فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاسَ} أي يجعله غاشيًا عليكم ومحيطًا بكم.
والنعاس أول النوم قبل أن يثقل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن النعاس في الرأس والنوم في القلب ولعل مراده الثقل والخفة وإلا فلا معنى له، والفعل نعس كمنع والوصف ناعس ونعسان قليل.
و{إِذْ يُغَشّيكُمُ} بدل ثان من {إِذْ يَعِدُكُمُ} [الأنفال: 7] على القول بجواز تعدد البدل، وفيه إظهار نعمة أخرى فإن الخوف أطار كراهم من أوكاره فلما طامن الله تعالى قلوبهم رفرف بجناحه عليها فنعسوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو هو منصوب باذكروا.
وجوز تعلقه بالنصر، وضعف بأن فيه إعمال المصدر المعرف بأل وفيه خلاف الكوفيين، والفصل بين المصدر ومعموله، وعمل ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له، والجمهور لا يجوزون ذلك خلافًا للكسائي والأخفش، وتعلقه بما في عند الله من معنى الفعل وقل عليه: إذ يلزم تقييد استقرار النصر من الله تعالى بهذا الوقت ولا تقييد له به، وأجاب الحلبي بأن المراد به نصر خاص فلا محذور في تقييده وبالجعل، وفيه الفصل وعمل ما قبل إلا فيما ليس أحد الثلاثة وبما دل عليه {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10] وفيه لزوم التقييد ولا تقييد، وأجيب بما أجيب، والأنصاف بعد الاحتمالات الأربع.
وقرأ نافع {يُغَشّيكُمُ} بالتخفيف من الإغشاء بمعنى التغشية والفاعل في القراءتين هو الله تعالى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يغشاكم} على إسناد الفعل إلى النعاس.
وقوله سبحانه وتعالى: {النعاس أَمَنَةً مّنْهُ} نصب على أنه مفعول له وهو مصدر بمعنى الأمن كالمنعة وإن كان قد يكون جمعًا وصفة بمعنى آمنين كما ذكره الراغب، واستشكل بأن شرط النصب الذي هو اتحاد فاعله وفاعل الفعل العامل فيه مفقود إذ فاعله هم الصحابة الآمنون رضي الله تعالى عنهم وفاعل الآخر هو الله على القراءتين الأوليين والنعاس على الأخرى.
وأجيب بأنه مفعول له باعتبار المعنى الكنائي فإن يغشاكم النعاس يلزمه تنعسون ويغشيكم بمعناه فيتحد الفاعلان إذ فاعل كل حينئذٍ الصحابة، وقال بعض المدققين: إنه على القراءتين الأوليين يجوز أن يكون منصوبًا على العلية لفعل مترتب على الفعل المذكور أي يغشيكم النعاس فتنعسون أمنًا أو على أنه مصدر لفعل آخر كذلك أي فتأمنون أمنًا، وعلى القراءة الأخيرة منصوب على العلية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدر لفعل مترتب عليه كما علمت، وما تقدم أقل انتشارًا.
وجوز أن يراد بالأمنة الإيمان بمعناه اللغوي وهو جعل الغير آمنًا فيكون مصدر آمنه، وهو على بعده إنما يتمشى في القراءتين الأوليين لأن فاعل التغشة والأمان هو الله تعالى، وأما على القراءة الأخرى فلا ويحتاج إلى ما مر، ومن الناس من جوز فيها أن يجعل الأمن فعل النعاس على الإسناد المجازي لكونه من ملابسات أصحاب الأمن، والإسناد في ذلك مقدر وليس المراد به النسبة التي بين الفعل والمفعول له أي يغشاكم النعاس لأمنه، أو على تشبيه حاله بحال إنسان شأنه الأمن والخوف وأنه حصل له من الله تعالى الأمان من الكفار في مثل ذلك الوقت المخوف فلذلك غشاكم وأنامكم فيكون الكلام تمثيلًا وتخييلًا للمقصود بإبراز المعقول في صورة المحسوس.
والقطب جعل في الكلام استعارة بالكناية حيث ذكر أنه شبه النعاس بشخص من شأنه أن يأتيهم لكنه لا يأتيهم في وقت الخوف وإذا من أتاهم، ثم ذكر النعاس وأراد ذلك الشخص، والقرينة ذكر الأمنة لأنها من لوازم المشبه به، وقد وصف الزمخشري النوم بنحو ذلك في قوله:
يهاب النوم أن يغشى عيونا ** تهابك فهو نفار شرود

وما يقال: إن مثل هذا إنما يليق بالشعر لا بالقرآن الكريم فغير مسلم، وذكر ابن المنير في توجيه اتحاد الفاعل على القراءتين أن لقائل أن يقول: فاعل تغشية النعاس إياهم هو الله تعالى وهو فاعل الأمنة أيضًا لأنه خالقها فحينئذٍ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الإشكال على قواعد أهل السنة التي تقتض نسبة أفعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها وتعقبه بأن للمورد أن يقول: المعتبر الفاعل اللغوي وهو المتصف بالفعل وهو هنا ليس إلا العبد إذ لا يقال لله سبحانه وتعالى آمن وإن كان هو الخالق وحينئذٍ يحتاج إلى الجواب بما سلف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لأمنة، أي أمنة كائنة منه تعالى لكم، ولعل مغايرة ما هنا لما في سورة آل عمران لاختلاف المقام فقد قالوا: إن ذلك المقام اقتضى الاهتمام بشأن الأمن ولذلك قدمه سبحانه وتعالى وبسط الكلام فيه كما لا يخفى على من تأمل في السياق والسباق بخلافه هنا لأنه في مقام تعداد النعم فلذا جيء بالقصة مختصرة للرمز وقرئ {ءامِنَةً} بالسكون وهو لغة فيه.
{وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء} عطف على {يُغَشّيكُمُ} وكان هذا قبل النعاس كما روي عن مجاهد وتقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر كما مر غير مرة، وتقديم عليكم لما أن بيان كون التنزيل عليهم أهم من بيان كونه من السماء: وقرأ ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر {وَيُنَزّلُ} بالتخفيف من الإنزال وقرأ الشعبي ما {لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} أي من الحدث الأصغر والأكبر ووجهها كما قال ابن جني أن {مَا} موصولة واللام متعلقة بمحذوف وقع صلة لها أي وينزل عليكم الذي ثبت لتطهيركم، ونظير هذه اللام اللام في قولك: أعطيت الثوب الذي لدفع البرد وهي في قراءة الجماعة نظير اللام في قولك: زرتك لتكرمني ومرجع القراءتين واحد والمشهورة أفصح بالمراد وانظر لم لا يجوز أن تخرج هذه القراءة على ما سمع من قولهم اسقني ما بالقصر، وقد حكي ذلك في القاموس وأرى أن العدول عن ذلك إن جاز كالتيمم مع وجود الماء.
{وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} أي وسوسته وتخويفه إياكم من العطش.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين وكانت بينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال: أتزعمون أن فيكم نبيًا وأنكم أولياء الله تعالى وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله تعالى من السماء ماء فسال عليهم الوادي فشربوا وتطهروا وثبتت أقدامهم وذهبت وسوسة الشيطان، وفسر بعضهم الرجز هنا بالجنابة مع اعتبار كون التطهير منها واعترض بلزوم التكرار ودفع بأن الجملة الثانية تعليل للأولى والمعنى طهركم من الجنابة لأنها كانت من رجز الشيطان وتخييله.
وقرئ {رِجْسٌ} وهو بمعنى الرجز {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} أي يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد بمشاهدة طلائعه، وأصل الربط الشد ويقال لمن صبر على الشيء: ربط نفسه عليه.
قال الواحدي: ويشبه أن تكون {على} صلة أي وليربط قلوبكم.
وقيل الأصل ذلك إلا أنه أتى بعلى قصدًا للاستعلاء.
وفيه إيماء إلى أن قلوبهم قد امتلأت من ذلك حتى كأنه علا عليها، وفي ذلك إن إفادة التمكن ما لا يخفى {وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام} ولا تسوخ في الرمل فالضمير للماء كالأول.
وجوز أن يكون للربط، والمراد بتثبيت الأقدام كما قال أبو عبيدة جعلهم صابرين غير فارين ولا متزلزلين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}
لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، فقَرَنَها، في قَرَن زمانها، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذْ الزمانية، وهذا من أبدع التخلص، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب.
ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولًا فيه لقوله: {ومَا النصر} [الأنفال: 10] فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، فلا جرم أن يكون وقت حُصوله طرفًا للنصر.
والغَشْيُ والغشيان كون الشيء غاشيًا أي غامًا ومغطيًا، فالنوم يغطي العَقل.
والنعاسُ النوم غير الثقيل، وهو مثل السَّنة.
وقرأ نافع وأبو جعفرُ: {يُغْشِيكم}، بضم التحتية وسكون الغين وتخفيف الشين بعدها ياء مضارع أغشاه وبنصب {النعاسَ} والتقدير: إذ يغشيكم الله النعاسَ، والنعاس مفعول ثاني ليغشي بسبب تعدية الهمزة وقرأه ابنُ كثير، وأبو عمرو: بفتح التحتية وفتح الشين بعدها ألف، وبرفع النعاس، على أن يغشاكم مضارع غشي والنعاس فاعل، وقرأه الباقون: بضم التحتية وفَتح الغين وتشديد الشين ونصب النعاس، على أنه مضارع غشاه المضاعف والنعاس مفعول ثان.
فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف، ولا يكون عامًّا سائرَ الجيش، فهو نوم منحهم الله إياه لِفائِدتهم.
وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف وقد علم أنه من تقدير الله بقوله: {أمنة منه}.
والأمنة الأمن، وتقدم في آل عمران، وهو منصوب على المفعول لأجله على قراءة من نصب النعاس، وعلى الحال على قراءة من رفع النعاس.
وإنما كان النعاس أمنًا لهم لأنهم لمّا ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة، ولما استيقظوا وجدوا نشاطًا، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب.
وصيغة المضارع في {يُغشيكم} لاستحضار الحالة.
ومِنْ في قوله: {منه} للابتداء المجازي، وهو وصف ل {أمنة} لإفادة تشريف ذلك النعاس وأنه وارد من جانب القُدس، فهو لطْف وسكينة ورحمة ربَانية، ويتأكد به إسناد الإغشاء إلى الله، على قراءة من نصبوا النعاس، تنبيهًا على أنه إسناد مخصوص، وليس الإسناد الذي يعم المقدورات كلها، وعلى قراءة من رفعوا النعاس يكون وصف الأمنة بأنها منه ساريًا إلى الغَشي فيعلم أنه غشي خاص قُدسي، وليس مثل سائِر غشيان النعاس فهو خارق للعادة كان كرامة لهم وقد حصل ذلك للمسلمين يومَ بدر كما هو صريح هذه الآية وحصل النعاس يوم أُحُد لطائفة من الجيش قال تعالى: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا يغشى طائفة منكم} وتقدم في سورة آل عمران [154]، وفي صحيح البخاري عن أبي طلحة قال: كنتُ فيمن تَغَشّاه النعاس يومَ أُحُد حتى سَقط سيفي من يدي مرارًا.
وذكر الله مِنةٌ أخرى جاءت في وقت الحاجة: وهي أنه أنزل عليهم المَطر يوم بَدر، فإسناد هذا الإنزال إلى الله تعالى للتنبيه على أنه أكرمهم به وذلك لكونه نزل في وقت احتياجهم إلى الماء، ولعله كان في غير الوقت المعتاد فيه نزول الأمطار في أُفُقِهم، قال أهل السير: كان المسلمون حين اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا جيش المشركين إلى ماء بدر، وكان طريقهم دَهْساء أي رملًا لينًا، تسوخ فيه الأرجل فشق عليهم إسراع السير إلى الماء وكانت أرض طريق المشركين ملبدة، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أَمكن لهم، واستوحلتْ الأرض للمشركين فصار السير فيها متعبًا، فأمكن للمسلمين السبق إلى الماء من بدر ونزلوا عليه وادخروا ماء كثيرًا من ماء المطر، وتطهروا وشربوا، فذلك قوله تعالى: {ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان}.
والرجز القَذَر، والمراد الوسخ الحِسي وهو النجس، والمعنوي المعبر عنه في كتب الفقه بالحَدَث.
والمراد الجنابة، وذلك هو الذي يعم الجيش كله فلذلك قال: {ويذهب عنكم رجز الشيطان}، وإضافته إلى الشيطان لأن غالب الجيش لما ناموا احتلموا فأصبحوا على جنابة وذلك قد يكون خواطر الشيطان يخيلها للنائِم ليفسد عليه طهارته بدون اختيار طمعًا في تثاقله عن الاغتسال حتى يخرج وقت صلاة الصبح، ولأن فقدان الماء يلجئهم إلى البقاء في تنجس الثياب والأجساد والنجاسة تلائم طبع الشيطان.
وتقدير المجرور في قوله: {عنكم رجز الشيطان} للرعاية على الفاصلة، لأنها بنيت على مد وحرف بعده في هذه الآيات والتي بعدها مع ما فيه من الاهتمام بهم.
وقوله: {وليربط على قلوبكم} أي يؤمنّكم بكونكم واثقين بوجود الماء لا تخافون عطشًا وتثبيت الأقدام هو التمكن من السير في الرمل، بأن لا تسوخ في ذلك الدهس الأرجل، لأن هذا المعنى هو المناسب حصوله بالمطر.
والربط حقيقته شد الوثاق على الشي وهو مجاز في التثبيت وإزالة الاضطراب ومنه قولهم: فُلان رابط الجأش وله رباطة جَأش.
و{على} مستعارة لتمكن الربط فهي ترشيح للمجاز. اهـ.