فصل: في رياض آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. إن الشكر قيد النعم وحافظها فإذا انفك القيد طارت النعم في كل فج. ويتأكد هذا المعنى فيما وجه إلى أسرى بدر من توجيه حاسم: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم}. ويشبه اليهود المشركين في العقوق وكفران النعمة والعيش على ما يحلو لهم ونسيان تقلب الليالى. فهم لا يوفون إلا إذا كان الوفاء منفعة لهم فإن لم يكن مجديا عليهم نكثوا. ولذلك نزل فيهم قوله تعالى: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون} وهؤلاء لا يصحون من غمرتهم إلا تحت سياط الهزيمة الموجعة ولذلك قيل للرسول: اضرب من يلقاك ضربة تخيف من وراءه..!
{فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين}. وما دام الظلم لا يردع إلا بالسيف فليحمل المسلمون السيف! وما دام الإنصاف لا يتحقق إلا بالقتل فليخض المسلمون المعارك! حتى يرتفع لواء العدالة..! إننا حراص على السلام وفي ظله نبلغ رسالتنا وافرين فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. لكن ما العمل إذا كممت أفواهنا، بل إذا أوجع المسلم خسفا حتى يترك دينه؟ لابد إذن من قتال! والمثير أن فوارق العدد لا وزن لها في هذا القتال، فالقلة تتصدى للكثرة. والواحد يثبت أمام العشرة. والسبب أن الله ظهير للمؤمن إذا قاتل، فهو عندما يضرب تضرب معه قوى الأرض والسماء، إنه عطاء لقدرة الله المنتقم من أعدائه بعدما توقحوا وتبجحوا. وهذا معنى الآيات {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون}. وأنا مع المحققين في أن هذا هو الحكم الأصلى الثابت الدائم. وأن الثبات أمام اثنين هو عند الضعف الطارئ أو الظرف العارض المخفف. فإذا زال رجع الحكم إلى أصله وهو تصدى الواحد لعشرة! وذلك معنى قوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}.
وفي الحروب العادية يستطيع بعض الجنود المتحصنين في معاقلهم أن يقاوموا جيشا جرارا.
وفي حرب العبور الأخيرة استطاعت ثلة من الجنود المشاة أن تمزق فرقة من المدرعات اليهودية. وعلمت أن جنديا مصريا أوهم العدو أن معه قنبلة يدوية ورفع ذراعه مستعدا للهجوم فرفع الجنود اليهود أيديهم مسلمين وقادهم أمامه أسرى! إن الروح المعنوية للمقاتل الفدائى تجعل الواحد جمعا..
{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}. وختمت سورة الأنفال بآيات شرحت الرباط الذي يشد العالم الإسلامى- على تنائى أطرافه- ويجعله جسدا واحدا إذا اشتكى بعضه اشتكى كله. هذا الرباط هو الأخوة المشتركة في نصرة رسالة واحدة! إن الدين رحم بين أهله لا يجوز قطعها والمسلمون أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. وعدد المسلمين اليوم يماثل عدد أهل الصين نحو مليار ومائتى مليون إنسان. فهل الأخوة الإسلامية تربط بين المسلمين كما تربط القومية الصينية بين الصينيين؟ الذين تمثلهم دولة واحدة لها صوت في مجلس الأمن إذا اعترض قرارا وقفه؟ وواجه الدنيا بموقف حاسم؟. يقول الله تعالى في خواتيم هذه السورة {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا...}. لقد تخلفوا عن قضية مصيرية فلا حق لهم في نصرة.. أما الكافرون فهم على اختلاف مللهم أمة واحدة ينبغى أن يروا منا وجها واحدا وفكرا واحدا {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}. والغريب أن الأمة التي يجب أن تدور أمورها على محور واحد تقطعت في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك. وهى تضم الآن نحو سبعين جنسية لكل جنسية رايتها المميزة! فهل تتساند في نصرة قضاياها أم تتخاذل؟ إن المسلمين في هيئة الأمم أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، بل قد رأينا مسلمين يصارحون بأن نداء الإيمان لا يعنيهم، ولا يستجيبون له ولا يحفون لطاعته! وفشت بدعة التعصب للقوميات، وآخر الجروح الدامية في كياننا المثخن بدعة التعصب للقومية العربية أو البعث العربي بعد تجريد العروبة من الإسلام!
وماذا تساوى العروبة إذا فرغت من الإسلام؟. وذلك كله يقع في أيام نحسات استيقظ فيها بنو إسرائيل وجعلوا التعصب لنحلتهم أساس الحياة، ووالتهم الصليبية العالمية واعتبرت أطماعهم في بيت المقدس والأرض المقدسة مسلكا لا غبار عليه ولا مكان لاعتراضه. إنه لا حل لمشكلاتنا إلا بإعادة الإيمان إلى مكانته في أوضاعنا المحلية والعالمية على سواء... اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الأنفال:
اعلم أن وضع هذه السورة وبراءة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، كما هو الراجح في سائر السور، بل اجتهاد من عثمان رضي الله عنه وقد كان يظهر في بادئ الرأي: أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود، لاشتراك كل في اشتمالها على قصص الأنبياء، وأنها مكية النزول، خصوصًا أن الحديث ورد في فضل السبع الطوال، وعدوا السابعة يونس، وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين هما الأنفال، بالنسبة إلى الأعراف وبراءة وقد استشكل ابن عباس حبر الأمة قديمًا ذلك فأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهني من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال.
فانظر إلى ابن عباس رضي الله عنه، كيف استشكل علي عثمان رضي الله عنه أمرين: وضع الأنفال وبراءة في أثناء السبع الطوال، مفصولًا بهما بين السادسة والسابعة، ووضع الأنفال وهي قصيرة مع السور الطويلة وانظر كيف أجاب عثمان رضي الله عنه أولًا بأنه لم يكن عنده في ذلك توقيف، فإِنه استند إلى اجتهاد، وأنه قرن بين الأنفال وبراءة لكونها شبيهة بقصتها في اشتمال كل منهما على القتال، ونبذ العهود، وهذه وجه بين المناسبة جلى، فرضى الله عن الصحابة، ما أدق أفهامهم! ما أدق أفهامهم! وأجزل آراءهم! وأعظم أحلامهم! وأقول: يتم بيان مقصد عثمان رضي الله عنه في ذلك بأمور فتح الله بها: الأول: أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها، لكونها مشتملة على البسملة، فقدمها لتكون لفظة منها، وتكون براءة بخلوها منها كتتمتها وبقيتها، ولهذا قال جماعة من السلف: إن الأنفال وبراءة سورة واحدة، لا سورتان الثاني: أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول، فإنه ليس في القرآن بعد الأعراف أنسب ليونس طولًا منها، وذلك كاف في المناسبة الثالث: أنه خلَّل بالسورتين الأنفال وبراءة أثناء السبع الطوال المعلوم ترتيبها في العصر الأول، للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف، وإلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبين محلهما، فوضعا كالموضع المستعار بين السبع الطوال، بخلاف ما لو وضعتا بعد السبع الطوال، فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف، وترتيب السبع الطوال يرشد إلى دفع هذه الوهم فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله بها، ولا يغوص عليها إلا غواص الرابع: أنه لو أخرهما وقدم يونس، وأتى بعد براءة بهود، كا في مصحف أبي بن كعب، لمراعاة مناسبة السبع الطوال، وإيلاء بعضها بعضًا، لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن تولى بالسور الخمس التي بعدها، لما اشتركت فيه من الاشتمال على القصص، ومن الافتتاح بالذكر، وبذكر الكتاب، ومن كونها مكيات، ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار وبالتسمية باسم نبي، والرعد إسم ملك، وهو مناسب لأسماء الأنبياء فهذه سنة وجوه في مناسبة الاتصال بين يونس وما بعدها، وهي أكثر من ذلك الوجه السابق في تقديم يونس بعد الأعراف ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل، مع كونها أقصر منها ولو اخرت براءة عن هذه السور الست المناسبة جدًا بطولها لجاءت بعد عشر سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر، فإنها ليست كبراءة في الطول ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرنا من تقديم الحجر على النحل لمناسبة ذوات {الر} قبلها، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبة البقرة، مع الافتتاح ب {الم}، وتوالى الطواسين والحواميم، وتوالى العنكبوت والروم والقمر والسجدة، لافتتاح كل ب {الم}، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها هذا ما فتح الله به وأما ابن مسعود فقدم في مصحفه البقرة على النساء، وآل عمران، والأعراف، والأنعام، والمائدة، ويونس، فراعى الطوال، وقدم الأطوال فالأطول ثم ثنى بالمئين، فقدم براءة، ثم النحل، ثم هود، ثم يوسف، ثم الكهف وهكذا الأطول فالأطول، وذكر الأنفال بعد النور ووجه مناسبتها لها: أن كلا منهما مدنية، ومشتملة على أحكام، وأن في النور {وعَدَ اللَهُ الذينَ آمنوا وعملوا الصالحات ليستَخلِفنهم في الأَرض كما استخلف الذين مِن قبلِهِم} وفي الأنفال {واذكروا إِذ أَنتُم مُستَضعَفون في الأَرض تخافون} ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة، فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل، وذكر به في الثانية فتأمل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (1):

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
وتسمى الجهاد بسم الله أي الذي له جميع الحول والقوة والطول الرحمن الذي أحاط دائرة العقل بشموس الأدلة من كل منقول الرحيم الذي منّ على من شاء من الأتباع؛ ومقصد هذه السورة تبرؤ العباد من الحول والقوة، وحثهم على التسليم لأمر الله المثمر لاجتماع الكلمة المثمر لنصر الدين وإذلال المفسدين المنتج لكل خير، والجامع لذلك كله أنه لما ثبت بالسور الماضية وجوب اتباع أمر الإله والاجتماع عليه لما ثبت من تفرده واقتداره، كان مقصود هذه إيجاب اتباع الداعي إليه بغاية الإذغان والتسليم والرضى والتبرؤ من كل حول وقوة إلى من انعم بذلك ولو شاء سلبه وأدل ما فيها على هذا قصة الأنفال التي اختلفوا في امرها وتنازعوا قسمها فمنعهم الله منها وكف عنهم حظوظ الأنفس وألزمهم الإخبات والتواضع، وأعطاها نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه الذي هزمهم بما رمى من الخصبات التي خرق الله فيها العادة بأن بثها في أعين جميعهم وبما أرسل من جنوده، فكأن الأمر له وحده، يمنحه من يشاء، ثم لما صار له النبي صلى الله عليه وسلم، رده فيهم منة منه عليهم وإحسانًا إليهم، واسمها الجهاد كذلك لأن الكفار دائمًا أضعاف المسلمين، وما جاهد قوم من أهل الإسلام قط إلا أكثر منهم، وتجب مصابرة الضعف، فلو كان النظر إلى غير قوته سبحانه ماأطيق ذلك، ولهذه المقاصد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجلاد، وإن كثرت من الأعادي الجموع والأعداد، وتوالت إليهم زمر الأمداد من سائر العباد، كما ذكره الحافظ أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي المغربي في فتوح البلاد من كتابه الاكتفاء في سيرة المصطفى وأصحابه الثلاثة الخلفاء، وكذا شيخةالخطيب أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن حبيش في كتابه الذي جمعه في الفتوح، قالا وقعه اليرموك من فتوح الشام عن حديث سيف بن عمر وهذا لفظ ابن سالم: قال: وكان القارئ يوم ذاك المقداد، قالوا: ومن السنة التي سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن نقرأ سورة الجهاد عند اللقاء، وهي سورة الأنفال، ولم يزل الناس بعد على ذلك؛ قالا في وقعه القادسية من فتوح فارس واللفظ لابن سالم أيضًا قالوا: ولما صلى سعد- يعني ابن أبي وقاص- رضي الله عنه الظهر أمر غلامًا كان عمر رضي الله عنه ألزمه إياه وكان من القراء يقرأ سورة الجهاد، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها فقرأها على الكتبية التي تليه، وقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها، قال مصعب بن سعيد: وكانت قراءتها سنة يقرأ ها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الزخرف ويستقرئها، فعمل الناس بذلك- انتهى.