فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}
قال الزجاج: {حقًا} منصوب بمعنى دلت عليه الجملة، والجملة: {أولئك هم المؤمنون} فالمعنى: أحَقَّ ذلك حقًا.
وقال مقاتل: المعنى: أولئك هم المؤمنون لا شك في إيمانهم كشكِّ المنافقين.
قوله تعالى: {لهم درجات عند ربهم} قال عطاء: درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم، والرزق الكريم: ما أُعدَّ لهم فيها. اهـ.

.قال القرطبي:

{أولئك هُمُ المؤمنون حَقًّا} أي الذي استوى في الإيمان ظاهرُهم وباطنهم.
ودلّ هذا على أن لكل حق حقيقة؛ وقد قال عليه السلام لحارثة: «إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك»؟ الحديث.
وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد؛ أمؤمن أنت؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا به مؤمن.
وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أولئك هُمُ المؤمنون حَقًّا} فوالله ما أدري أنا منهم أم لا.
وقال أبو بكر الواسِطِيّ: من قال أنا مؤمن بالله حقًا؛ قيل له: الحقيقة تشير إلى إشراف واطلاع وإحاطة؛ فمن فقده بطل دعواه فيها.
يريد بذلك ما قاله أهل السنة: إنّ المؤمن الحقيقي من كان محكومًا له بالجنة، فمن لم يعلم ذلك من سرّ حكمته تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقًا غير صحيح. اهـ.

.قال الخازن:

{أولئك} يعني من هذه صفتهم {هم المؤمنون حقًا} يعني يقينًا لا شك في إيمانهم قال ابن عباس برؤا من الكفر.
وقال قتادة: استحقوا الإيمان وأحقه الله لهم وفيه دليل على انه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنًا حقًا لأن الله سبحانه وتعالى إنما وصف بذلك أقوامًا مخصوصين على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه وهذا يتعلق بمسألة أصولية وهي أن العلماء اتفقوا على أنه يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن واختلفوا في أنه هل يجوز له أن يقول أنا مؤمن حقًا أم لا؟ فقال أصحاب الإمام أبي حنيفة: الأولى أن يقول أنا مؤمن حقًا ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله واستدلوا على صحة هذا القول بوجهين:
الأول: أن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله وكذا القول في القائم والقاعد، فكذلك هذه المسألة يجب فيها أن يكون المؤمن مؤمنًا حقًا، ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله.
الوجه الثاني: أنه سبحانه وتعالى قال: {أولئك هم المؤمنون حقًا} فقد حكم الله لهم بكونهم مؤمنين حقًا وفي قوله أنا مؤمن إن شاء الله تشكيك فيما قطع الله لهم به وذلك لا يجوز وقال أصحاب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه الأولى أن يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء الله واحتجوا لصحة هذا القول بوجوه: الأول أن الإيمان عندهم عبارة عن الاعتقاد والإقرار والعمل وكون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة المقبولة أمر مشكوك فيه والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في الماهية فيجب أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله وإن كان اعتقاده وإقراره صحيحًا وعند أصحاب أبي حنيفة أن الإيمان عبارة عن الاعتقاد فيخرج العمل من مسمى الإيمان فلم يلزم حصول الشك.
الوجه الثاني: أن قولنا أنا مؤمن إن شاء الله ليس هو على سبيل الشك ولكن إذا قال الرجل أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب فإذا قال: إن شاء الله زال عنه ذلك العجب وحصل له الانكسار.
روي أن أبا حنيفة قال لقتادة: لم استثنيت في إيمانك؟ فقال قتادة: اتباعًا لإبراهيم عليه السلام في قوله: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} فقال أبو حنيفة هلا اقتديت به في قوله أولم تؤمن؟ قال: بلى فانقطع قتادة قال بعضهم كان لقتادة أن يقول إن إبراهيم قال بعد قوله: {بلى}: {ولكن ليطمئن قلبي} فطلب مزيد الطمأنينة.
الوجه الثالث: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في أول الآية إنما المؤمنون ولفظة إنما تفيد الحصر يعني إنما المؤمنون الذين هم كذا وكذا وذكر بعد ذلك أوصافًا خمسة وهي الخوف من الله والإخلاص لله والتوكل على الله والإتيان بالصلاة كما أمر الله سبحانه وتعالى وإيتاء الزكاة كذلك ثم بعد ذلك قال: {أولئك هم المؤمنون حقًا} يعني أن من أتى بجميع هذه الأوصاف كان مؤمنًا حقًا ولا يمكن لأحد أن يقطع بحصول هذه الصفات له فكان الأولى له أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله.
وقال ابن أبي نجيح: سأل رجل الحسن فقال أمؤمن أنت؟ فقال الحسن: إن كنت سألتني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن وإن كنت سألتني عن قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} الآية فلا أدري أنا منهم أم لا.
وقال علقمة: كنا في سفر فلقينا قوم فقلنا من القوم؟ فقالوا نحن المؤمنون حقًا فلم ندر ما نجيهم حتى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا قال فما رددتم عليهم قلنا لم نرد عليهم شيئًا قال هلا قلتم لهم أمن أهل الجنة أنتم إن المؤمنين هم أهل الجنة؟ وقال سفيان الثوري: من زعم أنه مؤمن حقًا عند الله ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف الآخر.
الوجه الرابع: إن قولنا أنا مؤمن إن شاء الله للتبرك لا للشك فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع العلم القطعي أنه لاحق بأهل القبور.
الوجه الخامس: إن المؤمن لا يكون مؤمنًا حقًا إلا إذا ختم له بالإيمان ومات عليه وهذا لا يحصل إلا عند الموت، فلهذا السبب حسن أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
فالمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة.
وأجاب أصحاب هذا القول، وهم أصحاب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهم، عن استدلال أصحاب أبي حنيفة م بقولهم: إن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله بأن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمنًا وبين وصفه بكونه متحركًا أن الإيمان يتوقف حاله على الخاتمة والحركة فعل يقيني فحصل الفرق بينهما والجواب عن الوجه الثاني وهو قولهم إنه سبحانه وتعالى قال: {أولئك هم المؤمنون حقًا} فقد حكم لهم بكونهم مؤمنين حقًا أنه تعالى حكم للموصفين بتلك الصفات المذكورة في الآية بكونهم مؤمنين حقًا إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة ولا يقدر أحد أن يأتي بتلك الأوصاف على الحقيقة ونحن نقول أيضًا إن من أتى بتلك الأوصاف على الحقيقة كان مؤمنًا حقًا ولكن لا يقدر على ذلك أحد والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وقوله تعالى: {لهم درجات عند ربهم} يعني لهم مراتب بعضها أعلى من بعض لأن المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ تلك الأوصاف المذكورة فلهذا تتفاوت مراتبهم في الجنة لأن درجات الجنة على قدر الأعمال.
قال عطاء: درجات الجنة يرتقون فيها بأعمالهم، وقال الربيع بن أنس: درجات الجنة سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام». أخرجه الترمذي وله عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم» {ومغفرة} يعني ولهم مغفرة لذنوبهم {ورزق كريم} يعني ما أعدَّ لهم في الجنة وصفه بكونه كريمًا منافعه حاصلة لهم دائمة عليهم مقرونة بالإكرام والتعظيم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أولئك هم المؤمنون حقًا} قال ابن عطيّة {حقًّا} مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه وهو المصدر غير المنتقل والعامل فيه أحقّ ذلك حقًا انتهى، ومعنى ذلك أنه تأكيد لما تضمنته الجملة من الإسناد الخبري وأنه لا مجاز في ذلك الإسناد.
وقال الزمخشري {حقًا} صفة للمصدر المحذوف أي {أولئك هم المؤمنون} إيمانًا حقًّا وهو مصدر مؤكد للجملة التي هي أولئك هم المؤمنون كقوله هو عبد الله حقًا أي حقّ ذلك حقًا.
وعن الحسن أنه سأله رجل أمؤمن أنت قال: الإيمان إيمانان فإن كانت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله: {إنما المؤمنون} فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا وأبعد من زعم أن الكلام ثم عند قوله: {أولئك هم المؤمنون} وأنّ {حقًا} متعلق بما بعده أي {حقًا لهم درجات} وهذا لأنّ انتصابَ حقًا على هذا التقدير يكون عن تمام جملة الابتداء بمكان التأخير عنها لأنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة فلا يجوز تقديمه وقد أجازه بعضهم وهو ضعيف.
{لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وبدنية ومالية ترتّب عليها ثلاثة أشياء فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات، والبدنية بالغفران، وفي الحديث أن رجلًا أتى من امرأة أجنبية ما يأتيه الرجل من أهله غير الوطء، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بذلك أصلّيت معنا فقال نعم فقال له: وقوبلت المالية بالرزق بالكريم وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البيان.
وقال ابن عطية والجمهور: إنّ المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجاتها على قدر أعمالهم، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا وقوله: {ورزق كريم} يريد به مآكل الجنة ومشاربها و{كريم} صفة تقتضي رفع المقام كقوله ثوب كريم وحسب كريم، وقال الزمخشري درجات شرف وكرامة وعلوّ منزلة ومغفرة وتجاوز لسيئاتهم ورزق كريم ونعيم الجنة منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم وهذا معنى الثواب انتهى.
وقال عطاء درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم، وقال الربيع بن أنس سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة وقيل مراتب ومنازل في الجنة بعضها على بعض، وفي الحديث: «أنّ أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما يتراءى الكوكب الدرّيّ» وثلاثة الأقوال هذه تدل على أنه أريد الدرجات حقيقة وعن مجاهد درجات أعمال رفيعة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أولئك} إشارةٌ إلى من ذُكرت صفاتُهم الحميدةُ من حيث أنهم متصفون بها، وفيه دلالةٌ على أنهم متمِّيزون بذلك عمن عداهم أكملَ تميزٍ منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدةِ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو رتبتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الشرف {هُمُ المؤمنون حَقًّا} لأنهم حققوا إيمانَهم بأن ضمّو إليه ما فصل من أفاضل الأعمالِ القلييةِ والقالَبية، وحقًا صفةٌ لمصدر محذوفٍ، أي أولئك هم المؤمنون إيمانًا حقًا، أو مصدرٌ مؤكدٌ للجملة أي حقَّ ذلك حقًا كقولك: هو عبدُ الله حقًا {لَّهُمْ درجات} من الكرامة والزلفى وقيل: درجاتٌ عاليةٌ في الجنة، وهو إما جملةٌ مبتدأةٌ مبنيةٌ على سؤال نشأ من تعداد مناقبهم كأنه قيل: ما لهم بمقابلة هذه الخِصالِ؟ فقيل: لهم كيت وكيت أو خبرٌ ثانٍ لأولئك، وقوله تعالى: {عِندَ رَبّهِمْ} إما متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لدرجاتٌ مؤكدةٌ لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنةٌ عنده تعالى أو بما تعلق به الخبرُ أعني لهم من الاستقرار، وفي إضافة الظرفِ إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم مزيدُ تشريفٍ ولطفٍ لهم وإيذانٌ بأن ما وعد لهم متيقَّنُ الثبوتِ والحصولِ مأمونُ الفواتِ {وَمَغْفِرَةٌ} لما فرَط منهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا ينقضي أمدُه ولا ينتهي عددُه وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. اهـ.

.قال الألوسي:

{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}
{أولئك} أي المتصفون بما ذكر من الفات الحميدة من حيث إنهم كذلك {هُمُ المؤمنون حَقًّا} لأنهم حقوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال.
وأخرج الطبراني عن الحرث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «كيف أصبحت يا حارث قال: أصبحت مؤمنًا حقًا فقال صلى الله عليه وسلم: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فاسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتصارخون فيها قال عليه الصلاة والسلام: يا حارث عرفت فالزم ثلاثًا» ونصب {حَقًّا} على أنه صفة مصدر محذوف فالعامل فيه المؤمنون أي إيمانًا حقًا أو هو مؤكد لمضمون الجملة فالعامل فيه حق مقدر، وقيل: إنه يجوز أن يكون مؤكدًا لمضمون الجملة التي بعده فهو ابتداء كلام، وهو مع أنه خلاف الظاهر إنما يتجه على القول بجواز تقديم المصدر المؤكد لمضمون الجملة عليها والظاهر منعه كالتأكيد، واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنًا حقًا لأنه سبحانه وتعالى: إنما وصف بذلك أقوامًا على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه بل يلزمه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى.