فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرر بعضهم وجه الاستدلال بما يشير إليه ما روى عن الثوري أنه قال: من زعم أنه مؤمن بالله تعالى حقًا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ولم يؤمن بالنصف الآخر، وهذا ظاهر في أن مذهبه الاستثناء، وهو كما قال الإمام مذهب ابن مسعود وتبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي ونسب إلى مالك وأحمد، ومنعه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه؛ وروى عنه أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: اتباعًا لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] فقال له: هلا اقتديت به في قوله بلى حين قيل له {أو لم تؤمن} [البقرة: 260]؟ فانقطع قتادة؛ قال الرازي كان لقتادة أن يجيب أبا حنيفة عليهما الرحمة ويقول: قول إبراهيم عليه السلام {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} بعد قوله بلى طلب لمزيد الطمأنينة وذلك يدل على جواز الاستثناء.
وفي الكشف أن الحق أن من جوز الاستثناء إنما جوز إذا سئل عن الايمان مطلقًا أما إذا قيل: هل أنت مؤمن بالقدر مثلًا فقال: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى لا يجوز لا لأن التبرك لا معنى له بل للإبهام فيما ليس له فائدة، وأما في الأول فلما كان الإطلاق يدل على الكمال وهو الايمان المنتفع به في الآخرة علق بالمشيئة تفاؤلًا وتيمنًا، وذلك لأن الكلمة خرجت عن موضوعها الأصلي إلى المعنى الذي ذكر في عرف الاستعمال تراهم يستعملونها في كل ما لهم اهتمام بحصوله شائعًا بين العرب والعجم فلا وجه لقول من قال: إن معنى التبرك أنا أشك في إيماني تبركًا وذلك لأن المشيئة عنده غير مشكوكة عنده بل هو تعليق بما لابد منه نظرًا إلى أنه السبب الأصلي وأنه تفويض من العبد إلى الله تعالى ومن فوض كفي لا نظرًا إلى أن المشيئة غيب غير معلوم فيكون شكا في الايمان، وقد جاء: «من شك في إيمانه فقد كفر» وما أحسن ما نقل عن الحسن أن رجلًا سأله أمؤمن أنت؟ فقال: الايمان إمامان فإن كنت تسألني عن الايمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون} [الأنفال: 2] إلخ فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ وهذا ونحوه ما يجعل الخلاف لفظيًا، وقد صرح بذلك جمع من المحققين عليهم الرحمة.
{لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ} أي كرامة وعلو مكانة على أن يراد بالدرجات العلو المعنوي وقد يراد بها العلو الحسي، وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم» وعن الربيع بن أنس: «سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة» ووجه الجمع على الوجهين ظاهر، والتنوين للتفخيم والظرف، إما متعلق بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لما أفاده التنوين أو بما تعلق به الخبر أعني لهم من الاستقرار.
وجوز أبو البقاء أن يكون العامل فيه {درجات} لأن المراد بها الأجور، وفي إضافته إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد تشريف لهم ولطف بهم وإيذان بأن ما وعدهم متيقن الثبوت مأمون الفوات، والجملة جوز أن تكون خبرًا ثانيًا لأولئك وأن تكون مبتدأة مبنية على سؤال نشأ من تعدد مناقبهم كأنه قيل: ما لهم بمقابلة هذه الخصال؟ فقيل: لهم درجات {وَمَغْفِرَةٌ} عظيمة لما فرط منهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو ما أعط لهم من نعيم الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد القرظي قال: إذا سمعت الله تعالى يقول رزق كريم فهو الجنة.
والكرم كما نقل الواحدي اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه فلعل وصف الرزق به هنا حقيقة.
وقال بعض المحققين: معنى كون الرزق كريمًا أن رازقه كريم، ومن هنا وصفوه بالكثرة وعدم الانقطاع إذ من عادة الكريم أن يجزل العطاء ولا يقعه فكيف بأكرم الأكرمين تبارك وتعالى، وجعله نفسه كريمًا على الإسناد المجازي للمبالغة، ولم يذكروا لتوسيط المغفرة، والظاهر كما قيل تقديمها هنا نكتة، وربما يقال في وجه ذكر هذه الأشياء الثلاثة على هذا الوجه أن الدرجات في مقابلة الأوصاف الثلاثة أعني الوجل والإخلاص والتوكل، ويستأنس له بالجمع والمغفرة في مقابلة إقامة الصلاة ويستأنس له بما ورد في غير ما خبر أن الصلوات مكفرات لما بينها من الخطايا وأنها تنقى الشخص من الذنوب كما ينقى الماء من الدنس، والرزق الكريم بمقابلة الانفاق، والمناسبة في ذلك ظاهرة، وإلى هذا يشير كلام أبي حيان أو يقال: قدم سبحانه الدرجات لأنها بمحض الفضل، وذكر بعدها المغفرة لأنها أهم عندهم من الرزق مع اشتراكهما في كونهما في مقابلة شيء، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم.
وأبو الشيخ عن ابن زيد أنه قال في الآية: المغفرة بترك الذنوب والرزق الكريم بالأعمال الصالحة فتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. اهـ.

.قال القاسمي:

{أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أي: لا شك في إيمانهم.
و: {حَقًّا} صفة لمصدر محذوف، أي: إيمانًا حقًا أو مصدر مؤكد للجملة، أي: حق ذلك حقًا، كقولك، هو عبد الله حقًا.
قال عَمْرة بن مرة في هذا الآية: إنما أنزل القرآن بلسان العرب، كقولك: فلان سيد حقًا، وفي القوم سادة، وفلان تاجر حقًا، وفي القوم تجار، وفلان شاعر حقًا، وفي القوم شعراء. انتهى.
وكأنه أراد الرد على من زعم أن حقًا من صلة قوله: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ} بعد، تأكيدًا له، وأن الكلام تم عند قوله: {الْمُؤْمِنُونَ}، فإن هذا الزعم يصان عند أسلوب التنزيل الحكيم.
وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة وهي: هل يجوز أن يقال: أنا مؤمن حقًا.
قال الطوسي في نقد المحصل: المعتزلة ومن تبعهم يقولون: اليقين لا يحتمل الشك والزوال، فقول القائل: أنا مؤمن إن شاء الله لا يصح إلا عند الشك، أو خوف الزوال. وما يوهم أحدهما، لا يجوز أن يقال للتبرك. انتهى.
والغزالي في الإحياء، بسط هذه المسألة، وأجاب عمن سوغ ذلك بأجوبة:
منها: التخوف من الخاتمة، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة.
ومنها: الإحتراز من تزكية النفس.
ومنها: غير ذلك، انظره بطوله.
وقال ابن حزم في الفصل: القول عندنا في هذه المسألة؛ أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه، فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبكل ما أتى به، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك، فواجب عليه أن يعترف بذلك، كما أمر تعالى في قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
ولا نعمة أوكد ولا أفضل، ولا أولى بالشكر، من نعمة الإسلام، فواجب عليه أن يقول: أنا مؤمن مسلم قطعًا عند الله تعالى في وقتي هذا.
ولا فرق بين قوله أنا مؤمن مسلم، وبين قوله أنا أسود أو أنا أبيض، وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها، وليس هذا من باب الإمتداح والعجب في شيء، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد.
وقول ابن مسعود: أنا مؤمن إن شاء الله عندنا صحيح، لأن الإسلام والإيمان إسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة، إلى جميع البر والطاعات.
فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات، وهذا صحيح.
ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك، وما منع أن يقول المرء إني مؤمن بمعنى مصدق.
وأما قول المانعين: من قال أنا مؤمن، فليقل إنه من أهل الجنة فالجواب: إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن، فلابد لنا من الجنة بلا شك.
وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبكل ما جاء به، ولم يأت بما هو كفر، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا، ولا نأمن مكر الله تعالى، ولا إضلاله، ولا كيد الشيطان؛ ولا ندري ماذا نكسب غدًا، ونعوذ بالله من الخذلان. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله.
ولقد أجاد فيما أفاد.
وقوله تعالى: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أي: منازل ومقامات عاليات في الجنة {وَمَغْفِرَةٌ} أي: تجاوز لسيئاتهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو ما أعد لهم من نعمي الجنة.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على أشياء:
منها: أن الإيمان إسم شرعي لثلاث خصال: القول، والإعتقاد، والعمل، خلاف ما تقوله المرجئة، لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب، والتدبر والتفكر كذلك، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح.
ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقًا.
ومنها: أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى، ووعد وأوعد، لينجر للرغبة والرهبة، وذلك حث على الطاعة، وزجر عن المعاصي.
ومنها: وجوب التوكل عليه، والتوكل على ضربين: منها في الدنيا، ومنها في الدين.
أما في الدنيا فلابد من خصال:
منها: أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له، ولا يطلب محرمًا.
ومنها: إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرّم.
ومنها: ألا يظهر الجزع عند الضيق، بل يسلك فيه طريق الصبر، واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له.
ومنها: أن ما يرزق من النعم بعدها من جهته تعالى، إما بنفسه أو بواسطة.
ومنها: ألا يحسبه عن حقوقه خشية الفقر.
ومنها: ألا يسرف في النفقة ولا يفتقر.
فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلًا.
فأما الذي يزعمه بعضهم؛ أن التوكل إهمال النفس، وترك العمل، فليس بشيء.
وقد أمر الله تعالى بالإنفاق، وبالعمل، وثبت عن الصحابة وهم سادات الإسلام التجارة والزراعة والأعمال، وكذلك التابعين، وبهذا أجرى الله العادة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي أن يعقل ناقته ويتوكل.
فأما التوكل في الدين فخصال:
منها: أن يقوم بالواجبات، ويجتنب المحارم، لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة.
ومنها: أن يسأله التوفيق والعصمة.
ومنها: أن يرى جميع نعمه منه، إذا حصل بهدايته وتمكينه ولطفه.
ومنها: أن لا يثق بطاعته جملة، بل يطيع ويجتنب المعاصي، ويرجو رحمة ربه، ويخاف عذابه، فعند ذلك يكون متوكلًا.
ثم قال الجشمي: وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمنًا، خلاف قول المرجئة. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}
جملة مؤكدة لمضمون جملة: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله} [الأنفال: 2] إلى آخرها ولذلك فصلت.
وعُرف المسند إليه بالإشارة لوقوعه عقب صفات لتدل الإشارة على أنهم أحرياء بالحكم المسند إلى اسم الإشارة من أجل تلك الصفات، فكان المخبرَ عنهم قد تميزوا للسامع بتلك الصفات فصاروا بحيث يشار إليهم.
وفي هذه الجملة قصر آخر يشبه القصر الذي قوله: {إنما المؤمنون} [الأنفال: 2] حيث قصر الإيمان مرة أخرى على أصحاب تلك الصفات ولكنه قرن هنا بما فيه بيان المقصور وهو أنهم المؤمنون الأحقاء بوصف الإيمان.
والحق أصله مصدر حَق بمعنى ثبت واستعمل استعمال الأسماء للشيء الثابت الذي لا شك فيه قال تعالى: {وعد الله حقًا ومن أصدق من الله قيلًا} [النساء: 122].
ويطلق كثيرًا، على الكامل في نوعه، الذي لاسترة في تحقق ماهية نوعه فيه، كما يقول أحد لابنه البار به: أنت ابني حَقًا، وليس يريد أن غيره من أبنائه ليسوا لرشدة ولكنه يريد أنت بنوتك واضحة آثارها، ويطلق الحق على الصواب والحكمة فاسم الحق يجمع معنى كمال النوع.
ولكل صيغة قصر: منطوق ومفهوم، فمنطوقها هنا أن الذين جَمعوا ما دلت عليه تلك الصلات هم مؤمنون حقًا، ومفهومها أن من انتفى عنه أحدُ مدلولات تلك الصلات لم يكن مؤمنًا كاملًا، وليس المقصود أن من ثبتت له إحداها كان مؤمنًا كاملًا، إذا لم يتصف ببقية خصال المؤمنين الكاملين، فمعنى أولئك هم المؤمنون حقا: أن من كان على خلاف ذلك ليس بمؤمن حقا أي كاملًا.