فصل: فوائد بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد بلاغية:

قال في إشارات الإعجاز:
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}.
اعلم! أن نظم هذه الآية كأخواتها بثلاثة وجوه: نظم المجموع بما قبله، والجمل بعضها مع بعض، والهيئات.
أما الأول: فاعلم! أن لمآلها ارتباطات متفاوتة مع الآيات السابقة، وخطوطا ممتدة بالاختلاف إلى الجمل السالفة. ألا ترى أن القرآن الكريم لما أثنى في رأس السورة على نفسه وعلى المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح كيف أشار بهذه الآية إلى نتيجة الإيمان وثمرة العمل الصالح.. وكذا لما ذم الكفار وشنع على المنافقين وبين طريقهم المنجر إلى الشقاوة الأبدية لوّح بهذه الآية إلى نور السعادة الأبدية، فأراهم ليزيدوا حسرة على حسرة بفوات هذه النعمة العظمى.. ثم لما كلف ب {يا أيها الناس اعبدوا}- مع أن في التكليف مشقة وكلفة وترك اللذائذ العاجلة- فتح لهم ابواب الآجلة؛ فاراهم بهذه الآية تطمينا لنفوسهم وتأمينا لهم.. ثم لما اثبت التوحيد- الذي هو أول اركان الإيمان الذي هو أساس التكليف- صرح في هذه الآية بثمرة التوحيد وعنوان الرحمة وديباجة الرضاء بإراءة الجنة والسعادة الأبدية.. ثم لما أثبت النبوّة- ثانية أركان الإيمان- بالاعجاز بقوله: {وإن كنتم في ريب}. إلخ. أشار بهذه مع المطوي قبلها إلى وظيفة النبوّة ومكلفية النبيّ وهي: الإِنذار والتبشير بلسان القرآن.. ثم لما اوعد وأرهب وانذر في سابقتها القريبة وعد ورغب وبشّر بهذه الآية بسر أن التضاد مناسبة.. وأيضًا أن الذي يُطيع النفسَ، ويديم الاطاعة ويصيّر الوجدان مطيعا لحكم العقل؛ تهييجُ حسّ الخوف وحسّ الشوق معا بجمع الترغيب والترهيب؛ إذ حكم العقل وامره موقّت فلابد من وجود محرك آمر دائميّ في الوجدان.. وكذا لما أشار بالسابقة إلى احد شقي الآخرة كمل بهذه الآية الشق الآخر وهو منبع السعادة الابدية.. وكذا لما لوح هناك بالنار إلى جهنم صرح هنا بالجنة.
ثم اعلم! أن الجنة وجهنم ثمرتان تدلّتا إلى الأبد من شجرة الخلقة، ونتيجتان لسلسلة الكائنات، ومخزنان لانصباب الكائنات، وحوضان للكائنات الجارية إلى الأبد. نعم! تتمخض الكائنات وتختلط بحركة عنيفة فتتظاهر الجنة وجهنم فتمتلئان.
وايضاحه: هو أن الله جل جلاله لما اراد أن يبدع عالمًا للابتلاء والامتحان لحكم كثيرة تدقّ عن العقول، واراد تغيير ذلك العالم وتحوّله لحِكَم؛ مزج الشر بالخير وادرج الضر في النفع، وادمج القبح في الحسن؛ فوصلها بجهنم وأمدها بها. وساق المحاسن والكمالات تتجلى في الجنة. وأيضًا لما اراد تجربة البشر ومسابقتهم، وأراد وجود اختلافات وتغيرات فيهم في دار الابتلاء خلط الأشرار بالأبرار. ثم لما انقضى وقت التجربة وتعلقت الارادة بأبديتهم جعل الأشرار مظهر خطاب {وَامْتَازُوا اْليَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}. وصير الأبرار مظهر تلطيفِ وتشريف {فَادْخُلُوهَا خَالِدينَ} ولما امتاز النوعان تصفّت الكائنات فانسلّت مادة الضر والشر عن عنصر النفع والخير والكمال فاختارت جانبا.
والحاصل: أنه لو امعن النظر في الكائنات صودف فيها عنصران أساسان وعرقان ممتدان إذا تحصلا وتأبدا صارا جنة وجهنم.
مقدمة:
هذه الآية مع ما قبلها اشارة إلى القيامة والحشر، فمدار النظر في هذه المسألة أربع نقط:
إحداها: إمكان خراب العالم وموته.
والثانية: وقوعه.
والثالثة: التعمير والإِحياء.
والرابعة: وقوعه.
أما امكان موت الكائنات:
فاعلم! أن الشيء الداخل تحت قانون التكامل ففيه نشوء ونماء.. فله عمر طبيعيّ.. فله أجَلٌ فطريّ؛ لايخلص من حكم الموت؛ بدليل استقراء أكثر أفراد الأنواع. فكما أن الانسان عالم صغير لا خلاص له من الخرابية؛ كذلك العالم انسان كبير لامناص له من الموت البتة. وكما أن الشجر نسخة من الكائنات يعقبها التخريب والانحلال؛ كذلك سلسلة الكائنات من شجرة الخلقة لامناص لها من يد التخريب للتعمير. ولئن لم يَعرضْ عاصفةٌ أو مرض خارجيّ بالارادة الأزلية قبل العمر الفطريّ، ولم يخرّبها صانُعها قبلَه لَيَجئُ بالضرورة وعلى كل حال حتى بالحساب الفنّي يومٌ يتحقق فيه {إذا الشّمْسُ كُوِّرَتْ وإذا النجوم انكدرت}. و{إذا السماء انشقت}. فيتظاهر في الفضاء سكرات الانسان الكبير بخرخرة عجيبة وصوت هائل.
أما وقوعه:
فباجماع كل الاديان السماوية، وبشهادة كل فطرة سليمة، وباشارة تغيّر وتبدّلِ وتحوّلِ الكائنات. وإن شئت أن تتصور سكرات العالم وخرخرته فاعلم! أن الكائنات قد ارتبطت بنظام علويّ دقيق، واستمسكت بروابط عجيبة فإذا صار جسم من الاجرام العلوية مظهر خطاب كُن أو اُخْرُج عَنْ مِحْوركَ ترى العالم يشرع في السكرات، وترى النجوم تتصادم، وتتلاطم الاجرام فترعد وتصيح في الفضاء الغير المتناهي، ويضرب بعض وجه بعض، وترمي بشرر كأرضنا هذه بل أكبر. فكيف أنت بخرخرة موتٍ صوتُها محصَّلُ ملايين مَرامي مدافع رصاصتُها الصغرى أكبر من الأرض؟ فبهذا الموت تتمخض الخِلقة وتتميز الكائنات فتمتاز جهنم بعشيرتها ومادتها، وتتجلى الجنة جامعة لطائفتها مستمدة من عناصرها.
فان قلت: لِمَ كانت الكائنات مغيَّرة موقّتة تخرب ثم تصير يوم القيامة مؤبدة محكمة ثابتة؟
قيل لك: أن الحكمة والعناية الازليتين لما اقتضتا التجربة والابتلاء، والنشوء والنماء في الاستعدادات، وظهور القابليات، وظهورالحقائق النسبية التي تصير في الآخرة حقائق حقيقية، ووجود مراتب نسبية، وحكم كثيرة لاتدركها العقول؛ جعل الصانع جل جلاله الطبائعَ مختلطةً، والمضارّ ممزوجة بالمنافع، والشرور متداخلة بين الخير، والمقابح مجتمعة مع المحاسن، فخمّرت يدُ القدرة الاضداد تخميرًا فصيرت الكائنات تابعة لقانون التبدل والتغير والتحول والتكامل. فلما انسد ميدان الامتحان وانقضى وقت الابتلاء وجاء وقت الحصاد؛ أراد الصانع جل جلاله بعنايته تصفية الاضداد المختلطة للتأبيد، وتمييز أسباب التغير، وتفريق مواد الاختلاف؛ فتحصل جهنم بجسم محكم مظهرًا لخطاب {وامتازوا} وتجلى الجنة بجسم مؤبد مشيد مع أساساتها.. بسر أن المناسبة شرط الانتظام، والنظام سبب الدوام. ثم أنه تعالى أعطى بقدرته الكاملة لساكني هاتين الدارين الأبديتين وجودًا مشيدًا لاسبيل للانحلال والتغير اليه، على أن التغير هنا المنجر إلى الانقراض إنما هو بتفاوت النسبة بين التركيب وما يتحلل. وأما هناك فلاستقرار النسبة يجوز التغير بلا انجرار إلى الانحلال.
وأما النقطة الثالثة والرابعة: أعني امكان التعمير والحشر ووقوعه:
فاعلم! أن التوحيد والنبّوة لما لم يصح اثباتهما بالدليل النقليّ فقط للزوم الدور أشار القرآن إلى الدلائل العقلية عليهما. أما الحشر فيجوز اثباته بالعقل والنقل:
أما العقليّ فراجع إلى ما بيّنا بقدر الطاقة في تفسير {وبالآخرة هم يوقنون} حاصله: أن النظام والرحمة والنعمة إنما تكون نظامًا ورحمة ونعمة أن جاء الحشر.
واما النقليّ فقول كل الانسان مع حكم القرآن المعجز بوقوعه. وأما النقليّ مع الرمز للعقليّ فراجع هذا الموضع من تفسير فخر الدين الرازي فإنه عدّد الآيات المثبتة للحشر.
والحاصل: أنه ما من متأمل في نظائرِ وأشباهِ وأمثالِ الحشر في كثير من الانواع إلا ويتحدس من تفاريق الامارات إلى وجود الحشر الجسماني والسعادة الأبدية.
أما نظم جملها بعض مع بعض، فاعلم! أن السلك الذي نُظم فيه جواهر جمل هذه الآية وسلسلتها هي: أن السعادة الأبدية قسمان:
الأول الأولى: رضاء الله تعالى وتلطيفه وتجلّيه وقربيته.
والثاني: السعادة الجسمانية وهي بالمسكن والمأكل والمنكح ومتممها ومكملها جميعًا هو الدوام والخلود.
ثم أن أقسام الاول مستغنية عن التفصيل أو غير قابلة.
وأما أقسام الثاني: فالمسكن، ألطفه ما يجري الماء بين نباتاته. ألا ترى أن ملهم الشعر ومفيض العشق في القلوب إنما هو خشخشة الماء وخريره وكشكشة الانهار وصفيرها تحت القصور وبين البساتين.
والمأكل الرزق ولأنه تفكه يكون كمال لذته فيما حصل به الأُلفة والانسية، ولأنه تفكه يكون كمال لذته في التجدد من جهة؛ إذ بحكم المألوفية يُعرف درجة علوّ النعمة وتفوقها على نظيرها. وكذا من مكملات اللذة أن يُعرف أنه جزاء عمله.. ومنها أن يكون منبعه ومخزنه حاضرًا نصب العين لتحصل لذة الاطمئنان.
وأما المنكح، فاعلم! أن من اشدّ حاجات الانسان وجود قلب مقابلا لقلبه لمداولة المحبة ومبادلة العشق والمؤانسة والتشارك في اللذة، بل التعاون في أمثال الحيرة والتفكر. ألا ترى أن من رأى ما يتحير فيه أو يتفكر في أمر عجيب يدعو ولو ذهنا من يعينه في تحمل الحيرة. ثم أن ألطف القلوب وأشفقها واحرّها قلب القسم الثاني. ثم أن متمم الامتزاج الروحيّ ومكمّل الاستيناس القلبيّ، ومصفى الاختلاط الصوريّ كون القسم الثاني مبرأة ومطهرة من الأخلاق السيئة والعوارض المنفرة.
فإن قلت: أن الأكل لبقاء الشخص؛ إذ به يحصل تعمير ما يتحلل، وإن النكاح لبقاء النوع مع أن الأشخاص في الآخرة مؤبّدون لا يقع فيهم التحويل والانحلال وكذا لاتناسل في الآخرة؟
قيل لك: أن فوائد الأكل والنكاح ليست منحصرة في البقاء والتناسل بل فيهما لذة عظيمة في هذا العالم الألميّ. وكيف لايكون فيهما في عالم السعادة واللذة لذات عالية منزهة؟
فان قلت: أن اللذة هنا دفع الألم؟
قيل لك: أن دفع الالم سبب من أسباب اللذة.. وأيضًا قياس العالم الأبديّ على هذا العالم قياس مع الفارق، بل أن النسبة بين حديقة خُورْخُورْ هذه وتلك الجنة العالية هي النسبة بين لذائذ الآخرة ونظائرها في هذا العالم. فكما تفوق تلك الجنة على الحديقة بدرجات غير محصورة؛ كذلك هذه.. والى هذا التفاوت العظيم اشار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله: ليس في الجنة إلا أسماءها أي ثمرات الدنيا.
أما جملة {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فاعلم! أنه تعالى لما كلف الناس، وأثبت النبوّة، وكلف النبيّ بالتبليغ أمره بالتبشير تأمينًا لامتثال التكليف الذي فيه مشقة وترك للّذائذ الدنيوية. فكما أنه مأمور بالانذار؛ كذلك مأمور بالتبشير برضاء الله تعالى وتلطيفه وقربيته وبالسعادة الأبدية. أما الخلود ودوام اللذة، فاعلم! أن اللذة إنما تكون لذة حقيقية ِان لم ينغّصها الزوالُ؛ إذ كما أن دفعَ الالم لذةٌ أو سببٌ لها، كذلك زوال اللذة ألم بل تصوّرُ زوالِ اللذةِ ألمٌ أيضًا. حتى أن مجموع اشعار العشاق المجازيين إنما هي انين ونياح من هذا الألم. وإن ديوان كل عاشق غير حقيقي إنما هو بكاء وعويل من هذا الألم الناشئ من تصور زوال المحبوب.. نعم، أن كثيرًا من اللذائذ الموقّتة إذا زالت اثمرت آلاما مستمرة كلما تذكرها يفور مِن فيه: ايواه! واأسفا! المترجمَيْنِ عن هذا الألم الروحانيّ. وإن كثيرًا من الآلام إذا انقضت اولدت لذّات مستمرة كلما تذكرها الشخص وهو قد نجا يتكلم بالحمد لله الملوِّح لنعمة معنوية.
أجل! أن الانسان مخلوق للأبد فإنما تحصل له اللذة الحقيقية في الأمور الأبدية كالمعرفة الالهية والمحبة والكمال والعلم وأمثالها.
والحاصل: أن اللذة والنعمة إنما تكونان لذة ونعمة أن كانتا خالدتين.
وإذا رأيت هذا السلك فانظم فيه جمل الآية.
وأما جملة {أن لهم جنات تجري} فاعلم! كما مر أن أول حاجات الانسان الضرورية- لأنه جسم- المكان والمسكن؛ وإن أحسن المكان هو المشتمل على النباتات والأشجار، وإن الطفه هو الذي يتسلل بين خضراواته الماء، وإن اكمله هو الذي تجري بين أشجاره وتحت قصوره الأنهار بكثرة. فلهذا قال: {تجري من تحتها الأنهار}. ثم أن اشد الحاجات كما سمعت آنفًا بعد المكان واكمل اللذائذ الجسمانية هو الاكل والشرب اللذين يشير اليهما الجنة والنهر.. ثم أن اكمل الرزق هو أن يكون مألوفًا ومأنوسًا ليعرف درجة تفوقه على نظيره.. وألذّ الفاكهة أن تكون متجددة.. وإن اصفى اللذة هو أن يكون المقتطَف معلومًا وقريبًا.. وإن ألذّها أن يعرف إنها ثمرة عمله. فلهذا قال: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} أي في الدنيا أو قبل هذا الآن.
وأما {وأتوا به متشابها} فاعلم! أن في الحديث: أن صورتها واحدة والطعم مختلف. فتشير الآية إلى لذة التجدد في الفاكهة.. وإن كمال اللذة أن يكون الشخص مخدوما يؤتى اليه. وأما جملة {ولهم فيها أزواج مطهرة} فاعلم! كما رأيت في السلك أن الانسان محتاج لرفيقة وقرينة يسكن اليها وينظر بعينها وتنظر بعينه ويستفيد من المحبة التي هي ألطف لمعات الرحمة. ألا ترى أن الأنسية التامة هنا بهن؟ وأما جملة {وهم فيها خالدون} فاعلم! أن الانسان إذا صادف نعمة أو اصاب لذة فأول ما يتبادر لذهنه: أتدوم أم تُنَغَّص بزوال؟ فلهذا أشار إلى تكميل النعمة بخلود الجنة ودوامهم وازواجهم فيها ودوام اللذائذ واستمرار الاستفادة بقوله: {وهم فيها خالدون}.
أما نظم هيئات جملة جملة:
فجملة {وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الواو فيها- بسر المناسبة بين المتعاطفين- اشارة إلى أنذر الذي يتقطر من أنف السابقة.. وأما {بشّر} فرمز إلى أن الجنة بفضله تعالى لا واجب عليه.. وكذا إلى أن لابد أن لا يكون العمل لأجل الجنة.. وأما صورة الأمر في {بشّر} فايماء إلى بلّغ مبشرًا فإنه مكلَّف بالتبليغ.
واما {الذين آمنوا} بدل المؤمنين الأقصر فتلويح إلى {الذين} الذي مرّ في رأس السورة ليكون تفصيله هناك مبيِّنا لما اجمل هنا.. واما ايراد {آمنوا وعملوا} على صيغة الماضي هنا، مع ايراد يؤمنون وينفقون هناك بصيغة المضارع فللإشارة إلى أن مقام المدح والتشويق على الخدمة شأنه المضارع. وأما مقام المكافأة والجزاء فالمناسب الماضي، إذ الاجرة بعد الخدمة.
وأما واو {وعملوا} فاشارة بسر المغايرة إلى أن العمل ليس داخلا في الإيمان كما قالت المعتزلة. والى أن الإيمان بغير عمل لا يكفي. ولفظ العمل رمز إلى أن ما يبشر به كالاجرة.
أما {الصالحات} فمبهمة ومجملة. قال شيخ محمد عبده المصريّ الاطلاق هنا حوالة على الاشتهار وتعارف الصالحات بين الناس. أقول: وكذا اطلقت اعتمادًا على رأس السورة.
وأما جملة {أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} فاعلم! أن هيئاتها- من تحقيق أنّ وتخصيص اللام وتقديم {لهم} وجمع الجنة وتنكيرها وذكر الجريان وذكر {من} مع تحت وتخصيص نهر وتعريفه- تتعاون وتتجاوب على امداد الغرض الاساسيّ الذي هو السرور ولذة المكافأة كالأرض النشفة الرطبة ترشح بجوانبها الحوض المركزيّ. لأن أنّ اشارة إلى أن البشارة بما هو في هذه الدرجة من العظمة يتردد فيها العقل فتحتاج إلى التأكيد.. وأيضًا من شأن مقام السرور طرد الأوهام؛ إذ طَرَيان ادنى وهم يكسر الخيال ويطير السرور.. وكذا ايماء إلى أن هذا ليس وعدًا صرفا بل حقيقة من الحقائق. ولام {لهم} اشارة إلى الاختصاص والتملك والاستحقاق الفضليّ لتكميل اللذة وزيادة السرور. وإلا فكثيرًا ما يضيف مَلِكٌ مسكينًا.. وتقديم {لهم} اشارة إلى اختصاصهم بين الناس بالجنة، إذ ملاحظة حال أهل النار سبب لظهور قيمة لذة الجنة.. وجمع {جنّات} اشارة إلى تعدد الجنان وتنوع مراتبها على نسبة تنوع مراتب الأعمال.. وكذا رمز إلى أن كل جزء من الجنة جنة.. وكذا ايماء إلى أن ما يصيب حصة كل- لوسعته- كأنه كالجنة بتمامها لا كأنه يساق بجماعتهم إلى موضع.. وتنكير {جنّات} يتلو على ذهن السامع: «فيها ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». وكذا يحيل على أذهان السامعين حتى يتصورها كلٌ على الطرز الذي يستحسنه.. وكذا كأن التنوين بدل {وفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاَنْفُسُ}. وأما {تجري} فاعلم! أن أحسن الرياض ما فيها ماء. ثم أحسنها ما يسيل ماؤها. ثم أحسنها ما استمر السيلان. فبلفظ {تجري} أشار إلى تصوير دوام الجريان.. واما {من تحتها} فاعلم! أن أحسن الماء الجاري في الخضراوات أن ينبع صافيا من تلك الروضة، ويمر مُتَخَرْخِرًا تحت قصورها، ويسيل منتشرًا بين أشجارها فاشار ب {من تحتها} إلى هذه الثلاثة.. وأما {الأنهار} فاعلم! أن أحسن الماء الجاري في الجنان أن يكون كثيرًا. ثم أحسنه أن تتلاحق الأمثال من جداوله. فان بتناظر الأمثال يتزايد الحسن على قيمة الأجزاء. ثم أحسنه أن يكون الماء عذبًا فراتا لذيذًا كما قال: {ماءٍ غَيْر آسِنٍ} فبلفظ نهر وجمعه وتعريفه أشار إلى هذه.
أما جملة {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} فاعلم! أن هيئاتها تتضمن كثيرة من الجمل الضمنية. فاستينافها جواب لسؤال مقدر.
وذلك السؤال ممزوج من ثمانية اسئلة متسلسلة؛ إذ لما بشروا بمسكن هكذا عال يتبادر لذهن السامع: أفيه رزق أم لا؟ وإذا كان فيه رزق فمن اين يجئ ويحصل؟ وإذا حصل من تلك الجنة فمن أي شيء منها؟ وإذا كان من ثمرتها فهل هي تشبه ثمار الدنيا؟ وإذا شابهتها فهل يشبه بعضها بعضا؟ وإذا تشابهت فهل تختلف طعومها؟ وإذا اختلفت وقد قطعت فهل تنقص ام يمتلء موضعها؟ وإذا تبدلت بأخرى فهل يدوم الأكل منها؟ وإذا دام فما حال الآكلين أفلا يستبشرون؟ وإذا استبشروا فماذا يقولون؟ واذ تفطنت لهذه الأسئلة فانظر كيف أجاب القرآن الكريم عن هذه الأسئلة المتسلسلة بهيئات هذه الجملة.
أما لفظ كلما فاشارة إلى الدوام والتحقيق.. وماضوية رزقوا اشارة إلى تحقيق الوقوع.. وكذا ايماء إلى أما لفظ {كلما} فاشارة إلى الدوام والتحقيق.. وماضوية {رزقوا} اشارة إلى تحقيق الوقوع.. وكذا ايماء إلى اخطار نظيره من رزق الدنيا إلى ذهنهم.. وايراده على بناء المفعول اشارة إلى عدم المشقة وانهم مخدومون يؤتى اليهم.. وايثار {منها من ثمرة} على من ثمراتها للتنصيص على جوابين عن سؤالين من الأسئلة المذكورة. وتنكير {ثمرة} المفيد للتعميم اشارة إلى أنه أية ثمرة كانت فهي رزق.. وتنكير {رزقا} اشارة إلى أنه ليس من الرزق الذي تعلمونه لدفع الجوع.. ولفظ {قالوا} أي يتقاولون بعضهم لبعض ايماء إلى الاستبشار والاستغراب اللازمين للحكم.
أما جملة {هذا الذي رزقنا من قبل} فاعلم! أن هذا الاطلاق يتضمن أربعة معان:
أحدها: أن هذا ما رزقنا من العمل الصالح في الدنيا فبشدة الارتباط بين العمل والجزاء كأن العمل تجسم في الآخرة ثوابًا. ومن هنا الاستبشار.
والثاني: أن هذا ما رزقنا من الأطعمة في الدنيا مع هذا التفاوت العظيم بين طعميهما. ومن هنا الاستغراب.
والثالث: أن هذا مثل ما أكلنا قبل هذا الآن مع اتحاد الصورة واختلاف المعنى لجمع لذّتَي الألفة والتجدد. ومن هنا الابتهاج.
والرابع: أن هذه التي على أغصان الشجرة هي التي أكلناها إذ ينبت بدلها دفعة فكأنها اياها. ومن هنا يعرف إنها لا تنقص.
وأما جملة {وأتوا به متشابها} فاعلم! إنها فذلكة وتذييل واعتراضية لتصديق الحكم السابق وتعليله.. وبناء المفعول في {اُتوا} اشارة إلى أن لهم خَدَمَة.. وفي متشابها ما عرفت من الاشارة إلى جمع اللذتين:
وأما جملة {ولهم فيها أزواج مطهرة} فاعلم! أن الواو بسر المناسبة العطفية اشارة إلى أنهم كما يحتاجون إلى المسكن لأجسامهم يفتقرون إلى السكن لأرواحهم.
{ولهم} اشارة إلى الاختصاص والتملك، ورمز إلى التخصيص والحصر، وايماء إلى أن لهم غير النساء الدنيوية حورًا عينًا خلقن لأجلهم.. و{فيها} اشارة إلى أن تلك الأزواج لائقة بتلك الجنة فعلى نسبة علوّ درجاتها يفوق حسنهن.. وكذا فيها ايماء خفي إلى أن الجنة تزينت وتبرجت بهن.. و{مطهرة} اشارة إلى أن مطهِّرًا طهرهن، فما ظنك بمن طهّرهُن ونزههن يد القدرة؟ وكذا ايماء بالتعدية أن نساء الدنيا يطهرن ويصفين فيصرن حسانًا كالحور العين المتطهرات في أنفسهن.
وأما جملة {وهم فيها خالدون} فاشارة إلى أنهم، وكذا أزواجهم، وكذا لذائذ الجنة، وكذا الجنة كافةً؛ أبدية.