فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فاجتمعوا وخرجوا، وهم كارهون مشفقون من رؤيا عاتكة، ومعهم القينات والدفوف بطرًا ورياء؛ كما قال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم بَطَرًا وَرِئَاءَ الناس وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47].
وكل يوم يطعمهم واحد من أغنيائهم.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وأمر أصحابه بالخروج، فخرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا من المهاجرين والأنصار، وخرجوا على نواضحهم ليس لهم ظهر غيرها، ومعهم ثلاثة أفراس ويقال فرسان، فخرجوا بغير قوت ولا سلاح، لا يرون أنه يكون ثمة قتال.
فلما نزلوا بالروحاء، نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم، وقال: يا محمد، إن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين، إما العير وإما العسكر.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم، فشقّ ذلك على بعضهم، وقالوا: يا رسول الله، هلا كنت أخبرتنا أنه يكون ثمَّ قتال فنخرج معنا سلاحنا وقوسنا، إنما خرجنا نريد العير، والعير كانت أهون شوكة وأعظم غنيمة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أَشِيرُوا عَلَيَّ».
فكان أبو بكر وعمر يشيران عليه بالمسير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أَشِيرُوا عَلَيَّ».
وكان يحب أن يتكلم الأنصار، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله امض حيث شئت، وأقم حيث شئت.
فوالله لئن أمرتنا أن نخوض البحر لنخوضنه، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: {قَالُواْ يا موسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24]، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا، ونحن معكما متَّبعون، فنزل: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقًا مّنَ المؤمنين لَكَّرِهُونَ}، يعني القتال {يجادلونك فِي الحق}، يخاصمونك في الحرب.
{بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}، يعني بعد ما تبيَّن لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ}، يعني ينظرون إلى القتل. اهـ.

.قال الثعلبي:

{يُجَادِلُونَكَ فِي الحق} أي في القتال وذلك أن المؤمنين لمّا أيقنوا الشوكة والحرب يوم بدر وعرفوا أنّه القتال كرهوا ذلك وقالوا: يا رسول الله إنّه لم تعلمنا إنّا نلقي العدو فنستعد لقتالهم وإنّما خرجنا للعير فذلك جدالهم: {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} إنّك لا تصنع إلاّ ما أمر الله به.
وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون يجادلونه في الحق {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} يعني من يدعون للإسلام لكراهتهم إيّ. اهـ.
{وَهُمْ يَنظُرُونَ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} يعني في القتال يوم بدر.
و{بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: بعد ما تبين لهم صوابه.
الثاني: بعد ما تبين لهم فرضه.
وفي المجادل له قولان:
أحدهما: أنهم المشركون، قاله ابن زيد.
الثاني: أنهم طائفة من المؤمنين وهو قول ابن عباس، وابن إسحاق، لأنهم خرجوا لأخذ العير المقبلة من الشام مع أبي سفيان فلما فاتهم ذلك أمروا بالقتال فجادلوا طلبًا للرخصة وقالوا ما تأهبنا في الخروج لقتال العدو، فأنزل الله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} يعني كأنهم في قتال عدوهم يساقون إلى الموت، رعبًا وأسفًا لأنه أشد لحال من سيق إلى الموت أن يكون ناظرًا له وعالمًا به. اهـ.

.قال ابن عطية:

والضمير في قوله: {يجادلونك} قيل: هو للؤمنين وقيل: للمشركين، فمن قال للمؤمنين جعل {الحق} قتال مشركي قريش، ومن قال للمشركين جعل {الحق} شريعة الإسلام، وقوله: {إلى الموت} أي في سوقهم على أن المجادلين المؤمنون في دعائهم إلى الشرع على أنهم المشركون، وقوله: {وهم ينظرون} حال تزيد في فزع السوق وتقتضي شدة حاله. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يجادلونك في الحق}
يعني: في القتال يوم بدر، لأنهم خرجوا بغير عُدَّة، فقالوا: هلاَّ أخبرتنا بالقتال لنأخذ العُدَّة، فجادلوه طلبا للرخصة في ترك القتال.
وفي قوله: {بعد ما تبين} ثلاثة أقوال:
أحدها: تبيَّن لهم فرضُه.
والثاني: تبيَّن لهم صوابه.
والثالث: تبيَّن لهم أنك لا تفعل إلا ما أُمِرتَ به، وفي المجادلين قولان:
أحدهما: أنهم طائفة من المسلمين، قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: أنهم المشركون، قاله ابن زيد.
فعلى هذا، يكون جدالهم في الحق الذي هو التوحيد، لا في القتال.
فعلى الأول، يكون معنى قوله: {كأنما يساقون إلى الموت} أي: في لقاء العدو {وهم ينظرون}، لأن أشد حال من يساق إلى الموت أن يكون ناظرًا إليه، وعالمًا به.
وعلى قول ابن زيد: كأنما يساقون إلى الموت حين يُدعَوْن إلى الإسلام لكراهتهم إياه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}
مجادلتهم: قولهم لما ندبهم إلى العِير وفات العِير وأمرهم بالقتال ولم يكن معهم كبير أُهْبَة شقّ ذلك عليهم وقالوا: لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدّة.
ومعنى {فِي الْحَقِّ} أي في القتال.
{بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} لهم أنك لا تأمر بشيء إلا بإذن الله.
وقيل: بعد ما تبيّن لهم أن الله وعدهم إما الظَّفَر بالعِير أو بأهل مكة، وإذ فات العير فلابد من أهل مكة والظَّفَر بهم.
فعمنى الكلام الإنكارُ لمجادلتهم.
{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} كراهة للقاء القوم.
{وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي يعلمون أن ذلك واقع بهم؛ قال الله تعالى: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] أي يعلم. اهـ.

.قال الخازن:

{يجادلونك في الحق}
وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك وقالوا لم تعلمنا أنَّا نلقى العدو فنستعد لقتالهم وإنما خرجنا لطلب العير فذلك جدالهم: {بعد ما تبين} يعني تبين لهم أنك لا تصنع شيئًا إلا بأمر ربك وتبين لهم صدقك في الوعد {كأنما يساقون إلى الموت} يعني لشدة كراهتهم القتال {وهم ينظرون} يعني إلى الموت شبه حالهم في فرط فزعهم بحال من يجر إلى القتل ويساق إلى الموتِ وهو ينظر إليه ويعلم أنه آتيه. اهـ.

.قال أبو حيان:

والظاهر أن ضمير الرفع في {يجادلونك} عائد على فريق المؤمنين الكارهين وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال والحق هنا نصرة دين الإسلام، وقيل الضمير يعود على المشركين وجدالهم في الحق هو في شريعة الإسلام.
وقرأ عبد الله بعدما بين بضم الباء من غير تاء وفي قوله: {بعدما تبين} إنكار عظيم عليهم لأنّ من جادل في شيء لم يتضح كان أخف عتبًا أما من نازع في أمر واضح فهو جدير باللوم والإنكار ثم شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يساريهم إلى الظفر والغنيمة بحال من يساق على الصفا إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها، وقيل كان خوفهم لقلة العدد وأنهم كانوا رجالة، وروي أنه ما كان فيهم إلا فارسان وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان المشركون في نحو ألف رجل وقصة بدر هذه مستوعبة في كتاب السير وقد لخص منها الزمخشري وابن عطية ما يوقف عليه في كتابيهما. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يجادلونك فِي الحق}
الذي هو تلقّي النفيرِ لإيثارهم عليه تلقيَ العير، والجملةُ استئنافٌ أو حالٌ ثانية أي أخرجك في حال مجادلِتهم إياك ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في لَكارهون وقوله تعالى: {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} منصوبٌ بيجادلونك، وما مصدرية أي بعد تبين الحقِّ لهم بإعلامك أنهم يُنصَرون أينما تواجهوا ويقولون: ما كان خروجُنا إلا للعِير، وهلا قلتَ لنا لنستعدَّ ونتأهَّبَ وكان ذلك لكراهتهم القتالَ {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} الكافُ في محل النصبِ على الحالية من الضمير في لَكارهون أي مُشبّهين بالذين يُساقون بالعنف والصَّغار إلى القتل {وَهُمْ يَنظُرُونَ} حال من ضمير يساقون أي والحالُ أنهم ينظرُون إلى أسباب الموتِ ويشاهدونها عِيانا، وما كانت هذه المرتبةُ من الخوف والجزعِ إلا لقلة عددِهم وعدمِ تأهُّبِهم وكونهم رِجالة. روي أنه لم يكن فيهم إلا فارسان. اهـ.

.قال الألوسي:

{يجادلونك فِي الحق}
الذي هو تلقي النفير المعلي للدين لإيثارهم عليه تلقي العير، والجملة إما مستأنفة أو حال ثانية، وجوز أن تكون حالًا من الضمير في {لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] وقوله سبحانه: {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} متعلق بيجادلون، و{مَا} مصدرية، وضمير تبين للحق أي يجادلون بعد تبين الحق لهم بإعلامك أنهم ينصرون ويقولون: ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال حتى نستعد له ونتأهب {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل، فالجملة في محل نصب على الحالية من ضمير {لكارهون} [الأنفال: 5] وجوز أن تكون صفة مصدر لكارهون بتقدير مضاف أي لكارهون كراهة ككراهة من سيق للموت {وَهُمْ يَنظُرُونَ} حال من ضمير يساقون وقد شاهدوا أسبابه وعلاماته، وفي قوله سبحانه وتعالى: {كَأَنَّمَا} إلخ إيماء إلى أن مجادلتهم كان لفرط فزعهم ورعبهم لأنهم كانوا ثلثمائة وتسعة عشر رجلًا في قول فيهم فارسان المقداد بن الأسود.
والزبير بن العوام، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما كان منا فارس يوم بدر إلا المقداد وكان المشركون ألفًا قد استعدوا للقتال. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {يجادلونك} حال من {فريقًا} فالضمير لفريق باعتبار معناه لأنه يدل على جمع.
وصيغة المضارع لحكاية حال المجادلة زيادة في التعجيب منها، وهذا التعجيب كالذي في قوله تعالى: {يجادلنا} من قوله: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يُجادلنا في قوم لوط} [هود: 74] إذ قال: {يجادلنا} ولم يقل جادلنا.
وقوله: {بعْدَ ما تبيّنَ} لوم لهم على المجادلة في الخروج الخاص، وهو الخروج للنفير وترك العير، بعد أن تبين أي ظهر أن الله قدر لهم النصر، وهذا التبيّن هو بيّنٌ في ذاته سواء شعر به كلهم أو بعضهم فإنه بحيث لا ينبغي الاختلاف فيه، فإنهم كانوا عَرَبًا أذكياء، وكانوا مؤمنين أصفياء، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ناصرهم على إحدى الطائفتين: طائفة العير أو طائفة النفير، فنصرهم إذن مضمون، ثم أخبرهم بأن العير قد أخطأتهم، وقد بقي النفير، فكان بيّنًا أنهم إذا لقوا النفير ينصرهم الله عليه، ثم رأوا كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لمّا اختاروا العير، فكان ذلك كافيًا في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم لا محالة، ولكنهم فضلوا غنيمة العير على خضد شوكة أعدائهم ونهوضضِ شوكتهم بنصر بدر، فذلك معنى تبيّن الحق أي رجحان دليله في ذاته، ومَن خفي عليه هذا التبيّن من المؤمنين لم يعذره الله في خفائِه عليه.
ومن هذه الآية يؤخذ حكم مؤاخذة المجتهد إذا قصّر في فهم ما هو مدلول لأهل النظر، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الذي سأله عن ضالة الإبل بعدَ أن سأله عن ضالة الغنم فأجابه هي لكَ أو لأخيك أو للذئب.
فلما سأله بعد ذلك عن ضالّة الإبل تَمَعّر وجهه وقال: «مالَكَ ولها معها حذاؤها وسقاؤها تَشرب الماءَ وترعَى الشجرَ حتى يلقاها ربها» وروى مالك، في الموطأ، أن أبا هريرة مرّ بقوممٍ محرمين فاستفتوه في لَحْم صيد وجدوا أناسًا أحلة يأكلونه فأفتاهم بالأكل منه ثم قدم المدينة فسأل عُمر بن الخطاب عن ذلك فقال له عمر بمَ أفتيتَهم قال: أفتيتهم بأكله فقال: «لو أفتيتهم بغير ذلك لأوْجَعْتُك».