فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم.
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحق بها منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، واشتغلنا به، فنزلت:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} الآية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على قُواقٍ من المسلمين.
وهذا الحديث رواه الترمذي أيضًا وحسنه، ورواه ابن حيان في صحيحه، وصححه الحاكم.
ولفظ ابن إسحاق عن عبادة قال: فينا، أصحاب بدر، نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على السواء.
وروى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صنع كذا وكذا فله من النّفل كذا وكذا». فتسارع في ذلك شبان القوم، وبقي الشيوخ تحت الرايات.
فلما كانت المغانم، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءًا لكم، لو انكشفتم لثُبتُم إلينا ن، فتنازعوا، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} الآية، وهذا مما يفيد أن التشاجر كان متنوعًا، وأن الآية نزلت لفصله.
والأنفال: هي المغانم، جمع نفل محركة، وهو الغنيمة، أي: كل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب.
قال ابن تيمية: سميت بذلك، لأنها زيادة في أموال المسلمين.
أي: لأن النفل يطلق على الزيادة، كما في التاج، ومنه النافلة لصلاة التطوع لزيادتها على الفريضة.
وقوله تعالى: {قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ} قال المهايمي: أي: ليست هي في مقابلة الجهاد، وإنما مقابله الآجر الأخروي، وهذه زائدة عليه، خرجت عن ملك المشركين فصارت ملكًا خالصًا لله ولرسوله. والرسول خليفة يعطيها، على ما أراه الله، من يشاء، لوما أطلق له صلى الله عليه وسلم الحكم فيها فقسمها بينهم بالسوية، ووهب من استوهبه.
فروى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قُتل أخي عمير وقتلتُ سعيد بن العاص، وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب فاطرحه في القبض، قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله، من قتل أخي، وأخذ سلبي.
قال: فما جاوزت إلا يسيرًا حتى نزلت سورة الأنفال.
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب فخذ سلبك».
وروى الإمام أحمد والترمذي- وصححه- عن سعد بن مالك قال: قلت: يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال: «إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه».
قال، فوضعته ثم رجعت، فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي.
قال: إذا رجل يدعوني من ورائي.
قال: قلت: قد أنزل الله فيّ شيئًا. قال: كنت سألتني السيف، ليس هو لي، إنه قد وهب لي، فهو لك. قال: وأنزل الله هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} الآية.
تنبيهات:
الأول: ذهب بعضهم إلى أن أنفال بدر قسمت من غير تخميس، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس، فنسخت الأولى.
قال ابن كثير: فيه نظر. ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب في شَارفَيه اللذْين حصلا له، من الخمس، يوم بدر. فالصواب أنها مجملة محكمة، بين مصارفها في آية الخمس.
الثاني: روي عن عطاء أنه فسر الأنفال بما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو أمةٍ أو متاع.
قال: فهو نفلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء.
قال ابن كثير: وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال.
قلت: صِدقُ النفل عليه، لا شك فيه، وأما كونه المراد من الآية بخصوصه، فلا يساعده سبب نزولها المارّ ذكره، لاسيما قوله: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} المشير إلى التنازع المتقدم.
ثم قال ابن كثير: واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم، أي: ما يدفع إلى الغازي زائدًا على سهمه من المغنم، والكلام الذي قلته قبل، يجري هنا أيضًا.
ونقل الرازي عن القاضي؛ أن كل هذا الوجوه تحتمله الآية. قال: وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض، وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين، قضى به، وإلا فالكل محتمل.
وكما أن كل واحد منها جائز، فكذلك إرادة الجميع جائزة فإنه لا تناقض بينها. أي: لصدق النَّفل عليها.
الثالث: وقع عند الزمخشري أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر، لمن الحكم فيها أللمهاجرين أم للأنصار، أم لهم جميعًا؟ فأجيبوا بأن الحاكم فيها الرسول، وليس لأحد فيها حكم.
تأثر الزمخشري أبو السعود في سوقه لما ذكر، وزاد عليه اعتماده له، بتطويل مملّ، ولا أدري من أين سرت لهم هذا الرواية.
فإن رواة الآثار لم يخرجوها في صحاحهم ولا سننهم، بل ولا أصحاب السير، كابن إسحاق وابن هشام، وهل يمكن للمسلمين أن يختلفوا للحكم على الغنائم، ويتنازعوا ولايتها، والرسول بين أظهرهم؟ ومتى عهد ذلك من سيرتهم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! ولكن هو الرأي قاتله الله! ونبذ كتب السنة، والتقليد البحت، الذي لا يهتم صاحبه بحقائق الأشياء، ولا يريد معرفتها ولا فحصها بالعقل يضع قدمه على القدم، حيث يكون مطواعًا لآراء غيره، منقادًا لها مصدقًا ما ينطق به فمه، غثًا كان أو سمينًا. اللهم نور بصيرتنا بفضلك.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللّهَ} أي: في الإختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله.
وقوله تعالى: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي: أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال، حق تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق.
وقوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ} أي: في قسمه بينكم، على ما أراه الله تعالى. وقوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: كاملي الإيمان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}
افتتاح السورة بـ {يسألونك عن الأنفال} مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم {الأنفال} وكان ذلك يومَ بدر، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهْمًا في هذا الشأن، وقد تكررت الحوادث يومئذ: ففي صحيح مسلم، وجامع الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر أصبت سيفًا لسعيد بن العاصي فأتيتُ به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نفلْنيهِ، فقال: ضعه في القَبَض، ثم قلت: نفلنيه فقال ضعْه حيثُ أخذته، ثم قلت: نفلنيه فقال: ضعه من حيث أخذته، فنزلت: {يسألونك عن الأنفال} وفي أسباب النزول للواحدي، وسيرة ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت، أنه سئل عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلتْ حين اختلفنا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقُنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء، وروى أبو داود، عن ابن عباس، قال: لما كان يومُ بدر ذهب الشبان للقتال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنيمة جاء الشبان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ: لا تستأثرون علينا فانا كنا تحت الرايات ولو أنهزمتم لكنا ردءًا لكم، واختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال}.
والسؤال حقيقته الطلب، فإذا عدّي بـ {عن} فهو طلب معرفة المجرور بـ {عن} وإذا عدّي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء، فالمعنى، هنا: يسألونك معرفة الأنفال، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات، والمراد حالها بحسب القرينة مثل {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمنًا في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها.
ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد.
ولذلك كان قوله: {يسألونك} موذنًا بتنازع بين الجيش في استحقاق الأنفال، وقد كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا، وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية.
و{الأنفال} جمع نفل بالتحريك والنفل مشتق من النافلة وهي الزيادة في العطاء، وقد أطلق العرب في القديم الأنفال على الغنائم في الحرب كأنهم اعتبروها زيادة على المقصود من الحرب لأن المقصود الأهممِ من الحرب هو إبادة الأعداء، ولذلك ربما كان صناديدهم يأبون أخذ الغنائم كما قال عنترة:
يخبرك من شَهد الوقيعة أنني ** أغشى الوغى وأعف عند المغنم

وأقوالهم في هذا كثيرة، فإطلاق الأنفال في كلامهم على الغنائِم مشهور قال عنترة:
إنا إذا احمرا الوغى نُرْوي القنا ** ونعف عند مقاسم الأنفال

وقد قال في القصيدة الأخرى:
وأعف عند المغنم

فعلمنا أنه يريد من الأنفال المغانم وقال أوس بن حَجر الأسدي وهو جاهلي:
نكصتم على أعقابكم ثم جئتمو ** تُرجون أنفال الخميس العرمرم

ويقولون نفلني كذا يريدون أغنمني، حتى صار النفل يطلق على ما يعطاه المقاتل من المغنم زيادة على قسطه من المغنم لمزية له في البلاء والغِناء أو على ما يعثر عليه من غير قتيله، وهذا صنف من المغانم.
فالمغانم، إذن، تنقسم إلى: ما قصد المقاتل أخذه من مال العدو مثل نعمهم، ومثل ما على القتلى من لباس وسلاح بالنسبة إلى القاتل، وفيما ما لم يقصده المقاتلون مما عثروا عليه مثل لباس قتيل لم يُعرف قاتله، فاحتملت الأنفال في هذه الآية أن تكون بمعنى المغانم مطلقًا، وأن تكون بمعنى ما يُزاد للمقاتل على حقه من المغنم، فحديث سعد بن أبي وقاص كان سؤالًا عن تنفيل بمعنى زيادة، وحديث ابن عباس حكى وقوع اختلاف في قسمة المغنم بين من قاتل ومن لم يقاتل، على أن طلب من لم يقاتلوا المشاركة في المغنم يرجع إلى طلب تنفيل، فيبقى النفل في معنى الزيادة.
ولأجل التوسع في ألفاظ أموال الغنائم تردد السلف في المعنى من الأنفال في هذه الآية، وسئل ابن عباس عن الأنفال فلم يزد على أن قال الفرس من النفل والدرع من النفل كما في الموطأ، وروي عنه أنه قال: والسلب من النفل كما في كتاب أبي عبيد وغيره.
وقد أطلقوا النفل أيضًا على ما صار في أيدي المسلمين من أموال المشركين بدون انتزاع ولا افتكاك كما يوجد الشيء لا يُعرف من غنمه، وكما يوجد القتيل عليه ثيابه لا يعرف قاتله، فيدخل بهذا الإطلاق تحت جنس الفيء كما سماه الله تعالى في سورة [الحشر: 6، 7] بقوله: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركابٍ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} إلى قوله: {بين الأغنياء منكم} وذلك مثل أموال بني النضير التي سلّموها قبل القتال وفروا.
وبهذا تتحصل في أسماء الأموال المأخوذة من العدو في القتال ثلاثة أسماء: المغنم، والفيء، وهما نوعان، والنفل.
وهو صورة من صور القسمة وكانت متداخلة، فلما استقرّ أمر الغزو في المسلمين خص كل اسم بصنف خاص قال القرطبي في قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} [الأنفال: 41] الآية، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص أي تخصيص اسم الغنيمة بمال الكفار إذا أخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولكن عُرفَ الشرع قيد اللفظ بهذا النوع فسمى الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين أي لمعنيين مختلفين غنيمة وفيئًا يعني وأما النفل فهو اسم لنوع من مقسوم الغنيمة لا لنوع من المغنم.
والذي استقر عليه مذهب مالك أن النفل ما يعطيه الإمام من الخُمس لمن يرى إعطاءه إياه، ممن لم يغنم ذلك بقتال.
فالأنفال في هذه الآية قال الجمهور: المراد بها ما كان زائدًا على المغنم.