فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فيكون النظر فيه لأمير الجيش يصرفه لمصلحة المسلمين، أو يعطيه لبعض أهل الجيش لإظهار مزية البطل، أو لخصلة عظيمة يأتي بها، أو للتحريض على النكاية في العدو.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: «من قتل قتيلًا فله سَلَبُه» وقد جعلها القرآن لله وللرسول، أي لما يأمر به الله رسوله أو لما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم قال مالك في الموطأ ولم يبلغنا أن رسول الله قال: من قتل قتيلًا فله سَلَبه إلا يومَ حنين، ولا بلغنا عن الخلفاء من بعده يعني مع تكرر ما يقتضيه فأراد ذلك أن تلك قضية خاصة بيوم حنين.
فالآية محكمة غير منسوخة بقوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما، قال القرطبي: وهو ما حكاه المازري عن كثير من أصحابنا.
وعن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة وعطاء: أن المراد بالأنفال في هذه الآية الغنائِم مطلقًا.
وجعلوا حكمها هنا أنها جُعلت لله وللرسول أي أن يقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما يراه، بلا تحديد ولا اطراد، وأن ذلك كان في أول قسمة وقعت ببدر كما في حديث ابن عباس، ثم نسخ ذلك بآية: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] الآية إذ كان قد عين أربعة الأخماس للجيش، فجعل لله وللرسول الخمس، وجعل أربعة الأخماس حقًا للمجاهدين.
يعني وبقي حكم الفيء المذكور في سورة الحشر غير منسوخ ولا ناسخ، فلذلك قال مالك والجمهور: لا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام وقال مالك: إعطاء السَلَب من التنفيل، وقال مجاهد: الأنفال هي خمس المغانم وهو المجعول لله والرسول ولذي القربى.
واللام في قوله: {للَّه} على القول الأول في معنى الأنفال: لام الملك، لأن النفل لا يحسب من الغنائِم، وليس هو من حق الغزاة فهو بمنزله مال لا يعرف مستحقه، فيقال هو ملك لله ولرسوله، فيعطيه الرسول لمن شاء بأمر الله أو باجتهاده، وهذا ظاهر حديث سعد بن أبي وقاص في الترمذي إذ قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام سألتني هذا السيف معنى السيف الذي تقدم ذكره في حديث مسلم ولم يكن لي وقد صار لي فهو لك.
وأما على القول الثاني، الجامع لجميع المغانم، فاللام للاختصاص، أي: الأنفال تختص بالله والرسول، أي حكمُها وصرفها، فهي بمنزلة إلى.
تقول: هذا لك أي: إلى حكمك مردود، وأن أصحاب ذلك القول رأوا أن المغانم لم تكن في أول الأمر مخمسة بل كانت تقسم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم خُمّست بآية: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] الآية.
وعطف {وللرسول} على اسم الله لأن المقصود: الأنفالُ للرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقًا للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين: أولاهما: أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توقيفًا أو تفويضًا.
والثانية: لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن ما كان حقًا لله كان التصرف فيه لخلفائه.
واختلف الفقهاء في حكم الأنفال اختلافًا ناشئًا عن اختلاف اجتهادهم في المراد من الآية، وهو اختلاف يعذرون عليه لسعة الاطلاق في أسماء الأموال الحاصلة للغزاة، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وسعيد بن المسيب: النفل إعطاء بعض الجيش أو جميعه زيادة على قسمة أخماسهم الأربعة من المغنم، فإنما يكون ذلك من خمس المغنم المجعول للرسول صلى الله عليه وسلم ولخلفائه وأمرائه جمعًا بين هذه الآية وبين قوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] الآية فلا نفل إلا من الخمس المجعول لاجتهاد أمير الجيش وعلة ذلك تجنب إعطاء حق أحد لغيره ولأنه يفضي إلى إيقاد الإحَنْ في نفوس الجيش، وقد يبعث الجيش على عصيان الأمير، ولكن إذا رأى الإمام مصلحة في تنفيل بعض الجيش ساغ له ذلك من الخمس الذي هو موكول إليه، كما سيأتي في آية المغانم، لذلك قال مالك: لا يكون التنفيل قبل قسمة المغنم وجعل ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين من قوله: «من قتل قتيلًا فله سَلَبه» خصوصيه للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر، لأن طاعة الناس للرسول أشد من طاعتهم لمن سواه لأنهم يؤمنون بأنه معصوم عن الجور وبأنه لا يتصرف إلا بإذن الله، قال مالك في الموطأ: ولم يبلغنا أن رسول الله فعل ذلك غير يوم حنين ولا أن أبا بكر وعمر فعلاه في فتوحهما.
وإنما اختلفت الفقهاء: في أن النفل هل يبلغ جميع الخمس أو يخرج من خمس الخمس، فقال مالك من الخمس كله ولو استغرقه، وقال سعيد بن المسيب، وأبو حنيفة والشافعي: النفل من خمس الخمس.
والخلاف مبني على اختلافهم في أن خمس المغنم أهو مقسم على من سمّاه القرآن أم مختلط، وسيجيء ذلك في آية المغانم.
والحجة لمالك حديث ابن عمر في الموطأ أنهم غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فغنموا إبلًا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرًا ونُفلوا بعيرًا بعيرًا فأعطي النفلُ جميع أهل الجيش وذلك أكثر من خمس الخمس، وقال جماعة يجوز التنفيل من جميع المغنم وهؤلاء يخصصون عموم آية: {واعلموا أنما غنمتم} [الأنفال: 41] بآية: {قل الأنفال لله والرسول} أي فالمغانم المخمسة ما كان دون النفل، والقول الأول أسد وأجرى على الأصول وأوفق بالسنة، والمسألة تبسط في الفقه وليس من غرض المفسر إلا الإلمام بمعاقدها من الآية.
وتفريع {فاتقوا الله} على جملة {الأنفال لله والرسول} لأن في تلك الجملة رفعًا للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال، أو في طلب التنفيل، فلما حكم بأنها ملك لله ورسوله أو بأن أمر قسمتها موكول لله، فقد وقع ذلك على كراهة كثير منهم ممن كانوا يحسبون أنهم أحق بتلك الأنفال ممن أعطيها، تبعًا لعوائِدهم السالفة في الجاهلية فذكرهم الله بأن قد وجب الرضى بما يقسمه الرسول منها، وهذا كله من المقول.
وقدم الأمر بالتقوى، لأنها جامع الطاعات.
وعُطف الأمر بإصلاح ذات البين، لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها كما قال عبادة بن الصامت: اختلفْنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فأمرهم الله بالتصافح، وختم بالأمر بالطاعة، والمراد بها هنا الرضى بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى: {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت} [النساء: 65].
والإصلاح: جعل الشيء صالحًا، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم، وهو فساد التنازع والتظالم.
و{ذات} يجوز أن تكون مؤنث ذو الذي هو بمعنى صاحب فتكون ألفها مبدلة من الواو.
ووقع في كلامهم مضافًا إلى الجهات وإلى الأزمان وإلى غيرهما، يجرونه مُجرى الصفة لموصوف يدل عليه السياق كقوله تعالى: {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} في سورة [الكهف: 18]، على تأويل جهة، وتقول: لقيته ذات ليلة، ولقيته ذات صباح، على تأويل المقدر ساعة أو وقت، وجرت مجرى المثل في ملازمتها هذا الاستعمال، ويجوز أن تكون {ذات} أصلية الألف كما يقال: أنا أعرف ذات فلان، فالمعنى حقيقة الشيء وماهيته، كذا فسرها الزجاج والزمخشري، فهو كقول ابن رواحة:
وذلك في ذاتتِ الإله وإن يَشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع

فتكون كلمةً مقحمةً لتحقيق الحقيقة، جُعلت مُقدمة، وحقها التأخير لأنها للتأكيد مثل المعنى في قولهم: جاءني بذاته، ومنه يقولون: ذات اليمين وذات الشمال، قال تعالى: {إنه عليم بذات الصدور}.
فالمعنى: أصلحوا بينكم، ولذا ف ذات مفعول به على أن بَين في الأصل ظرف فخرج عن الظرفية، وجعل اسمًا منتصرفًا، كما قرئ {لقد تقطع بينُكم} [الأنعام: 94] برفع بينُكم في قراءة جماعة.
فأضيفت إليه ذات فصار المعنى: أصلحوا حقيقة بينكم أي اجعلوا الأمر الذي يجمعكم صالحًا غير فاسد، ويجوز مع هذا أن ينزل فعل {أصلحوا} منزلة الفعل اللازم فلا يقدر له مفعول قصدًا للأمر بإيجاد الصلاح لا بإصلاح شيء فاسد، وتنصب ذات على الظرفية لإضافتها إلى ظرف المكان والتقدير: وأوجدوا الصلاح بينكم، كما قرأنا {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94] بنصب بينكم أي لقد وقع التقطيع بينكم.
وأعلم أني لم أقف على استعمال ذاتَ بين في كلام العرب فأحسب أنها من مبتكرات القرآن.
وجواب شرط {إنْ كنتم مؤمنين} دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله: {فاتقوا الله} إلى آخرها، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعًا إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية: إنا أمرناكم بما ذكر إنْ كنتم مؤمنين، لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال، لظهور أن ليس المراد: فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله، ولا تصلحوا ذات بينكم، ولا تطيعوا الله ورسوله، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أهل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال.
وليس الإتيان في الشرط بـ {بأنْ} تعريضًا بضُعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورُهم، بناء على أن شأن إنْ عدمُ الجرم بوقوع الشرط بخلاف إذا على ما تقرر في المعاني، ولكن اجتلاب إنْ في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي: التقوى الجامعة لخصال الدين، وإصلاح ذات بينهم، والرضى بما فعله الرسول، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صُوره ومظاهره، ولذلك عُقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وَجِلتْ قلوبهم} [الأنفال: 2] كما سيأتي. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} الآية.
اختلف العلماء في المراد بالأنفال هنا على خمسة أقوال:
الأول: أن المراد بها خصوص ما شذ عن الكافرين إلى المؤمنين، وأخذ بغير حرب كالفرس والبعير يذهب من الكافرين إلى المسلمين، وعلى هذا التفسير فالمراد بالأنفال هو المسمى عند الفقهاء فيئا، وهو الآتي بيانه في قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: 6] وممن قال بهذا القول عطاء بن أبي رباح.
الثاني: أن المراد بها الخمس وهو قول مالك.
الثالث: أن المراد بها خمس الخمس.
الرابع: أنها الغنيمة كلها وهو قول الجمهور وممن قال به ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء، والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد قاله ابن كثير.
الخامس: أن المراد بها أنفال السرايا خاصة وممن قال به الشعبي، ونقله ابن جرير عن علي بن صالح بن حي، والمراد بهذا القول: ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش، واختار ابن جرير أن المراد بها الزيادة على القسم. قال ابن كثير: ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية. وهو ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر، وقتل أخي عمير قتلت سعيد بن العاص. وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اذهب فاطرحه في القبض» قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي. قال: فما جاوزت إلا يسيرًا حتى نزلت سورة الأنفال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب فخذ سلبك»، وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك قال: قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف. فقال: «إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه»، قال: فوضعته، ثم رجع فقلت: عسى أن يعطى هذا السيف من لا يبلى بلائي، قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي قال: قلت قد أنزل الله فيَّ شيئًا، قال: كنت سألتني السيف، وليس هو لي وإنه قد وهب لي فهو لك. قال: وأنزل الله هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهكذا رواه أبو داود الطيالسي: أخبرنا شعبة أخبرنا سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: نزلت فيَّ أربع آيات من القرآن أصبت سيفًا يوم بدر فأتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلنيه فقال: «ضعه من حيث أخذته مرتين»، ثم عاودته فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ضعه من حيث أخذته» فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} الآية، وتمام الحديث في نزول {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الخمر والميسر} [المائدة: 90] الآية. وآية الوصية وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة به. وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر، وكان السيف يدعى بالمرزبان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئًا يسأله، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه، ورواه ابن جرير من وجه آخر. اهـ. كلام ابن كثير.