت من تفاحها أو رمّانها أو عنبها أو غير ذلك رزقا قالوا ذلك. فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأنّ الرزق قد ابتدئ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة. وتنزيله تنزيل أن تقول: رزقني فلان، فيقال لك: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقال: من أى ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول: من رمّان. وتحريره أن {رزقوا} جعل مطلقا مبتدأ من ضمير الجنات، ثم جعل مقيدا بالابتداء من ضمير الجنات، مبتدأ من ثمرة، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار.
ووجه آخر: وهو أن يكون {مِنْ ثَمَرَةٍ} بيانا على منهاج قولك: رأيت منك أسدًا. تريد أنت أسد. وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنات الواحدة.
فإن قلت: كيف قيل هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت: معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل. وشبهه بدليل قوله: {وأتوا به متشابها} وهذا كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {وَأُتُوا بِهِ}؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعًا لأنّ قوله: {هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ} انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. ونظيره قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما} أى بجنسى الغنى والفقير لدلالة قوله: غنيا أو فقيرا على الجنسين. ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به على التوحيد. فإن قلت: لأى غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناسا أخر؟ قلت: لأنّ الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم له معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتا بينه وبين ما عهد بليغًا، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به. ولو كان جنسًا لم يعهده وإن كان فائقا، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمّانة الجنة تشبع السكن.
والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها، دليل على تناهى الأمر وتمادى الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة، وعلى أنّ ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملى تعجبهم، ويستدعى تبجحهم في كل أوان. عن مسروق: «نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وأنهارها تجرى في غير أخدود، والعنقود اثنتا عشرة ذراعا». ويجوز أن يرجع الضمير في: {أُتُوا بِهِ} إلى الرزق، كما أن هذا إشارة إليه، ويكون المعنى: أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانسًا في نفسه، كما يحكى عن الحسن: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بالأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك: كل، فاللون واحد والطعم مختلف. وعنه صلى اللَّه عليه وسلم: «و الذي نفس محمد بيده، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدّل اللَّه مكانها مثلها» فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك. والتفسير الأوّل هو هو. فإن قلت: كيف موقع قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا} من نظم الكلام؟ قلت: هو كقولك: فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل. ورأى من الرأى كذا وكان صوابا. ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير.
والمراد بتطهير الأزواج: أن طهرن مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة، وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس. ويجوز لمجيئه مطلقًا: أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا، مما يكتسبن بأنفسهنّ، ومما يأخذنه من أعراق السوء والمناصب الرديئة والمناشئ المفسدة، ومن سائر عيوبهنّ ومثالبهنّ وخبثهنّ وكيدهنّ. فان قلت: فهلا جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف؟ قلت: هما لغتان فصيحتان.
يقال: النساء فعلن، وهنّ فاعلات وفواعل، والنساء فعلت، وهي فاعلة. ومنه بيت الحماسة:
وإذَا العَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ ** واسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فملَّتِ

والمعنى وجماعة أزواج مطهرة. وقرأ زيد بن على: {مطهرات} وقرأ عبيد بن عمير: مطهرة، بمعنى متطهرة. وفي كلام بعض العرب: ما أحوجنى إلى بيت اللَّه. فأطهر به أطهرة.
أى فأتطهر به تطهرة. فإن قلت: هلا قيل طاهرة؟ قلت: في {مطهرة} فخامة لصفتهنّ ليست في طاهرة، وهي الإشعار بأن مطهرًا طهرهنّ. وليس ذلك إلا اللَّه عز وجل المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزية فيما أعدّ لهم.
والخلد: الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع. قال اللَّه تعالى: {وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ}. وقال امرؤ القيس:
ألَا انْعَمْ صَبَاحًا أيُّهَا الطَّلَلُ البَالِى ** وهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخَالى

وهَلْ يَنْعَمَنْ إلّا سَعِيدٌ مُخَلّدٌ ** قَلِيلُ الهُمُومِ مَا يَبِيتُ بأوْجَالِ