فصل: رؤية الله تعالى أعلى من الجنة ومن نعيمها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.رؤية الله تعالى أعلى من الجنة ومن نعيمها:

قال حجة الإسلام ما نصه:
وكما أنك ترى في الدنيا من يؤثر لذة الرياسة على المطعوم والمنكوح وترى من يؤثر لذة العلم وانكشاف مشكلات ملكوت السموات والأرض وسائر الأمور الإلهية على الرياسة وعلى المنكوح والمطعوم والمشروب جميعا فكذلك يكون في الآخرة قوم يؤثرون لذة النظر إلى وجه الله تعالى على نعيم الجنة إذ يرجع نعيمها إلى المطعوم والمنكوح وهؤلاء بعينهم هم الذين حالهم في الدنيا ما وصفنا من إيثار لذة العلم والمعرفة والاطلاع على أسرار الربوبية على لذة المنكوح والمطعوم والمشروب وسائر الخلق مشغولون به، ولذلك لما قيل لرابعة ما تقولين في الجنة فقال الجار ثم الدار، فبينت أنه ليس في قلبها التفات إلى الجنة بل إلى رب الجنة.
وكل من لم يعرف الله في الدنيا فلا يراه في الآخرة وكل من لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في الآخرة إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه من الدنيا ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه ولا يموت إلا على ما عاش عليه فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه فقط إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء فتتضاعف اللذة به كما تتضاعف لذة العاشق إذا استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته فإن ذلك منتهى لذته، وإنما طيبة الجنة أن لكل أحد فيها ما يشتهى فمن لا يشتهي إلا لقاء الله تعالى فلا لذة له في غيره بل ربما يتأذى به فإذن نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى وحب الله تعالى بقدر معرفته فأصل السعادات هي المعرفة التي عبر الشرع عنها بالإيمان. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا أَعَدَّهُ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فَجَحَدُوا بِهَا، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَصِيبَ مُقَابِلِ هَؤُلَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ ظَهَرَ لَهُمُ الدَّلِيلُ فَآمَنُوا، وَلَاحَ لَهُمْ نُورُ الْهِدَايَةِ فَاهْتَدَوْا، فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ الْجُمْلَةَ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لِفَائِدَتِهَا، إِذْ لابد بَعْدَ بَيَانِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ، مِنْ بَيَانِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِرْشَادُ تَرْهِيبٌ وَتَرْغِيبٌ، وَالْخِطَابُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَأَنْ يَكُونَ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْأَمْرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْأَخِيرَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَالْمَفْهُومُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْثَالِ هَذَا الْخِطَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبَادِي} [15: 49] وَقَوْلِهِ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} [36: 13] فَهُوَ فِي عُمُومِهِ جَارٍ مَجْرَى الْأَمْثَالِ، وَالْمُخَاطَبُ الْأَوَّلُ بِهِ هُوَ الرَّسُولُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} وَلَمْ يَذْكُرْ بِمَاذَا آمَنُوا؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ اللهُ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي وَرَدَ بِهَا النَّقْلُ الصَّرِيحُ، وَأَثْبَتَهَا الْعَقْلُ الصَّحِيحُ، وَالْوَحْيُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، فَهَذِهِ هِيَ الْأُصُولُ الَّتِي كَانَ يَدْعُو إِلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَمَنْ صَدَّقَهُمْ فِيهَا كَانَ مُؤْمِنًا وَيُصَدِّقُ بِمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ التَّفْصِيلِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَلابد فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ مِنَ الْيَقِينِ، وَلَا يَقِينَ إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَالِارْتِيَابَ، وَلابد أَنْ يَكُونَ الْبُرْهَانُ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ عَقْلِيًّا، وَإِنْ كَانَ الْإِرْشَادُ إِلَيْهَا سَمْعِيًّا، وَلَكِنْ لَا يَنْحَصِرُ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ الْمُؤَدِّي إِلَى الْيَقِينِ فِي تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَسَبَقَهُمْ إِلَى كَثِيرٍ مِنْهَا الْفَلَاسِفَةُ الْأَقْدَمُونَ، وَقَلَّمَا تَخْلُصُ مُقَدِّمَاتُهَا مِنْ خَلَلٍ، أَوْ تَصِحُّ طُرُقُهَا مِنْ عِلَلٍ، بَلْ قَدْ يَبْلُغُ أُمِّيٌّ عِلْمَ الْيَقِينِ بِنَظْرَةٍ صَادِقَةٍ فِي ذَلِكَ الْكَوْنِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ إِذَا تَجَلَّتْ بِغَرَائِبِهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ أُولَئِكَ الْأُمِّيِّينَ مَا لَا يَلْحَقُهُ فِي يَقِينِهِ آلَافٌ مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَفَنِّنِينَ، الَّذِينَ أَفْنَوْا أَوْقَاتَهُمْ فِي تَنْقِيحِ الْمُقَدِّمَاتِ وَبِنَاءِ الْبَرَاهِينِ، وَهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ أَدْنَى الْمُقَلِّدِينَ.
وَأَقُولُ: كَانَ الْأُسْتَاذُ قَدْ أَطْلَقَ اشْتِرَاطَ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ هُنَا كَمَا أَطْلَقَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى تَقَدَّمَ بَعْضُهَا وَالْبَحْثُ فِيهِ، ثُمَّ قَيَّدَهُ هُنَا بِمَا بَيَّنَ بِهِ خَطَأَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي اشْتِرَاطِهِمُ الْبَرَاهِينَ الْمَنْطِقِيَّةَ الَّتِي سَمَّوْهَا قَطْعِيَّةً عَلَى مَا فِيهَا مِنْ خَلَلٍ وَعِلَلٍ، وَالْحَقُّ أَنَّ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا اضْطِرَابٍ كَافٍ فِي النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ أَفْضَلَ الْأَدِلَّةِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، فَبَدَاهَةُ الْعَقْلِ فِيهِ كَافِيَةٌ عِنْدَ سَلِيمِ الْفِطْرَةِ الَّذِي لَمْ يُبْتَلَ بِشُكُوكِ الْفَلَاسِفَةِ وَجَدَلِيَّاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا بِتَقْلِيدِ الْمُبْطِلِينَ.
هَذَا وَإِنَّ إِطْلَاقَ الْإِيمَانِ وَذِكْرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ وَصْلِهِ بِذِكْرِ مُتَعَلِّقَاتِهِ مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلَّقَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِينَ كَمَا قُلْنَا، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا: مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِجْمَالًا مِنَ الْأُصُولِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ عَرَفُوهُ مُفَصَّلًا تَفْصِيلًا.
ثُمَّ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْبِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَأَطْلَقَ فِي هَذَا أَيْضًا كَمَا أَطْلَقَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ بِالْإِجْمَالِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَجَعْلِهِ تَابِعًا لِلْإِيمَانِ مُتَّصِلًا بِهِ وَلَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهِ، وَبَيَّنَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِالتَّفْصِيلِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إِلَخْ وَكَالْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَآخِرِهَا وَآخِرِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَأَوَائِلِ سُورَةِ الْمَعَارِجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ أَوْدَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَضِلُّ بِانْحِرَافٍ يَطْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُخْرِجُهَا عَنِ الِاعْتِدَالِ الْفِطْرِيِّ ثُمَّ يَضِلُّ بِضَلَالِهِ آخَرُونَ، فَتَكُونُ التَّقَالِيدُ وَالْعَادَاتُ النَّاشِئَةُ عَنْ هَذَا الضَّلَالِ هِيَ الْمِيزَانُ عِنْدَ الضَّالِّينَ فِي مَعْرِفَةِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَا أَصْلُ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ تُرِكَ وَنَفْسَهُ لَاهْتَدَى إِلَى الْحَقِّ مَادَامَ بَعِيدًا عَنِ التَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ، وَقَدْ بَلَغَ فَسَادُ الطِّبَاعِ وَانْحِرَافُ الْفِطْرَةِ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ مَبْلَغًا كَادُوا يَخْرُجُونَ بِهِ عَنْ طَوْرِ الْبَشَرِ، كَمُتَنَطِّعِي الْبَرَاهِمَةِ إِذْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ كَمَالَ الْأَرْوَاحِ وَسَعَادَتَهَا إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْذِيبِ الْأَبْدَانِ وَحِرْمَانِهَا مِنْ لَذَّاتِهَا؛ وَلِذَلِكَ جَدُّوا فِي الْبُعْدِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ بِأَنْوَاعِهَا فَمَالُوا عَنْ سُنَنِ الِاعْتِدَالِ، وَمَنَّوْا أَبْدَانَهُمْ وَعُقُولَهُمْ بِالْفَسَادِ وَالِاعْتِلَالِ، وَكَبَعْضِ كَفَرَةِ الْعَرَبِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْبَرَاهِمَةِ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا فِي اللَّذَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَلَا شَرَّ إِلَّا فِي الْأَلَمِ الْجَسَدَانِيِّ، فَالسَّعَادَةُ وَالْكَمَالُ عِنْدَهُمْ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْآلَامِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ الْمَرْضَى النُّفُوسِ الْمَحْرُومِينَ مِنَ الْكَمَالِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ كَمَثَلِ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الصَّفْرَاءُ فَصَارَ يَذُوقُ الْحُلْوَ مُرًّا، وَإِنَّ مِنَ الْمَرْضَى مَنْ يَشْتَهِي فِي طَوْرِ النَّقَهِ مَا لَا يَشْتَهِي فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ، وَكَذَلِكَ الْحَبَالَى فِي مُدَّةِ الْوَحَمِ:
يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْجُبْنَ حَزْمٌ ** وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئِيمِ

فَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَالْفَضِيلَةُ وَالرَّذِيلَةُ كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى عِنْدَ الْأَشْرَارِ، وَلِذَلِكَ يَدَّعُونَ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَيُنْكِرُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِذِكْرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ لَيْسَ مُبْهَمًا عِنْدَهُمْ، وَلَا خِطَابًا بِغَيْرِ مَفْهُومٍ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ مُعْتَلُّ الْفِطْرَةِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي ذَلِكَ، وَذِكْرِ الْأَمَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّالِحِينَ وَالْفَاسِقِينَ، وَالْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ، وَلِهَذَا نَزَلَتْ آيَاتُ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، وَبِهَا يَنْقَطِعُ تَلْبِيسُ الْأَغْبِيَاءِ، وَاعْتِذَارُ الْجُهَلَاءِ، وَحَقَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ هُوَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، وَيَهْدِي إِلَى تَحْدِيدِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَسُنَّةُ الرَّسُولِ الْمُتَّبَعَةُ.
بَشِّرْهُمْ {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} وَرَدَ لَفْظُ الْجَنَّةِ وَالْجَنَّاتِ كَثِيرًا فِي مُقَابَلَةِ النَّارِ، وَالْجَنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْبُسْتَانُ، وَالْجَنَّاتُ جَمْعُهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا مَفْهُومَهُمَا اللُّغَوِيَّ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هُمَا دَارَا الْخُلُودِ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، فَالْجَنَّةُ دَارُ الْأَبْرَارِ وَالْمُتَّقِينَ، وَالنَّارُ دَارُ الْفُجَّارِ وَالْفَاسِقِينَ، فَنُؤْمِنُ بِهِمَا بِالْغَيْبِ وَلَا نَبْحَثُ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِمَا، وَلَا نَزِيدُ عَلَى النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ فِيهِمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ عَالَمَ الْغَيْبِ لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ.
وَمِمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْجَنَّاتِ قَوْلُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْبَسَاتِينَ حَيَاتُهَا بِالْأَنْهَارِ قَالَ شَيْخُنَا: وَهَلْ سُمِّيَتْ دَارُ النَّعِيمِ جَنَّةً وَجَنَّاتٍ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَذُكِرَتِ الْأَنْهَارُ تَرْشِيحًا لَهُ أَمْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْجَنَّاتِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ الْبَعْضِ؟ اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَرِدْ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا ذِكْرُ الْجَنَّةِ أَوِ الْجَنَّاتِ لَوَجَبَ التَّفْوِيضُ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ، أَمَا وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنْوَاعٌ مِنَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ وَذُكِرَ الثَّمَرَاتُ، فَقَدْ تَعَيَّنَ تَرْجِيحُ الشِّقِّ الثَّانِي، وَإِلَّا كَانَ هَرَبُنَا مِنْ تَشْبِيهِ أَسْرَى الْأَلْفَاظِ عَالَمَ الْغَيْبِ بِعَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِلَى تَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُعَطِّلِينَ لِدَلَالَتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ ذَكَرَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ فِيهَا أَنَّهُمْ {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} كَلِمَةُ من الْأُولَى لِلِابْتِدَاءِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنَ الْجَنَّاتِ رِزْقًا مِنْ بَعْضِ الثِّمَارِ {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أَيْ هَذَا الَّذِي وُعِدْنَا بِهِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [39: 74] وَذَهَبَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ إِلَى اخْتِيَارِ أَنَّ مَعْنَاهُ تَشْبِيهُ ثَمَرَاتِ الْآخِرَةِ بِثَمَرَاتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا مِثْلُهَا فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ وَالرَّائِحَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَفْضُلُهَا فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} بَيَانٌ لِسَبَبِ الْقَوْلِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، أَيْ أُتُوا بِمَا ذُكِرَ مِنَ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَشَابِهًا بَعْضُهُ يُشْبِهُ بَعْضًا، وَمُحَصِّلُهُ: أَنَّهُمْ عِنْدَمَا يُؤْتَوْنَ بِرِزْقِ الْجَنَّةِ يُبَادِرُونَ إِلَى الْحُكْمِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وُعِدُوا بِهِ وَأَنَّهُ عَيْنُ رِزْقِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ التَّشَابُهَ يَكُونُ سَبَبَ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالطَّعْمِ؛ لِأَنَّ فَرْقًا عَظِيمًا بَيْنَ لَذَّةِ رِزْقِ الدُّنْيَا وَرِزْقِ الْجَنَّةِ، وَالتَّعْبِيرُ ب {كُلَّمَا} يُنَافِي هَذَا التَّفْسِيرَ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَعْرِفُونَ التَّفَاوُتَ مَعْرِفَةً تَذْهَبُ بِهِ وَتَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ هَذَا عَيْنُ ذَاكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الثِّمَارِ فَبِالِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَنْوَاعِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَلَالُ مُنَافٍ لِلْبَلَاغَةِ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَشَابُهَ رِزْقَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي الْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ، وَاخْتِلَافَهُ فِي الطَّعْمِ فَقَطْ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ تَشْوِيقٍ، لِأَنَّ اللَّذَّةَ فِي التَّنَقُّلِ، ثُمَّ إِنَّ أَطْوَارَ الْجَنَّةِ مُخَالِفَةٌ لِأَطْوَارِ الدُّنْيَا، وَالتَّشْوِيقُ لِلنَّاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ مَا عَهِدُوا وَاعْتَادُوا وَأَلِفُوا، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ الْأَكْلَ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ حِفْظِ الْبِنْيَةِ مِنَ الِانْحِلَالِ، وَلَا انْحِلَالَ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالْبَقَاءِ، فَلابد أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ هُنَاكَ عَلَى مَا وَرَدَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى، أَوْ هُوَ لِتَحْصِيلِ لَذَّةٍ لَا نَعْرِفُهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْوَالِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ وَنُفَوِّضُ أَمْرَ حَقِيقَتِهِ وَحِكْمَتِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ لَذَّةٌ أَعْلَى مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا.
أَقُولُ: بَلْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسَامِي» وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَرْفُوعِ عَنِ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [32: 17].
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ هُوَ عَيْنُ مَا وُعِدُوا بِهِ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَكُلَّمَا رُزِقُوا ثَمَرَةً مِنْهُ يَذْكُرُونَ الْوَعْدَ الْإِلَهِيَّ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى تَوْفِيقِهِمْ لِذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي لَهُ أَعَدَّ هَذَا الْجَزَاءَ، كَمَا تُفِيدُهُ آيَةُ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ} الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ ارْتِبَاطِ الْمَوْعُودِ بِهِ بِالْمَوْعُودِ عَلَيْهِ كَأَنَّ الْأَعْمَالَ عَيْنُ الْجَزَاءِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [99: 7- 8] وَقَوْلُهُ تعالى بَعْدَ ذَلِكَ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} تَأْكِيدٌ وَتَقْرِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَهُنَالِكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ رِزْقَ الْجَنَّةِ وَثَمَرَهَا يَتَشَابَهُ عَلَى أَهْلِهَا فِي صُورَتِهِ، وَيَخْتَلِفُ فِي طَعْمِهِ وَلَذَّتِهِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} أَيْ مُبَالَغٌ فِي تَطْهِيرِهِنَّ وَتَزْكِيَتِهِنَّ فَلَيْسَ فِيهِنَّ مَا يُعَابُ مِنْ خَبَثٍ جَسَدِيٍّ حَتَّى مَا هُوَ فِي الدُّنْيَا طَبِيعِيٌّ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَلَا نَفْسِيٍّ كَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَسَائِرِ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، لِأَنَّهُنَّ طَهُرْنَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّطْهِيرِ، وَنِسَاءُ الْجَنَّاتِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الصَّالِحَاتِ وَهُنَّ الْمَعْرُوفَاتُ فِي الْقُرْآنِ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَصُحْبَةُ الْأَزْوَاجِ فِي الْآخِرَةِ كَسَائِرِ شُئُونِهَا الْغَيْبِيَّةِ نُؤْمِنُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا لَا نَزِيدُ فِيهِ وَلَا نُنْقِصُ مِنْهُ، وَلَا نَبْحَثُ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ بِالْإِجْمَالِ أَنَّ أَطْوَارَ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي لَذَّةِ الْأَزْوَاجِ بِالْمُصَاحِبَةِ الزَّوْجِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ هِيَ التَّنَاسُلُ وَإِنْمَاءُ النَّوْعِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ فِي الْآخِرَةِ تَنَاسُلًا، فَلابد أَنْ تَكُونَ لَذَّةُ الْمُصَاحَبَةِ الزَّوْجِيَّةِ هُنَاكَ أَعْلَى وَحِكْمَتُهَا أَسْمَى، وَأَنَّنَا نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَبْحَثُ فِي حَقِيقَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ رِزْقِ الْجَنَّةِ.
أَقُولُ: هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمُثْلَى فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ قِيَاسٍ لِعَالَمِهِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ إِنْسَانًا لَا مَلَكًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ لَذَّاتُهُ الْإِنْسَانِيَّةُ أَكْمَلَ مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَأَسْلَمَ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ وَمِنْهَا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْمُبَاشَرَةُ الزَّوْجِيَّةُ فَتَنَبَّهْ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ» قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: «جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ أُخْرَى، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «إِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ فِي الْجَنَّةِ زَوْجَيْنِ اثْنَتَيْنِ»- قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِحْدَاهُنَّ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى مِنْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ كَثْرَتِهِنَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ.
ثُمَّ قَالَ: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الْخُلُودُ فِي اللُّغَةِ: طُولُ الْمُكْثِ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ خَلَدَ فِي السِّجْنِ كَمَا فِي الْأَسَاسِ، وَفِي الشَّرْعِ: الدَّوَامُ الْأَبَدِيُّ، أَيْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا هِيَ تَفْنَى بِهِمْ فَيَزُولُوا بِزَوَالِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَفَّقَنَا اللهُ لِمَا يَجْعَلُنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا مِنَ الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْأَرْوَاحُ وَتَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ الْفَلَاحِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}.
وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى لنا مصير الكافرين الذين يشككون في القرآن ليتخذوا من ذلك عذرًا لعدم الإيمان. قال: إذا كنتم قد اخترتم عدم الإيمان، بما أعطيتكم من اختيار في الدنيا، فإنكم في الآخرة لن تستطيعوا أن تتقوا النار. ولن تكون لكم إرادة.
ثم يأتي الحق تبارك وتعالى بالصورة المقابلة. والقرآن الكريم إذا ذكرت الجنة يأتي الله بعدها بالصورة المقابلة وهي العذاب بالنار. وإذا ذكرت النار بعذابها ولهيبها ذكرت بعدها الجنة. وهذه الصورة المتقابلة لها تأثير على دفع الإيمان في النفوس. فإذا قرأ الإنسان سورة للعذاب ثم جاء بعدها النعيم فإنه يعرف أنه قد فاز مرتين. فالذي يزحزح عن النار ولا يدخلها يكون ذلك فوزًا ونعمة، فإذا دخل الجنة تكون نعمة أخرى، ولذلك فإن الله تعالى يقول: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
ولم يقل سبحانه ومن أدخل الجنة فقد فاز. لأن مجرد أن تزحزح عن النار فوز عظيم.. وفي الآخرة. وبعد الحساب يضرب الصراط فوق جهنم، ويعبر من فوقه المؤمنون والكافرون. فالمؤمنون يجتازون الصراط المستقيم كل حسب عمله منهم من يمر بسرعة البرق. ومنهم من يمر أكثر بطًا وهكذا، والكافرون يسقطون في النار. ولكن لماذا يمر المؤمنون فوق الصراط. والله سبحانه وتعالى قال: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71- 72].
لأن مجرد رؤية المؤمنين لجهنم نعمة كبرى، فحين يرون العذاب الرهيب الذي أنجاهم الإيمان منه يحس كل منهم بنعمة الله عليه. أنه أنجاه من هذا العذاب. وأهل النار وأهل الجنة يرى بعضهم بعضًا. فأهل الجنة حينما يرون أهل النار يحسون بعظيم نعمة الله عليهم. إذ أنجاهم منها، وأهل النار حين يرون أهل الجنة يحسون بعظيم غضب الله عليهم أن حرمهم من نعيمه، فكأن هذه الرؤية نعيم لأهل الجنة وزيادة في العذاب لأهل النار.. والله سبحانه وتعالى يقول: {وبشر} والبشارة هي الأخبار بشيء سار قادم لم يأت وقته بعد. فأنت إذا بشرت إنسانًا بشيء أعلنته بشيء سار قادم. والبشارة هنا جاءت بعد الوعيد للكافرين.
والإنذار هو اخبار بأمر مخيف. لم يأت وقته بعد.
ولكن البشارة تأتي أحيانا في القرآن الكريم ويقصد بها الكفار. واقرأ قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 7- 8].
البشارة هنا تهكمية من الله سبحانه وتعالى. فالحق تبارك وتعالى يريد أن يزيد عذاب الكفار، فعندما يسمعون كلمة {فبشرهم} يعتقدون أنهم سيسمعون خبرًا سارًا، فيأتي بعدها العذاب الأليم ليزيدهم غما على غم.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}.
البشرى هنا إعلام بخير قادم للمؤمنين، والإيمان هو الرصيد القلبي للسلوك. لأن من يؤمن بقضية يعمل من أجلها، التلميذ يذاكر لأنه مؤمن أنه سينجح، وكل عمل سلوكي لابد أن يوجد من ينبوع عقيدي. والإيمان أن تنسجم حركة الحياة مع ما في القلب وفق مراد الله سبحانه وتعالى ونظام الحياة لا يقوم إلا على إيمان.. فكأن العمل الصالح ينبوعه الإيمان. ولذلك يقول القرآن الكريم: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [العصر: 1- 3].
وفي آية أخرى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
ولكن هل يكفي الإعلان عن كوني من المسلمين؟ لا بل لابد أن يقترن هذا الإعلان بالعمل بمرادات الله سبحانه وتعالى.
الحق سبحانه وتعالى يُريدُ أن يلفتنا.. إلى أن قولنا لا إله إلا الله محمد رسول الله.. لابد أن يصاحبه عمل بمنهج الإسلام.. ذلك أن نطقنا بالشهادة لا يزيد في ملك الله شيئا.. فالله تبارك وتعالى شهد بوحدانية ألوهيته لنفسه، وهذه شهادة الذات للذات.. ثم شهد الملائكة شهادة مشهد لأنهم يرونه سبحانه وتعالى.. ثم شهد أولو العلم شهادة دليل بما فتح عليهم الله جل جلاله من علم.. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
ولكن الحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين أن يعملوا بالمنهج.. لماذا؟ حتى لا تتعاند حركة الحياة بل تتساند.. ومادامت حركة الحياة مستقيمة.. فإنها تصبح حياة متساندة وقوية.. وعندما انتشر الإسلام في بقاع الأرض لم يكن الهدف أن يؤمن الناس فقط لمجرد الإيمان.. ولكن لابد أن تنسجم حركة الحياة مع منهج الإسلام.. فإذا ابتعدت حركة الحياة عن المنهج.. حينئذ لا يخدم قضية الدين أن يؤمن الناس أو لا يؤمنوا.. ولذلك لابد أن ينص على الإيمان والعمل الصالح.
{والَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}. والصالحات هي جمع صالحة.. والصالحة هي الأمر المستقيم مع المنهج، وضدها الفساد.. وحين يستقبل الإنسان الوجود.. فإن أقل الصالحات هو أن يترك الصالح على صلاحه أو يزيده صلاحا.
الحق تبارك وتعالى يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بجنات تجري من تحتها الأنهار.. والجنات جمع جنة، وهي جمع لأنها كثيرة ومتنوعة.. وهناك درجات في كل جنة أكثر من الدنيا.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21].
الجنات نفسها متنوعة.. فهناك جنات الفردوس، وجنات عدن، وجنات نعيم.
وهناك دار الخلد، ودار السلام، وجنة المأوى.. وهناك عِلِّيُون الذي هو أعلى وأفضل الجنات.. وأعلى ما فيها التمتع برؤية الحق تبارك وتعالى.. وهو نعيم يعلو كثيرا عن أي نعيم في الطعام والشراب في الدنيا.
والطعام والشراب بالنسبة لأهل الجنة لا يكون عن جوع أو ظمأ.. وإنما عن مجرد الرغبة والتمتع. والله جل جلاله في هذه الآية يَعدُ بأمرٍ غيبي.. ولذلك فإنه لكي يقرب المعنى إلى ذهن البشر.. لابد من استخدام ألفاظ مشهودة وموجودة.. أي عن واقع نشهده. واقرأ، قوله تبارك وتعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
إذن ما هو موجود في الجنة لا تعلمه نفس في الدنيا.. ولا يوجد لفظ في اللغة يعبر عنه.. ولا ملكة من ملكات المعرفة كالسمع والنظر قد رأته.. ولذلك استخدم الحق تبارك وتعالى الألفاظ التي تتناسب مع عقولنا وإدراكنا.. فقال تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}.
على أن هناك آيات أخرى تقول: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ما الفرق بين الاثنين.. تجري تحتها الأنهار.. أي أن نبع الماء من مكان بعيد وهو يمر من تحتها.. أما قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فكأن الأنهار تنبع تحتها.. حتى لا يخاف إنسان من أن الماء الذي يأتي من بعيد يقطع عنه أو يجف.. وهذه زيادة لاطمئنان المؤمنين أن نعيم الجنة باق وخالد.
ومادام هناك ماء فهناك خضرة ومنظر جميل ولابُدّ أَنْ يكون هناك ثمر.. وفي قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا}. حديث عن ثمر الجنة.. وثمر الجنة يختلف عن ثمر الدنيا.. إنك في الدنيا لابد أن تذهب إلى الثمرة وتأتي بها أو يأتيك غيرك بها.. ولكن في الجنة الثمر هو الذي يأتي إليك.. بمجرد أن تشتهيه تجده في يدك.. وتعتقد أن هناك تشابها بين ثمر الدنيا وثمر الجنة.. ولكن الثمر في الجنة ليس كثمر الدنيا لا في طعمه ولا في رائحته.. وإنما يرى أهل الجنة ثمرها ويتحدثون يقولون ربما تكون هذه الثمرة هي ثمرة المانجو أو التين الذي أكلناه في الدنيا.. ولكنها في الحقيقة تختلف تماما.. قد يكون الشكل متشابها ولكن الطعم وكل شيء مختلف.
في الدنيا كل طعام له فضلات يخرجها الإنسان.. ولكن في الآخرة لا يوجد لطعام فضلات بل أن الإنسان يأكل كما يشاء دون أن يحتاج إلى إخراج فضلات، وذلك لاختلاف ثمار الدنيا عن الآخرة في التكوين.
إذن ففي الجنة الأنهار مختلفة والثمار مختلفة.
والجنة يكون الرزق فيها من الله سبحانه وتعالى الذي يقول للشيء كن فيكون.. ولا أحد يقوم بعمل. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
الزوجة هي متعة الإنسان في الدنيا إن كانت صالحة.. والمنغصة عليه إن كانت غير صالحة.. وهناك منغصات تستطيع أن تضعها المرأة في حياة زوجها تجعله شقيا في حياته.. كأن تكون سليطة اللسان أو دائمة الشجار.. أولا تعطي اهتماما لزوجها أو تحاول إثارته بأن تجعله يشك فيها.. أما في الآخرة فتزول كل هذه المنغصات وتزول بأمر الله. فالزوجة في الآخرة مطهرة من كل ما يكرهه الزوج فيها، وما لم يحبه في الدنيا يختفي. فالمؤمنون في الآخرة مطهرون من كل نقائص الدنيا ومتاعبها وأولها الغل والحقد.. واقرأ قوله جل جلاله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].
فمقاييس الدنيا ستختفي وكل شيء تكرهه في الدنيا لن تجده في الآخرة.. فإذا كان أي شيء قد نغص حياتك في الدنيا فإنه سيختفي في الآخرة.. والحق تبارك وتعالى ضرب المثل بالزوجات لأن الزوجة هي متعة زوجها في الدنيا.. وهي التي تستطيع أن تحيل حياته إلى نعيم أو جحيم.
وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. أي لا موت في الآخرة ولن يكون في الآخرة وجود للموت أبدا، وإنما فيها الخلود الدائم إما في الجنة وإما في النار. اهـ.