فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القاضي أبو محمد: وفي بعض طرق هذا الحديث، قال سعد: فقلت لما قال لي ضعه في القبض أني أخاف أن تعطيه من لم يبل بلائي، قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلفي، قال فقلت أخاف أن يكون نزلت فيّ شيء، فقال: إن السيف قد صار لي فأعطانيه ونزلت: {يسألونك عن الأنفال} وأسند الطبري أيضًا عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال: أصبت سيف ابن عائد يوم بدر، وكان يسمى المزربان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به، فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئًا يسأله، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة، لاسيما من أبلى، فأنزل الله عز وجل الآية، فرضي المسلمون وسلموا، فأصلح الله ذات بينهم ورد عليه غنائمهم، وقال بعض أهل هذا التأويل عكرمة ومجاهد: كان هذا الحكم من الله لرفع الشغب، ثم نسخ بقوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} [الأنفال: 41] وقال ابن زيد: لم يقع في الآية نسخ، وإنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبين بها أحكام الله والصادع بها ليقع التسليم فيها من الناس، وحكم القسمة نازل خلال ذلك، ولا شك في أن الغنائم وغيرها والدنيا بأسرها هي لله وللرسول.
قال القاضي أبو محمد: وقال ابن عباس أيضًا {الأنفال} في الآية ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه، وهذا أيضًا يحسن مع الآية ومع ما ذكرناه من آثار يوم بدر. وقال علي بن صالح بن جني والحسن فيما حكى المهدوي: {الأنفال} في الآية ما تجيء به السرايا خاصة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة، بل يجيء خارجًا عن يوم بدر، وقال مجاهد: {الأنفال} في الآية الخمس، قال المهاجرون: لم يخرج منا هذا الخمس، فقال الله تعالى هو لله وللرسول، وهذا أيضًا قول قليل التناسب مع الآية، وقال ابن عباس وعطاء أيضًا: {الأنفال} في الآية ماشد من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس والغاير والعبد الآبق هو للنبي صلى الله عليه سولم يصنع فيه ما شاء، وقال ابن عباس أيضًا: {الأنفال} في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ورسوله.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان لا تخرج بهما الآية عن الأسباب التي رويت في يوم بدر ولا تختص الآية بيوم بدر على هذا، وكأن هاتين المقالتين إنما هي فيما ناله الجيش دون قتال وبعد تمام الحرب وارتفاع الخوف، وأولى هذه الأقوال وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه، وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال: {الأنفال} الأسارى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم، ويحسن في تفسير هذه الآية أن نذكر شيئًا من اختلاف العلماء في تنفيل الإمام لمن رآه من أهل النجدة والغناء وما يجوز من ذلك وما يمتنع وما لهم في السلب من الاختلاف، فقالت فرقة لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الجمهور: النفل باق إلى يوم القيامة، ينفل إمام الجيش ما رآه لمن رآه لكن بحسب الاجتهاد والمصلحة للمسلمين ليحض الناس على النجدة وينشطهم إلى مكافحة العدو والاجتهاد في الحرب، ثم اختلفوا فقال ابن القاسم عن مالك في المدونة: إنما ينفل الإمام من الخمس لا من جملة الغنيمة، وينفل في أول المغنم وفي آخره بحسب اجتهاده، وقالت فرقة: إنما ينفل الإمام قبل القتال، وأما إذا جمعت الغنائم فلا نفل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما يكون على هذا القول بأن يقول من قتل قتيلًا فله كذا وكذا، أو يقول لسرية إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا، وقال الشافعي وابن حنبل: لا نفل إلا بعد الغنيمة قبل التخميس، وقال إبراهيم النخعي: ينفل الإمام متى شاء قبل التخميس، وقال أنس بن مالك ورجاء بن حيوة ومكحول والقاسم وجماعة منهم الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعدي بن عدي: لا نفل إلا بعد إخراج الخمس ثم ينفل الإمام من أربعة الأخماس ثم يقسم الباقي بين الناس: وقال ابن المسيب: إنما ينفل الإمام من خمس الخمس، وقال مالك رحمه الله لا يجوز أن يقول الأمير من هدم كذا من الحصن فله كذا ومن بلغ إلى كذا فله كذا، ولا أحب لأحد أن يسفك دمًا على مثل هذا، قال سحنون: فإن نزل ذلك لزمه فإنه مبايعة.
وقال مالك رحمه الله: لا يجوز أن يقول الإمام لسرية: ما أخذتم فلكم ثلثه، قال سحنون: يريد ابتداء، فإن نزل مضى ولهم انصباؤهم في الباقي، وقال سحنون: إذا قال الإمام لسرية: ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه، فهذا لا يجوز فإن نزل رددته لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى، ويستحب على مذهب مالك إن نفل الإمام أن ينفل ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف، وقد منع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهبًا أو فضة أو لؤلؤًا أو نحو هذا، وقال بعضهم: النفل جائز من كل شيء، وأما السلب فقال مالك رحمه الله: الأسلاب من المغنم تقسم على جميع الجيش إلا أن يشرط الإمام وقاله غيره: وقال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر: السلب حق للقاتل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر: السلب حق للقاتل بحكم النبي صيلى الله عليه وسلم، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر: قاله الإمام أو لم يقله وقال مالك: إذ قال الإمام من قتل قتيلًا فله سلبه فذلك لازم، ولكنه على قدر اجتهاد الإمام وبسبب الأحوال والضيقات واستصراخ الأنجاد، وقال الشافعي وابن حنبل: تخرج الأسلاب من الغنيمة ثم تخمس بعد ذلك وتعطى الأسلاب للقتلة، وقال إسحاق بن راهويه: إن كان السلب يسيرًا فهو للقاتل وإن كان كثيرًا خمس، وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفًا، فخمس ذلك، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث عوف بن مالك في مصنف أبي داود، وقال مكحول: السلب مغنم وفيه الخمس، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد: يريد يخمس على القاتل وحده وقال جمهور الفقهاء لا يعطى القاتل السلب إلا أن يقيم البينة على قتله قال أكثرهم: ويجزئ شاهد واحد بحكم حديث أبي قتادة، وقال الأوزاعي يعطاه بمجرد دعواه.
قال القاصي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقال الشافعي: لا يعطى القاتل إلا إذا كان قتيله مقبلًا مشيحًا مبارزًا، وأما من قتل منهزمًا فلا، وقال أبو ثور وابن المنذر صاحب الأشراف: للقاتل السلب منهزمًا كان القتيل أو غير منهزم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أصح لحديث سلمة بن الأكوع في اتباعه ربيئة الكفار في غزوة حنين وأخذه بخطام بعيره وقتله إياه وهو هارب فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه، وقال ابن حنبل: لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط، واختلفوا في السلب، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا أحفظ فيه خلافًا أنه من السلب، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه، وقال أحمد بن حنبل في الفرس: ليس من السلب، وكذلك إن كان في هميانه أو منطقته دناينر أو جوهر أو نحو هذا مما يعده فلا أحفظ خلافًا أنه ليس من السلب واختلف فيما يتزين به للحرب ويهول فيها كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار فقال الأوزاعي ذلك كله من السلب، وقالت: فرقة: ليس من السلب، وهذا مروي عن سحنون رحمه الله إلا المنطقة فإنها عنده من السلب، قال ابن حبيب في الواضحة: والسوارين من السلب، ويرجح الشافعي هل هذه كلها من السلب أو لا؟
قال القاضي أبو محمد: وإذا قال الإمام: من قتل قتيلًا فله سلبه فقتل ذمي قتيلًا فالمشهور أن لا شيء له وعلى قول أشهب يرضخ أهل الذمة من الغنيمة يلزم أن يعطى السلب، وإن قتل الإمام بيده بعد هذه المقالة قتيلًا فله سلبه.
قال القاضي أبو محمد: وأما الصفي فكان خالصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل: {فاتقوا الله} معناها في الكلام، اجعل بينك وبين المحذور وقاية، وقوله: {وأصلحوا ذات بينكم} تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ومالت النفوس إلى التشاح، و{ذات} في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته، والذي يفهم من {بينكم} هو معنى يعم جميع الوصل والالتحامات والمودات وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه، فحض الله عز وجل على إصلاح تلك الأجزاء فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم، وقد تستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه، وذلك في قوله: {عليم بذات الصدور} [الأنفال: 43] و{ذات الشوكة} [الأنفال: 7] فإنها هاهنا مؤنثة قولهم: الذئب مغبوط بذي بطنه، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة، ويحتمل ذات البين أن تكون هذه، وقد تقال الذات أيضًا بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا، وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ** ذات العشاء ولا تسري أفاعيها

وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال: {ذات بينكم} الحال التي لبينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء.
قال القاضي أبو محمد: ورجحه الطبري وهو قول بين الانتقاض، وقال الزجاج البين هاهنا الوصل، ومثله قوله عز وجل: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94].
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا كله نظر، وقوله: {وأطيعوا الله ورسوله} لفظ عام وسببه الأمر بالوقوف عندما ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنائم، وقوله: {إن كنتم مؤمنين} أي كاملي الإيمان كما تقول لرجل إن كنت رجلًا فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولة وجواب الشرط في قوله المتقدم {وأطيعوا} هذا عند سيبويه، ومذهب أبي العباس أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب الشرط. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يسألونك عن الأنفال}
في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «من قتل قتيلًا فله كذا وكذا»، ومن اسر أسيرًا فله كذا وكذا، فأما المشيخة، فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقال المشيخة للشبان: أشركونا معكم، فانا كنا لكم ردءًا، فأبوا، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت سورة الأنفال رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: أن سعد بن أبي وقاص أصاب سيفًا يوم بدر، فقال: يا رسول الله، هبه لي، فنزلت هذه الآية، رواه مصعب بن سعد عن أبيه.
وفي رواية أخرى عن سعد قال: قتلت سعيد بن العاص، وأخذت سيفه، فأتيت به رسول الله، فقال: «اذهب فاطرحه في القَبَض»، فرجعت، وبي مالا يعلمه إلا الله، فما جاوزت إلا قريبا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال: «اذهب فخذ سيفك».
وقال السدي: اختصم سعد وناس آخرون في ذلك السيف، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فنزلت هذه الآية.
والثالث: أن الأنفال كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد منها شيء، فسالوه أن يعطَيهم منها شيئًا، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
وفي المراد بالأنفال ستة أقوال:
أحدها: أنها الغنائم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، وأبو عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين.
وواحد الانفال: نفل، قال لبيد:
إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ ** وباذنِ اللهِ ريْثي وعَجَلْ

والثاني: أنها ما نفَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم القاتلَ من سلَبِ قتيله.
والثالث: أنها ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عَبْد أو دابة بغير قتال، قاله عطاء.
وهذا والذي قبله مرويان عن ابن عباس أيضًا.
والرابع: أنه الخُمس الذي أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم، قاله مجاهد.
والخامس: أنه أنفال السرايا، قاله علي بن صالح بن حيّ.
وحكي عن الحسن قال: هي السرايا التي تتقدم أمام الجيوش.
والسادس: أنها زيادات يُؤْثِرُ بها الإِمام بعضَ الجيش لما يراه من المصلحة، ذكره الماوردي.
وفي عن قولان:
أحدهما: أنها زائدة، والمعنى: يسألونك الأنفال، وكذلك قرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وأبو العالية: {يسألونك الأنفال} بحذف {عن}.
والثاني: أنها أصل، والمعنى: يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ أو عن حكم الأنفال؛ وقد ذكرنا في سبب نزولها ما يتعلق بالقولين.
وذُكر أنهم إنما سألوا عن حكمها لأنها كانت حرامًا على الأُمم قبلهم.