فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأبي القاسم الساباذي عن فارس بن مردويه عن محمد بن الفضل بن العابد عن يحيى بن عيسى عن أبي مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله الايمان يزيد وينقص؟ فقال: «الايمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر».
وأجابوا عما تمسك به الأولون من الآيات والأحاديث بأن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والساعات.
وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين: أن النبي صلى الله عليه وسلم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه زمانين بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره متوالية فيثبت له صلى الله عليه وسلم أعداد من الايمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه أكثر.
واعترض هذا بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه ودفع بأن المراد زيادة إعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك، وأجابوا أيضًا بأن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا آمنوا في الجملة وكانت الشرعية غير تامة والأحكام تتنزل شيئًا فشيئًا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصر النبوة لإمكان الإطلاع عليها في غيره من العصور وبأن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب فإن نوره يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، ولا يخفى أن الحجة الأولى يعلم جوابها مما ذكرناه أولًا، وأما الحجة الثانية التي ذكرها أبو الليث فمما لا يعول عليها عند الحفاظ أصلًا لأن رجال السند إلى أبي مطيع كلهم مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع وهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي فقد ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعمرو بن علي الفلاس والبخاري وأبو داود والنسائي وحاتم الرازي وأبو حاتم محمد بن حبان البستي والعقيلي وابن عدي والدارقطني وغيرهم.
وأما أبو المهمز وقد تصحف على الكتاب؛ واسمه يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضًا غير واحد وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثًا، ومن مارس الأحاديث النبوية لا يشك في أن ذلك اللفظ ليس منها في شيء، وما ذكره إمام الحرمين على ما فيه مبني على تجدد الأعراض وعدم بقائها زمانين، والمسألة خلافية، ودون إثبات ذلك خرط القتاد.
وما أجابوا به أولًا: من أن زيادة الايمان بحسب زيادة المؤمن به مع كونه خلاف الظاهر ولا داعي إليه عند المنصف لا يكاد يتأتى في قوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إيمانا} [آل عمران: 173] وقوله تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة في قُلُوبِ المؤمنين لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} [الفتح: 4] إذ ليس هناك زيادة مشروع يحصل الايمان به ليقال: إن زيادة الايمان بحسب زيادة المؤمن به، وحال الجواب الثاني: لا يخفى عليك.
وذهب جماعة منهم الإمام الرازي وإمام الحرمين في قول إلى أن الخلاف في زيادة الايمان ونقصانه وعدمهما لفظي وهو فرع تفسير الايمان، فمن فسره بالتصديق قال: إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال: إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الايمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعنى بما روى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قلنا يا رسول الله إن الايمان يزيد وينقص قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار».
واعترض على هذا بأن عدم قبول الايمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده، أما أولًا: فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصًا، وأما ثانيًا: فلأن أحدًا لا يستكمل الايمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال.
وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الايمان بانتفاء شيء من الأعمال ونحن إنما نقول: إنها شرط كمال فيه واللازم عند الانتفاء انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الايمان والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتب فما المانع من تفاوته قوة وضعفًا كما في التصديق بطلوع الشمس والصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير وما على إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى فالحق أحق بالاتباع والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام.
نعم أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه فسر الايمان في هذه الآية بالخشية وعبر عنها بذلك بناء على أنها من آثاره وهو خلاف الظاهر أيضًا، وكأن المعنى عليه أن المؤمنين الكاملين هم الذين إذا ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياتهم المتضمنة ذلك زادتهم وجلًا على وجل: {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي يفوضون أمورهم كلها إلى مالكهم ومدبرهم خاصة لا إلى أحد سواه كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله والجملة معطوفة على الصلة.
وجوز أبو البقاء كونها حالًا من ضمير المفعول وكونها استئنافية. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي: الكاملون المخلصون فيه {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ} أي: حقه أو وعيده {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: فزعت لذكره، واقشعرت إشفاقًا ألا تكون قامت بحقه، وتهيبًا من جلاله وعزة سلطانه، وبطشه بالعصاة وعقابه.
قال الجشمي: ومتى قيل: لم جاز وصفهم هاهنا بالوجل والطمأنية في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْر}، فجوابنا فيه وجوه:
منها: أنه تطمئن قلوبهم عند ذكر نعمه، وتوجل لخوف عقابه بارتكاب معاصيه.
ومنها: أن قلوبهم تطمئن لمعرفة توحيده، ووعده، ووعيده، فعند ذلك توجل لأوامره ونواهيه، خوف التقصير في الواجبات، والإقدام على المعاصي، المستقبل يتغير حاله. انتهى.
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} أي: حججه وهي القرآن {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} أي: يقينًا وطمأنينة نفس، إلى ما عندهم؛ فإن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه، وأثبت لقدمه.
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة الآية وأشباهها، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد، كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: لا يرجون سواه، ولا يخشون غيره، ولا يفوضون أمورهم إلى غيره. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}.
موقع هذه الجملة وما عطف عليها موقع التعليل لوجوب تقوى الله وإصلاح ذات بينهم وطاعتهم الله ورسوله، لأن ما تضمنته هذه الجمل التي بعد {إنما} من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما تضمنته جُمل الأمر الثلاث السابقة، وقد اقتضى ظاهر القصر المستفاد من {إنما} أن من لم يَجلْ قلبُه إذا ذُكر الله، ولم تزده تلاوة آيات الله إيمانًا مع إيمانه، ولم يتوكل على الله، ولم يقم الصلاة، ولم ينفق، لم يكن موصوفًا بصفة الإيمان، فهذا ظاهرٌ مؤول بما دلت عليه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة من أن الإيمان لاَ ينقضه الإخلال ببعض الواجبات كما سيأتي عند قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقًا} [الأنفال: 4] فتعين أن القصر ادعائي بتنزيل الإيمان الذي عَدم الواجبات العظيمةَ منزلة العدم، وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه، فهو استعارة مكنية: شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن، وطوي ذكر المشبه به ورُمز إليه بذكر لازمه وهو حَصْر الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به، ويئول هذا إلى معنى: إنما المؤمنون الكاملُو الإيماننِ، فالتعريف في {إنما المؤمنون} تعريف الجنس المفيد قصرًا ادعائيًا على أصحاب هذه الصفات مبالغة، وحرف أل فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال.
وقد تكون جملة: {إنما المؤمنون} مستأنفة استينافًا بيانيًا لجواب سؤال سائِل يثيره الشرطُ وجزاؤه المقدرُ في قوله: {إن كنتم مؤمنين} [الأنفال: 1] بأن يتساءلوا عن هذا الاشتراط بعد ما تحقق أنهم مؤمنون من قبل، وهل يمتري في أنهم مؤمنون، فيجابوا بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت، فيعلموا أن الإيمان المجعول شرطًا هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته.
وإذ قد كان الاحتمالان غير متنافيين صح تحميل الآية إياهما توفيرًا لمعاني الكلام المعجز فإن علة الشيء مما يُسأل عنه، وإن بيان العلة مما يصح كونه استينافًا بيانيًا.
وعلى كلا الاحتمالين وقعت الجملة مفصولة عن التي قبلها لاستغنائها عن الربط وإن اختلف موجب الاستغناء باختلاف الاحتمالين، والاعتباراتُ البلاغية يصح تعدد أسبابها في الموقع الواحد لأنها اعتبارات معنوية وليست كيفيات لفظية فتحقَّقْه حق تحقُّقه.
والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصلة التي يعرف المتصف بها تحققها فيه أو عدمه من عرض نفسه على حقيقتها، فإنه لما كان الكلام واردًا مورد الأمر بالتخلق بما يقتضيه الإيمان أحيلوا في معرفة أمارات هذا التخلق على صفات يأنسونها من أنفسهم إذا علموها.
والذكر حقيقته التلفظ باللسان، وإذا علق بما يدل على ذات فالمقصود من الذات أسماؤها، فالمراد من قوله: {إذا ذكر الله} إذا نطق ناطق باسم من أسماء الله أو بشأن من شئونه، مثل أمره ونهيه، لأن ذلك لابد معه من جريان اسمه أو ضميره أو موصوله أو إشارته أو نحو ذلك من دلائل ذاته.
والوجل خوف مع فزع فيكون لاستعظام الموجول منه.
وقد جاء فعل وَجل في الفصيح بكسر العين في الماضي على طريقة الأفعال الدالة على الانفعال الباطني مثل فَرِح، وصَدِي، وهوِيَ، ورَوِي.
وأسند الوجل إلى القلوب لأن القلب يكثر إطلاقه في كلام العرب على إحساس الإنسان وقرارة إدراكه، وليس المراد به هذا العضو الصنوبري الذي يرسل الدم إلى الشرايين.
وقد أجملت الآية ذكر الله إجمالًا بديعًا ليناسب معنى الوجل، فذكرُ الله يكون: بذكر اسمه، وبذكر عقابه، وعظمته، وبذكر ثوابه ورحمته، وكل ذلك يحصل معه الوجل في قلوب كُمّل المؤمنين، لأنه يحصلَ معه استحضار جلال الله وشدة بأسه وسعة ثوابه، فينبعث عن ذلك الاستحضار توقعُ حلول بأسه، وتوقع انقطاع بعض ثوابه أو رحمته، وهو وجل يبعث المؤمن إلى الاستكثار من الخير وتوقي ما لا يرضي الله تعالى وملاحظة الوقوف عند حدود الله في أمره ونهيه، ولذلك روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: «أفضَلُ من ذِكر الله باللسان ذكرُ الله عند أمره ونهيه».
وإذ قد كان المقصود من هذا الكلام حث المؤمنين على الرضى بما قسم النبي صلى الله عليه وسلم من غنايم بدر، وأن يتركوا التشاجر بينهم في ذلك، ناسب الاقتصار على وجل قلوب المؤمنين عند ذكر الله، والوجلُ حالين يحصلان للمؤمن عند ذكر الله والحال الآخر هو الأمل والطمع في الثواب فطوى ذكره هنا اعتمادًا على استلزام الوجل إياه، لأن من الوجل أن يَجل، من فوات الثواب أو نقصانه.
التلاوة: القراءة واستظهار ما يحفظه التالي من كلام له أو لغيره يحكيه لسامعه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} في [البقرة: 102].
وآيات الله القرآن، سميت آيات، لأن وحيها إلى النبي الأمّي وعجزَ قومه، خاصتهم وعامتهم عن الإتيان بمثلها فيه دلالة على صدق من جاء بها فلذلك سميت آيات.
ويسمى القرآن كله آية أيضًا باعتبار دلالة جملته على صدق محمد، وقد تقدم ذلك في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
وإسناد فعل زيادة الإيمان إلى آيات الله لأنها سبب تلك الزيادة للإيمان باعتبار حال من أحوالها، وهو تلاوتها لاعتبار مجرد وجودها في صدر غير المتلوة عليه.
وهذا الإسناد من المجاز العقلي إذ جُعلت الآيات بمنزلة فاعل الزيادة في الإيمان.
فإنه لما لم يعرف الفاعل الحقيقي لزيادة الإيمان، إذْ تلك الزيادة كيفية نفسية عارضة، لليقين، لا يُعرف فاعل انقداحها في العقل، وغاية ما يعرف أن يقال: ازداد إيمان فلان، أو ازداد فلان إيمانًا، بطريق ما يدل على المطاوعة، ولا التفات في الاستعمال إلى أن الله هو خالق الأحوال، كلها إذ ليس ذلك معنى الفاعل الحقيقي في العُرف، ولو لوحظ ذلك لم ينقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز عقليين وإنما الفاعل الحقيقي هو من يأتي بالفعل ويصنعه كالكاتب للكتابة والضارب بالسيف للقتل.