فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} [الأنفال: 7] إلى ما قصه تعالى عليهم من اكتنافهم برحمته وشمول ألطافه وآلائه وبسط نفوسهم ونبههم على ما يثبت يقينهم ويزيد في إيمانهم، ثم أعلم أن الخير كله في التقوى فقال: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا} [الأنفال: 29] الاية، وهذا الفرقان هو الذي حرمه إبليس وبلعام، فكان منهما ما تقدم من اتباع الأهواء القاطعة لهم عن الرحمة، وقد تضمنت الآية حصول خير الدنيا والآخرة بنعمة الاتقاء، ثم أجمل الخيران معًا في قوله: {والله ذو الفضل العظيم} [الأنفال: 29] بعد تفصيل ما إليه إسراع المؤمنين من الفرقان والتكفير والغفران، ولم يقع التصريح بخيري الدنيا الخاص بها مع اقتضاء الآية إياه تنزيهًا للمؤمن في مقام إعطاء الفرقان وتكفير السيئات، والغفران من ذكر متاع الدنيا التي هي لهو ولعب فلم يكن ذكر متاعها الفاني ليذكر مفصلًا مع ما لا يجانسه ولا يشاكله {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} [العنكبوت: 64] ثم التحمت الآي، ووجه آخر وهو أنه تعالى لما قال: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له} بيَّن لهم كيفية هذا الاستماع وما الذي يتصف به المؤمن من ضروبه فقال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله} [الأنفال: 2] الآية، فهؤلاء لم يسمعوا بآذانهم فقط، ولا كانت لهم آذان لا يسمعون بها ولا قلوب لا يفقهون بها، ولو كانوا كذا لما وجلت وعمهم الفزع والخشية وزادتهم الآيات إيمانًا، فإذن إنما يكون سماع المؤمن هكذا {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} [الأنفال: 21] ولما كان هؤلاء إنما أتى عليهم من اتباع أهوائهم والوقوف مع أعراضهم وشهواتهم {يأخذون عرض هذا الأدنى} [الأعراف: 169] {ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} [الأعراف: 176] وهذه بعينها كانت آفة إبليس، رأى لنفسه المزيد واعتقد لها الحق ثم اتبع هذا الهوى حين قال: {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون} [الحجر: 33] فلما كان اتباع الهوى أصلًا في الضلال وتنكب الصراط المستقيم، أمر المؤمنين بحسم باب الأهواء، والتسليم فيما لهم به تعلق وغن لم يكن هوى مجردًا لكنه مظنة تيسير لاتباع الهوى، فافتتحت السورة بسؤالهم عن الأنفال وأخبروا أنها لله ورسوله، يحكم فيها ما يشاء {فاتقوا الله} واحذروا الأهواء التي أهلكت من قص عليكم ذكره {وأصلحوا ذات بينكم} برفع التنازع، وسلموا لله ولرسوله، وإلا لم تكونوا سامعين وقد أمرتم أن تسمعوا السماع الذي عنه ترجى الرحمة، وبيانه في قوله: {إنما المؤمنون}- الآيات، ووجه آخر وهو أن قصص بني إسرائيل عقب بوصاة المؤمنين وخصوصًا بالتقوى وعلى حسب ما يكون الغالب فيما يذكر من أمر بني إسرائيل، ففي البقرة أتبع قصصهم بقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا} [البقرة: 104] ولما كان قصصهم مفتتحًا بذكر تفضيلهم: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} افتتح خطاب هذه الأمة بما يشعر بتفضليهم، وتأمل ما بين {يا بني إسرائيل} و{يا أيها الذين آمنوا} وأمر أولئك بالإيمان {وآمنوا بما أنزلت} [البقرة: 41] وأمر هؤلاء بتعبد احتياطي فقيل {وقولوا انظرنا واسمعوا} [البقرة: 104] ثم أعقبت البقرة بآل عمران وافتتحت ببيان المحكم والمتشابه الذي من جهته أتى على بني إسرائيل في كثير من مرتكباتهم، ولما ضمنت سورة آل عمران من ذكرهم ما ورد فيها، أعقبت بقوله تعالى؛ {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران: 100] ثم أعقبت السورة بقوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء: 1] وعدل عن الخطاب باسم الإيمان للمناسبة، وذلك أن سورة آل عمران خصت من مرتكبات بني إسرائيل بجرائم كقولهم في الكفار {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا} [النساء: 51] فهذا بهت، ومنها قولهم: {الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] إلى ما تخلل هاتين من الآيات المنبئة عن تعمدهم الجرائم، فعدل عن {يا أيها الذين آمنوا} إلى {يا أيها الناس} ليكون أوقع في الترتيب وأوضح مناسبة لما ذكر، ولما ضمنت سورة النساء قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات} [النساء: 160]- إلى قوله: {وأكلهم أموال الناس بالباطل} [النساء: 161] أتبعت بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 51] ثم ذكر لهم ما أحل لهم وحرم عليهم ليحذروا مما وقع فيه أولئك، فعلى هذا لما ضمنت سورة الأعراف من قصصهم جملة، وبين فيها اعتداءهم، وبناه على اتباع الأهواء والهجوم على الأغراض، طلب هؤلاء باتقاء ذلك والبعد عما يشبهه جملة، فقيل في آخر السورة {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا} [الأعراف: 201] ثم افتتحت السورة الأخرى بصرفهم عما لهم به تعلق وإليه تشبث يقيم عذرهم شرعًا فيما كان منهم، فكان قد قيل لهم: ترك هذا أعلم وأبعد عن اتباع الأهواء، فسلموا في ذلك الحكم لله ورسوله واتقوا الله، ثم تناسج السياق والتحمت الآي، وقد تبين وجه اتصال الأنفال بالأعراف من وجوه، والحمد لله- انتهى.
ولما أخبر تعالى بما هو الحق من أن إرادتهم بل ودادتهم إنما كانت منصبة إلى العير لا إلى النفير، تبين أنه لا صنع لهم فيما وقع إذ لو كان لكان على ما أرادوا، فلا حظ لهم في الغنيمة إلا ما يقسمه الله لهم لأن الحكم لمراده لا لمراد غيره، فقال تعالى عاطفًا على {وتودون}: {ويريد الله} أي بما له من العز والعظمة والعلم {أن يحق الحق} اي يثبت في عالم الشهادة الثابت عنده في عالم الغيب، وهو هنا إصابة ذات الشوكة {بكلماته} أي التي أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم يهزمون ويقتلون ويؤسرون، وأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، ليعلي دينه ويظهر أمره على كل أمر {ويقطع دابر} أي آخر {الكافرين} أي كما يقطع أولهم، أي يستأصلهم بحيث لا يبقى منهم أحد يشاقق أهل حزبه فهو يدبر أمركم على ما يريد، فلذلك اختار لكم ذات الجد والشوكة ليكون ما وعدكم به من إعلاء الدين وقمع المفسدين بقطع دابرهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}
اعلم أن قوله: {إِذْ} منصوب بإضمار اذكر أنها لكم بدل من إحدى الطائفتين.
قال الفراء والزجاج: ومثله قوله تعالى: {هَلُ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [الزخرف: 66] {وَأَنْ} في موضع نصب كما نصب الساعة، وقوله أيضًا: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن} [الفتح: 25] {أن} في موضع رفع بلولًا.
والطائفتان: العير والنفير، وغير ذات الشوكة العير.
لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسًا والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم.
والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك، ويقال شوك القنا لسنانها، ومنه قولهم شاكي السلاح.
أي تتمنون أن يكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدة، ولا تريدون الطائفة الأخرى ولكن الله أراد التوجه إلى الطائفة الأخرى ليحق الحق بكلماته،

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}
فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ضُرُوبٌ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، أَحَدُهَا: إخْبَارُهُ إيَّاهُمْ بِأَنَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَهُمْ، وَهِيَ عِيرُ قُرَيْشٍ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ وَجَيْشُهُمْ الَّذِينَ خَرَجُوا لِحِمَايَتِهَا، فَكَانَ وَعْدُهُ عَلَى مَا وَعَدَهُ وقوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} يَعْنِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَوَدُّونَ الظَّفَرَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَقِلَّةِ الْمُقَاتِلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مُسْتَخْفِينَ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ قُرَيْشًا تَخْرُجُ لِقِتَالِهِمْ وقوله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} وَهُوَ إنْجَازُ مَوْعِدِهِ لَهُمْ فِي قَطْعِ دَابِرِ الْكَافِرِينَ وَقَتْلِهِمْ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: [في ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى عير قريش]:

رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ مُقْبِلٌ مِنْ الشَّامِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ، وَقَالَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا الْأَمْوَالُ، فَاخْرُجُوا إلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا فَانْتُدِبَ النَّاسُ، فَخَفَّ بَعْضُهُمْ، وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنْ الْحِجَازِ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنْ الرُّكْبَانِ؛ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ اسْتَنْفَرَ لَك، فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، وَبَعَثَهُ إلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا يَسْتَنْفِرُهُمْ إلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ.
فَمَضَى ضَمْضَمٌ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِخُرُوجِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، وَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ امْضِ لِمَا أَمَرَك اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَك، وَاَللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ، وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَوْ سِرْت إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ لَجَالَدْنَا مَعَك مِنْ دُونِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْأَنْصَارُ بَعْدُ: أَنْ امْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أُمِرْت، فَوَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك.
فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى الْتَقَى بِالْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ، فَمَنَعُوا الْمَاءَ، وَالْتَقَوْا، وَنَصَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ، فَقَتَلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا كَانَ مَعَهُمْ.

.المسألة الثانية: [وعد اللَّه المسلمين إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ]:

رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْك بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ.
فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي الْأَسْرَى: لَا يَصْلُحُ هَذَا.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَك إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَعْطَاك مَا وَعَدَك.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْت.
وَعَلِمَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ مِنْ تَحَدُّثِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ بَدْرٍ، فَسَمِعَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: [في جَوَازِ النَّفْرِ لِلْغَنِيمَةِ]:

خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَلَقَّى الْعِيرَ بِالْأَمْوَالِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّفْرِ لِلْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ حَلَالٌ، وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُونَ مَنْ يُقَاتِلُ لِلْغَنِيمَةِ» يُرَادُ بِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ قَصْدَهُ وَحْدَهُ، لَيْسَ لِلدِّينِ فِيهِ حَظٌّ.

.المسألة الرَّابِعَةُ: [في أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ وَلَا فَنَاءَ صِرْفٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَبَدُّلُ حَالٍ]:

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}، فَقَالَ مَالِكٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ قَلِيبِ بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، أَفَيَسْمَعُونَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمْ اللَّهُ لَهُ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ، وَلَا فَنَاءَ صِرْفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَبَدُّلُ حَالٍ، وَانْتِقَالٌ مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ، وَالرُّوحُ إنْ كَانَ جِسْمًا فَيَنْفَصِلُ بِذَاتِهِ عَنْ الْجَسَدِ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فلابد مِنْ جُزْءٍ مِنْ الْجَسَدِ يَقُومُ بِهِ يُفَارِقُ الْجَسَدَ مَعَهُ، وَلَعَلَّهُ عَجْبُ الذَّنَبِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إنَّ كُلَّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ.
وَالرُّوحُ هِيَ السَّامِعَةُ الْوَاعِيَةُ الْعَالِمَةُ الْقَابِلَةُ، إلَّا أَنَّ الْبَارِيَ لَا يَخْلُقُ الْإِدْرَاكَ إلَّا كَمَا يَشَاءُ، فَلَا يَخْلُقُ إدْرَاكَ الْآخِرَةِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَلَا يَخْلُقُ إدْرَاكَ الدُّنْيَا لِأَهْلِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَسْمَعَ أَهْلَ الْآخِرَةِ حَالَ أَهْلِ الدُّنْيَا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا انْصَرَفَ عَنْهُ أَهْلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ، إذْ أَتَاهُ مَلَكَانِ» الْحَدِيثَ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ فِي أَهْلِ بَدْرٍ: أَتُكَلِّمُ قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ.