فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته.
وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجًا إلى التعريف، وقال المتكلمون إنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر لا في الوقوع بل في الإيقاع، واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة، واختلفوا في كونه تعالى مريدًا مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى فقال النجارية إنه معنى سلبي ومعناه أنه غير مغلوب ولا مستكره، ومنهم من قال إنه أمر ثبوتي وهؤلاء اختلفوا فقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسن البصري: معناه علمه تعالى باشتماله الفعل على المصلحة أو المفسدة، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف، وقال أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهما إنه صفة زائدة على العلم ثم القسمة في تلك الصفة إما أن تكون ذاتية وهو القول الثاني للنجارية، وإما أن تكون معنوية، وذلك المعنى إما أن يكون قديمًا وهو قول الأشعرية أو محدثًا وذلك المحدث إما أن يكون قائمًا بالله تعالى، وهو قول الكرامية، أو قائمًا بجسم آخر وهذا القول لم يقل به أحد، أو يكون موجودًا لا في محل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّهِمْ} تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ}. إلخ. من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها، وكأنه قيل كما قيل فيضربه {مُّبِينًا فَأَمَّا الذين} الخ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالبًا، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم؛ وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحًا، أو دلالة، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديرًا، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى من المحققين أغلبيًا، وفسر سيبويه أما زيد فذاهب بمهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم، والفعل إذ لا نظير له، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك، ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه.
ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالبًا، وقامت أما ذلك المقام لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة لللازم مقام الملزوم وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظًا، وقد يقدم على الفاء كما في الرضى من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذمّ ما لا يخفى.
والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى، والضمير في {أَنَّهُ} للمثل وهو أقرب، أو لضربه المفهوم من أن يضرب، وقيل: لترك الاستحياء المنقدح مما مر، وقيل: للقرآن، والحق خلاف الباطل، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت، وقال الراغب: أصله المطابقة والموافقة، ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع، وقيل: إنه الحكم المطابق، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق، والصدق في القول كذلك، وقد يفرق بينها بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال هذا هو الحق أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف، و{مّن رَّبّهِمُ} إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق، و{مِنْ} لابتداء الغاية المجازية، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه: {نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 3 2] وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز اسمه هو المناسب لحالهم {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 8 2] وقيل: في ذلك مع الإضافة إلى الضمير تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم، والجملة سادّة مسدّ مفعولي يعلمون عند الجمهور، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي {فَيَعْلَمُونَ} حقيته ثابتة.
{وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا} لم يقل سبحانه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة.
ومن قال للمسك أين الشذا ** يكذبه ريحه الطيب

قيل: ولم يقل سبحانه هناك وأما الذين آمنوا فيقولون الخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كإخفاء الجمر في الحلفاء، وقيل: إن يقولون لا يدل صريحًا على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند {فَيَقُولُونَ} الخ أشمل وأجمع، و{مَاذَا} لها ستة أوجه في استعمالهم.
الأول: أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي خبره، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناءً على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام.
وغيره يجعل النكرة خبرًا عن الموصول.
الثاني: أن تكون {ماذا} كلها استفهامًا مفعولًا لأراد وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء {ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: 04].
الثالث: أن يجعل ما استفهامية، وذا صلة لا إشارة ولا موصولة، الرابع: أن يجعلا معًا موصولًا كقوله: دعى {ماذا} علمت سأتقيه.
الخامس: أن يجعلا نكرة موصوفة، وقد جوز في المثال، السادس: أن تكون ما استفهامية، وذا اسم إشارة خبر له.
والإرادة كما قاله الراغب: منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل، وجعل اسمًا لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوغ النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي الخ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد.
وللمتكلمين أهل الحق وغيرهم في تفسيرها مذاهب، فالكلبي والنجار وغيرهما على أن إرادته سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالمًا بها وبما فيها من المصلحة، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها، فالمعاصي إذًا ليست بإرادته جل شأنه، ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم؛ والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي، ويسمون هذا العلم عناية؛ وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية، وموجودة لا في محل عند الأبوين، والمذهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه لم يذهب إليه أحد.
وفي كلمة هذا استحقار للمشار إليه مثلها في: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولًا} [الفرقان: 1 4] وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام، و{مَثَلًا} نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه.
وقد ذكر الرضى والعهدة عليه أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجئ التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة، ويحتمل أن يكون حالًا من اسم الله تعالى أو من هذا أي ممثلًا أو ممثلًا به أو بضربه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا}.
الفاء للتعقيب الذكري دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في قوله: {لا يستحي} لأن تقديره لا يستحي من الناس كما تقدم، ولما كان في الناس مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به، نشأ في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم.
وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب الإجمال.
وأما حرف موضوع لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر.
ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض كأن المتكلم يقول إن شئت تفصيله فتفصيله كيث وكيت، فلذلك كانت أما متضمنة معنى الشرط ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها لأنها كجواب شرط، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب أما بعد فتتمحض للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلامًا بعد كلامه الأول.
وقدرها سيبويه بمعنى مهما يكن من شيء، وتلقفه أهل العربية بعده وهو عندي تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها وفي النفس منه شيء لأن دعوى قصد عموم الشرط غير بينة، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها الزمخشري توكيدًا وما هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام، على أن مضمونه محقق ولولا ذلك لما اهتم به وبهذا يظهر فضل قوله: {فأما الذين آمنوا فيعلمون} الخ على أن يقال فالذين آمنوا يعلمون بدون أما والفاء.
وجعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء مؤمن وكافر، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتأييس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك.
والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالبًا، وإما ما يشملهم ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية.
وإنما عبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضًا بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عنادًا ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسدًا وعنادًا.
وضمير {أنه} عائد إلى المثل.
و{الحق} ترجع معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته.
و{من ربهم} حال من {الحق} و{من} ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ.
وأصل {ماذا} كلمة مركبة من ما الاستفهامية وذا اسممِ الإشارة ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار إليه كقول القائل ماذا مشيرًا إلى شيء حاضر بمنزلة قوله: ما هذا.
غير أن العرب توسعوا فيه فاستعملوه اسم استفهام مركبًا من كلمتين وذلك حيث يكون المشار إليه معبرًا عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد، نحو ماذا التواني، أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو: {وماذا عليهم لو آمنوا بالله} [النساء: 39] ولذلك يقول النحاة إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب.
وقد يتوسعون فيها توسعًا أقوى فيجعلون ذا اسم موصول وذلك حين يكون المسئول عنه معروفًا للمخاطب بشيء من أحواله فلذلك يُجرون عليه جملة أو نحوَها هي صلة ويجعلون ذا موصولًا نحو: {ماذا أنزل ربكم} [النحل: 24] وعلى هذين الاحتمالين يصح إعرابه مبتدأ ويصح إعرابه مفعولًا مقدمًا إذا وقع بعده فِعل.
والاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام كناية به عن الإنكار لأن الشيء المنكر يستفهم عن حصوله فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية، ومثله لا يجاب بشيء غالبًا لأنه غير مقصود به الاستعلام.
وقد يلاحظ فيه معناه الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله تعالى: {عم يتساءلون عن النبأ العظيم} [النبأ: 1، 2].
والإشارة بقوله: {بهذا} مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله: {أَهذا الذي يذكر آلهتكم} [الأنبياء: 36].
وانتصب قوله: {مثلًا} على التمييز من هذا لأنه مبهم فحقَّ له التمييز وهو نظير التمييز للضمير في قولهم رُبَّهُ رَجُلًا. اهـ.

.فصل جامع للإمام الفخر:

قال رحمه الله:
اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكي عنهم كفرهم واستحقارهم كلام الله بقوله: {مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا} أجاب عنه بقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} ونريد أن نتكلم هاهنا في الهداية والإضلال ليكون هذا الموضع كالأصل الذي يرجع إليه في كل ما يجيء في هذا المعنى من الآيات فنتكلم أولًا في الإضلال فنقول:
إن الهمزة تارة تجيء لنقل الفعل من غير المتعدي إلى التعدي كقولك خرج فإنه غير متعدٍ، فإذا قلت أخرج فقد جعلته معتديًا وقد تجيء لنقل الفعل من المتعدي إلى غير المتعدي كقولك كببته فأكب، وقد تجيء لمجرد الوجدان.
حكي عن عمرو بن معدي كرب أنه قال لبني سليم: قاتلناكم فما أجبناكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم، وسألناكم فما أبخلناكم.
أي فما وجدناكم جبناء ولا مفحمين ولا بخلاء.
ويقال أتيت أرض فلان فأعمرتها أي وجدتها عامرة قال المخبل:
فتمنى حصين أن يسود خزاعة ** فأمسى حصين قد أذل وأقهرا

أي وجد ذليلًا مقهورًا، ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال الهمزة لا تفيد إلا نقل الفعل من غير المتعدي إلى المتعدي فأما قوله: كببته فأكب، فلعل المراد كببته فأكب نفسه على وجهه فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين وهذا ليس بعزيز.
وأما قوله.
قاتلناكم فما أجبناكم، فالمراد ما أثر قتالنا في صيرورتكم جبناء.
وما أثر هجاؤنا لكم في صيرورتكم مفحمين، وكذا القول في البواقي، وهذا القول الذي قلناه أولى دفعًا للاشتراك.
إذا ثبت هذا فنقول قولنا: أضله الله لا يمكن حمله إلا على وجهين: أحدهما: أنه صيره ضالًا، والثاني: أنه وحده ضالًا أما التقدير الأول وهو أنه صيره ضالًا فليس في اللفظ دلالة على أنه تعالى صيره ضالًا عما ذا وفيه وجهان: أحدهما: أنه صيره ضالًا عن الدين.
والثاني: أنه صيره ضالًا عن الجنة، أما الأول وهو أنه تعالى صيره ضالًا عن الدين فاعلم أن معنى الإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى ترك الدين وتقبيحه في عينه وهذا هو الإضلال الذي أضافه الله تعالى إلى إبليس فقال: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15] وقال: {ولأُضِلَّنَّهُمْ ولأُمَنّيَنَّهُمْ} [النساء: 119] و{قَالَ الذين كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا الذين أضلانا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت: 29] وقال: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} [النمل: 24 العنكبوت: 38]، وقال الشيطان إلى قوله: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [إبراهيم: 22] وأيضًا أضاف الله تعالى هذا الإضلال إلى فرعون فقال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} واعلم أن الأمة مجمعة على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى لأنه تعالى ما دعا إلى الكفر وما رغب فيه بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه، وإذا كان المعنى الأصلي للإضلال في اللغة ليس إلا هذا وهذا المعنى منفي بالإجماع ثبت انعقاد الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللفظ على ظاهره.
وعند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل أما أهل الجبر فقد حملوه على أنه تعالى خلق الضلال والكفر فيهم وصدهم عن الإيمان وحال بينهم وبينه، وربما قالوا هذا هو حقيقة اللفظ في أصل اللغة، لأن الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالًا كما أن الإخراج والإدخال عبارة عن جعل الشيء خارجًا وداخلًا، وقالت المعتزلة هذا التأويل غير جائز لا بحسب الأوضاع اللغوية ولا بحسب الدلائل العقلية، أما الأوضاع اللغوية فبيانه من وجوه: أحدها: أنه لا يصح من طريق اللغة أن يقال لمن منع غيره من سلوك الطريق كرهًا وجبرًا أنه أضله بل يقال منعه منه وصرفه عنه وإنما يقولون إنه أضله عن الطريق إذا لبس عليه وأورد من الشبهة ما يلبس عليه الطريق فلا يهتدي له، وثانيها: أنه تعالى وصف إبليس وفرعون بكونهما مضللين، مع أن فرعون وإبليس ما كان خالقين للضلال في قلوب المستجيبين لهما بالاتفاق، وأما عند الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد، وأما عند القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد، فلما حصل اسم المضل حقيقة مع نفي الخالقية بالاتفاق، علمنا أن اسم المضل غير موضوع في اللغة لخالق الضلال: وثالثها: أن الإضلال في مقابلة الهداية فكما صح أن يقال هديته فما اهتدى وجب صحة أن يقال أضللته فما ضل، وإذا كان كذلك استحال حمل الإضلال على خلق الضلال، وأما بحسب الدلائل العقلية فمن وجوه: أحدها: أنه تعالى لو خلق الضلال في العبد ثم كلفه بالإيمان لكان قد كلفه بالجمع بين الضدين وهو سفه وظلم، وقال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] وقال: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وثانيها: لو كان تعالى خالقًا للجهل وملبسًا على المكلفين لما كان مبينًا لما كلف العبد به، وقد أجمعت الأمة على كونه تعالى مبينًا، وثالثها: أنه تعالى لو خلق فيهم الضلال وصدهم عن الإيمان لم يكن لإنزال الكتب عليهم وبعثة الرسل إليهم فائدة لأن الشيء الذي لا يكون ممكن الحصول كان السعي في تحصيله عبثًا وسفهًا.
ورابعها: أنه على مضادة كبيرة من الآيات نحو قوله: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94] فبين أنه لا مانع لهم من الإيمان ألبتة.
وإنما امتنعوا لأجل إنكارهم بعثة الرسل من البشر وقال: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} [الكهف: 55] وقال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [لبقرة: 28] وقال: {أنّى تُصْرَفُونَ} وقال: {أنّى تُؤْفَكُونَ} فلو كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين وصرفهم عن الإيمان لكانت هذه الآيات باطلة.
وخامسها: أنه تعالى ذم إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في إضلال الناس عن الدين وصرفهم عن الحق وأمر عباده ورسوله بالاستعاذة منهم بقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس} [الناس: 1] إلى قوله: {مِن شَرّ الوسواس} [الناس: 4] و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} [الفلق: 1]، {وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} [المؤمنين: 97]، {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98] فلو كان الله تعالى يضل عباده عن الدين كما تضل الشياطين لاستحق من المذمة مثل ما استحقوه ولوجب الاستعاذة منه كما وجب منهم، ولوجب أن يتخذوه عدوًا من حيث أضل أكثر خلقه كما وجب اتخاذ إبليس عدوًا لأجل ذلك، قالوا بل خصيصية الله تعالى في ذلك أكثر إذ تضليل إبليس سواء وجوده وعدمه فيما يرجع إلى حصول الضلال بخلاف تضليل الله فإنه هو المؤثر في الضلال فيلزم من هذا تنزيه إبليس عن جميع القبائح وإحالتها كلها على الله تعالى فيكون الذم منقطعًا بالكلية عن إبليس وعائدًا إلى الله سبحانه وتعالى عن قول الظالمين.
وسادسها: أنه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره وذمهم لأجل ذلك، فقال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} [طه: 79]، {وَأَضَلَّهُمُ السامرى} [طه: 85]، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن في الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} [الأنعام: 116]، {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} [ص: 26] وقوله تعالى حاكيًا عن إبليس: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ} [النساء: 119] فهؤلاء إما أن يكونوا قد أضلوا غيرهم عن الدين في الحقيقة أو يكون الله هو الذي أضلهم أو حصل الإضلال بالله وبهم على سبيل الشركة فإن كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين دون هؤلاء فهو سبحانه وتعالى قد تقول عليهم إذ قد رماهم بدأبه وعابهم بما فيه وذمهم بما لم يفعلوه، والله متعالٍ عن ذلك وإن كان الله تعالى مشاركًا لهم في ذلك فكيف يجوز أن يذمهم على فعل هو شريك فيه ومساوٍ لهم فيه وإذا فسد الوجهان صح أن لا يضاف خلق الضلال إلى الله تعالى.
وسابعها: أنه تعالى ذكر أكثر الآيات التي فيها ذكر الضلال منسوبًا إلى العصاة على ما قال: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26].
{وَيُضِلُّ الله الظالمين} [إبراهيم: 27]، {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} [المائدة: 67]، {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر: 34]، {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] فلو كان المراد بالضلال المضاف إليه تعالى هو ما هم فيه كان كذلك إثباتًا للثابت وهذا محال.
وثامنها: أنه تعالى نفى إلهية الأشياء التي كانوا يعبدونها من حيث أنهم لا يهدون إلى الحق قال: {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن مَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35] فنفى ربوبية تلك الأشياء من حيث إنها لا تهدي وأوجب ربوبية نفسه من حيث إنه سبحانه وتعالى يهدي فلو كان سبحانه وتعالى يضل عن الحق لكان قد ساواهم في الضلال وفيما لأجله نهى عن اتباعهم، بل كان قد أربى عليهم، لأن الأوثان كما أنها لا تهدي فهي لا تضل، وهو سبحانه وتعالى مع أنه إله يهدي فهو يضل.
وتاسعها: أنه تعالى يذكر هذا الضلال جزاء لهم على سوء صنيعهم وعقوبة عليه، فلو كان المراد ما هم عليه من الضلال كان ذلك عقوبة وتهديدًا بأمرهم له ملابسون، وعليه مقبولون، وبه ملتذون ومغتبطون، ولو جاز ذلك لجازت العقوبة بالزنا على الزنا وبشرب الخمر على شرب الخمر، وهذا لا يجوز.
وعاشرها: أن قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه} [البقرة: 26، 27] صريح في أنه تعالى إنما يفعل به هذا الإضلال بعد أن صار هو من الفاسقين الناقضين لعهد الله باختيار نفسه، فدل ذلك على أن هذا الإضلال الذي يحصل بعد صيرورته فاسقًا وناقضًا للعهد مغاير لفسقه ونقضه، وحادي عاشرها: أنه تعالى فسر الإضلال المنسوب إليه في كتابه، إما بكونه ابتلاءً وامتحانًا، أو بكونه عقوبة ونكالًا، فقال في الابتلاء: {وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ مَلَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} [المدثر: 31] أي امتحانًا إلى أن قال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} [المدثر: 31] فبين أن إضلاله للعبد يكون على هذا الوجه من إنزاله آية متشابهة أو فعلًا متشابهًا لا يعرف حقيقة الغرض فيه؛ والضال به هو الذي لا يقف على المقصود ولا يتفكر في وجه الحكمة فيه بل يتمسك بالشبهات في تقرير المجمل الباطل كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] وأما العقوبة والنكال فكقوله: {إِذِ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسْحَبُونَ} [غافر: 71] إلى أن قال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} [غافر: 74] فبين أن إضلاله لا يعدو أحد هذين الوجهين وإذا كان الإضلال مفسرًا بأحد هذين الوجهين وجب أن لا يكون مفسرًا بغيرهما دفعًا للاشتراك، فثبت أنه لا يجوز حمل الإضلال على خلق الكفر والضلال وإذا ثبت ذلك فنقول بينا أن الإضلال في أصل اللغة الدعاء إلى الباطل والترغيب فيه والسعي في إخفاء مقابحه وذلك لا يجوز على الله تعالى فوجب المصير إلى التأويل، والتأويل الذي ذهبت الجبرية إليه قد أبطلناه فوجب المصير إلى وجوه أخر من التأويلات.
أحدها: أن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء من غير أن يكون ذلك الشيء أثر في إضلاله فيقال لذلك الشيء إنه أضله قال تعالى في حق الأصنام {رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} [إبراهيم: 36] أي ضلوا بهن، وقال: {وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيرًا} [نوح: 23، 24] أي ضل كثير من الناس بهم وقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْرًا} [المائدة: 64] وقال: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَارًا} [نوح: 6] أي لم يزدادوا بدعائي لهم إلا فرارًا وقال: {فاتخذتموهم سِخْرِيًّا حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى} [المؤمنون: 110] وهم لم ينسوهم في الحقيقة بل كانوا يذكرونهم الله ويدعونهم إليه ولكن لما كان اشتغالهم بالسخرية منهم سببًا لنسيانهم أضيف الإنساء إليهم وقال في براءة: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إيمانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 124، 125] فأخبر سبحانه أن نزول السورة المشتملة على الشرائع يعرف أحوالهم فمنهم من يصلح عليها فيزداد بها إيمانًا، ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كفرًا، فإذن أضيفت الزيادة في الإيمان والزيادة في الكفر إلى السورة، إذ كانوا إنما صلحوا عند نزولها وفسدوا كذلك أيضًا، فكذا أضيف الهدى والإضلال إلى الله تعالى إذا كان إحداثهما عند ضربه تعالى الأمثال لهم وقال في سورة المدثر: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانًا} [المدثر: 31] فأخبر تعالى أن ذكره لعدة خزنة النار امتحان منه لعباده ليتميز المخلص من المرتاب فآلت العاقبة إلى أن صلح عليها المؤمنون وفسد الكافرون وأضاف زيادة الإيمان وضدها إلى الممتحنين فقال ليزداد وليقول ثم قال بعد قوله: {مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} [المدثر: 31] فأضاف إلى نفسه إضلالهم وهداهم بعد أن أضاف إليهم الأمرين معًا، فبين تعالى أن الإضلال مفسر بهذا الامتحان ويقال في العرف أيضًا.
أمرضني الحب أي مرضت به: ويقال قد أفسدت فلانة فلانًا وهي لم تعلم به، وقال الشاعر:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

أي يغري الملوم باللوم، والإضلال على هذا المعنى يجوز أن يضاف إلى الله تعالى على معنى أن الكافرين ضلوا بسبب الآيات المشتملة على الامتحانات ففي هذه الآية الكفار لما قالوا: ما الحاجة إلى الأمثال وما الفائدة فيها واشتد عليهم هذا الامتحان حسنت هذه الإضافة.
وثانيها: أن الإضلال هو التسمية بالضلال فيقال أضله أي سماه ضالًا وحكم عليه به وأكفر فلان فلانًا إذا سماه كافرًا وأنشدوا بيت الكميت:
وطائفة قد أكفروني بحبكم ** وطائفة قالوا مسيء ومذنب

وقال طرفة:
وما زال شربي الراح حتى أضلني ** صديقي وحتى ساءني بعض ذلكا

أراد سماني ضالًا وهذا الوجه مما ذهب إليه قطرب وكثير من المعتزلة، ومن أهل اللغة من أنكره وقال إنما يقال ضللته تضليلًا إذا سميته ضالًا، وكذلك فسقته وفجرته إذا سميته فاجرًا فاسقًا، وأجيب عنه بأنه متى صيره في نفسه ضالًا لزمه أن يصير محكومًا عليه بالضلال فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم مجاز مشهور وأنه مستعمل أيضًا لأن الرجل إذا قال لآخر: فلان ضال جاز أن يقال له لم جعلته ضالًا ويكون المعنى لم سميته بذلك ولم حكمت به عليه فعلى هذا الوجه حملوا الإضلال على الحكم والتسمية.
وثالثها: أن يكون الإضلال هو التخلية وترك المنع بالقهر والجبر، فيقال أضله إذا خلاه وضلاله قالوا ومن مجازه قولهم: أفسد فلان ابنه وأهلكه ودمر عليه إذا لم يتعهده بالتأديب، ومثله قول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ** ليوم كريهة وسداد ثغر

ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتى فسد وصدئ: أفسدت سيفك وأصدأته.
ورابعها: الضلال والإضلال هو العذاب والتعذيب بدليل قوله تعالى: {إِنَّ المجرمين في ضلال وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 47، 48] فوصفهم الله تعالى بأنهم يوم القيامة في ضلال وذلك لا يكون إلا عذابهم وقال تعالى: {إِذِ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسْحَبُونَ في الحميم ثُمَّ في النار يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} [غافر: 71 74] فسر ذلك الضلال بالعذاب.
وخامسها: أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال كقوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أعمالهم} [محمد: 1] قيل أبطلها وأهلكها ومن مجازه قولهم: ضل الماء في اللبن إذا صار مستهلكًا فيه ويقال أضللته أنا إذا فعلت ذلك به فأهلكته وصيرته كالمعدوم ومنه يقال أضل القوم ميتهم إذا واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يرى، قال النابغة:
وآب مضلوه بعين جلية ** وغودر بالجولان حزم ونائل

وقال تعالى: {وَقَالُواْ أءِذا ضَلَلْنَا في الأَرْض أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] أي أئذا اندفنا فيها فخفيت أشخاصنا فيحتمل على هذا المعنى يضل الله إنسانًا أي يهلكه ويعدمه فتجوز إضافة الإضلال إليه تعالى على هذا الوجه، فهذه الوجوه الخمسة إذا حملنا الإضلال على الإضلال عن الدين.
وسادسها: أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنة، قالت المعتزلة: وهذا في الحقيقة ليس تأويلًا بل حملًا للفظ على ظاهره فإن الآية تدل على أنه تعالى يضلهم وليس فيها دلالة على أنه عما ذا يضلهم، فنحن نحملها على أنه تعالى يضلهم عن طريق الجنة ثم حملوا كل ما في القرآن من هذا الجنس على هذا المحمل وهو اختيار الجبائي قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} [الحج: 4] أي يضله عن الجنة وثوابها.
هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية.
وسابعها: أن نحمل الهمزة لا على التعدية بل على الوجدان على ما تقدم في أول هذه المسألة بيانه فيقال أضل فلان بعيره أي ضل عنه فمعنى إضلال الله تعالى لهم أنه تعالى وجدهم ضالين.
وثامنها: أن يكون قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} من تمام قول الكفار فإنهم قالوا ماذا أراد الله بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه ثم قالوا: يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وذكروه على سبيل التهكم فهذا من قول الكفار ثم قال تعالى جوابًا لهم: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} أي ما أضل به إلا الفاسق.
هذا مجموع كلام المعتزلة، وقالت الجبرية لقد سمعنا كلامكم واعترفنا لكم بجودة الإيراد وحسن الترتيب وقوة الكلام ولكن ماذا نعمل ولكم أعداء ثلاثة يشوشون عليكم هذه الوجوه الحسنة؟ والدلائل اللطيفة: أحدها: مسألة الداعي وهي أن القادر على العلم والجهل والإهداء والإضلال لم فعل أحدهما دون الآخر؟ وثانيها: مسألة العلم على ما سبق تقريرها في قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] وما رأينا لكم في دفع هذين الكلامين كلامًا محيلًا قويًا ونحن لا شك نعلم أنه لا يخفى عليكم مع ما معكم من الذكاء الضعف عن تلك الأجوبة التي تكلموا بها فكما أنصفنا واعترفنا لكم بحسن الكلام الذي ذكرتموه فأنصفوا أيضًا واعترفوا بأنه لا وجه لكم عن هذين الوجهين فإن التعامي والتغافل لا يليق بالعقلاء.
وثالثها: أن فعل العبد لو كان بإيجاده لما حصل إلا الذي قصد إيجاده لكن أحدًا لا يريد إلا تحصيل العلم والاهتداء، ويحترز كل الاحتراز عن الجهل والضلال فكيف يحصل الجهل والإضلال للعبد مع أنه ما قصد إلا تحصيل العلم والاهتداء؟ فإن قيل إنه اشتبه عليه الكفر بالإيمان والعلم بالجهل فظن في الجهل أنه علم فقصد إيقاعه فلذلك حصل له الجهل قلنا ظنه في الجهل أنه علم ظن خطأ فإن كان اختاره أولًا فقد اختار الجهل والخطأ لنفسه وذلك غير ممكن وإن قلنا إنه اشتبه عليه ذلك بسبب ظن آخر متقدم عليه لزم أن يكون قبل كل ظن ظن لا إلى نهاية وهو محال.
ورابعها: أن التصورات غير كسبية والتصديقات البديهية غير كسبية والتصديقات بأسرها غير كسبية فهذه مقدمات ثلاثة.
المقدمة الأولى: في بيان أن التصورات غير كسبية، وذلك لأن من يحاول اكتسابها فإما أن يكون متصورًا لها أو لا يكون متصورًا لها فإن كان متصورًا لها استحال أن يطلب تحصيل تصورها لأن تحصيل الحاصل محال، وإن لم يكن متصورًا لها كان ذهنه غافلًا عنها والغافل عن الشيء يستحيل أن يكون طالبه.
المقدمة الثانية: في بيان أن التصديقات البديهية غير كسبية لأن حصول طرفي التصديق إما أن يكون كافيًا في جزم الذهن بذلك التصديق أولًا يكون كافيًا فإن كان الأول كان ذلك التصديق دائرًا مع ذينك التصورين على سبيل الوجوب نفيًا وإثباتًا وما كان كذلك لم يكن مقدورًا، وإن كان الثاني لم يكن التصديق بديهيًا بل متوقفًا فيه.
المقدمة الثالثة: في بيان أن التصديقات بأسرها غير كسبية وذلك لأن هذه النظريات إن كانت واجبة اللزوم عن تلك البديهيات التي هي غير مقدورة كانت تلك النظريات أيضًا غير مقدورة.
وإن لم تكن واجبة اللزوم عن تلك البديهيات لم يمكن الاستدلال بتلك البديهيات على تلك النظريات، فلم تكن تلك الاعتقادات الحاصلة في تلك النظريات علومًا، بل لا تكون إلا اعتقادًا حاصلًا للمقلد وليس كلامنا فيه، فثبت أن كلامكم في عدم إسناد الاهتداء والضلال إلى الله تعالى معارض بهذه الوجوه العقلية القاطعة التي لا جواب عنها.
ولنتكلم الآن فيما ذكروه من التأويلات أما التأويل الأول فساقط لأن إنزال هذه المتشابهات هل لها أثر في تحريك الدواعي أو ليس لها أثر في ذلك؟ فإن كان الأول وجب على قولكم أن يقبح لوجهين.
الأول: أنا قد دللنا في تفسير قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] على أنه متى حصل الرجحان فلابد وأن يحصل الوجوب وأنه ليس بين الاستواء وبين الوجوب المانع من النقيض واسطة، فإذا أثر إنزال هذه المتشابهات في الترجيح وثبت أنه متى حصل الترجيح فقد حصل الوجوب فحينئذٍ جاء الجبر وبطل ما قلتموه.
الثاني: هب أنه لا ينتهي إلى حد الوجوب إلا أن المكلف ينبغي أن يكون مزاح العذر والعلة وإنزال هذه المتشابهات عليه مع أن لها أثرًا في ترجيح جانب الضلال على جانب الاهتداء كالعذر للمكلف في عدم الإقدام على الطاعة فوجب أن يقبح ذلك من الله تعالى، وأما إن لم يكن لذلك أثر في إقدامهم على ترجيح جانب الضلال على جانب بالاهتداء كانت نسبة هذه المتشابهات إلى ضلالهم كصرير الباب ونعيق الغراب فكما أن ضلالهم لا ينسب إلى هذه الأمور الأجنبية كذلك وجب أن لا ينسب إلى هذه المتشابهات بوجه ما، وحينئذٍ يبطل تأويلهم، أما التأويل الثاني وهو التسمية والحكم فهو وإن كان في غاية البعد لكن الإشكال معه باقٍ لأنه إذا سماه الله بذلك وحكم به عليه فلو لم يأتِ المكلف به لانقلب خبر الله الصدق كذبًا وعلمه جهلًا، وكل ذلك محال والمفضي إلى المحال محال، فكان عدم إتيان المكلف به محالًا وإتيانه به واجبًا وهذا عين الجبر الذي تفرون منه وأنه ملاقيكم لا محالة، وههنا ينتهي البحث إلى الجوابين المشهورين لهما في هذا المقام وكل عاقل يعلم ببديهة عقله سقوط ذلك، وأما التأويل الثالث وهو التخلية وترك المنع فهذا إنما يسمى إضلالًا إذا كان الأولى والأحسن بالوالد أن يمنعه عن ذلك فأما إذا كان الولد بحيث لو منعه والده عن ذلك لوقع في مفسدة أعظم من تلك المفسدة الأولى لم يقل أحد أنه أفسد ولده وأضله، وههنا الأمر بخلاف ذلك لأنه تعالى لو منع المكلف جبرًا عن هذه المفسدة لزمت مفسدة أخرى أعظم من الأولى، فكيف يقال إنه تعالى أفسد المكلف وأضله بمعنى أنه ما منعه عن الضلال مع أنه لو منعه لكانت تلك المفسدة أعظم وأما التأويل الرابع فقد اعتراض القفال عليه فقال: لا نسلم بأن الضلال جاء بمعنى العذاب أما قوله تعالى: {إِنَّ المجرمين في ضلال وَسُعُرٍ} [القمر: 47] فيمكن أن يكون المراد في ضلال عن الحق في الدنيا وفي سعر: أي في عذاب جهنم في الآخرة.
ويكون قوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} من صلة سعر وأما قوله تعالى: {إِذَ الأغلال في أعناقهم} إلى قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} فمعنى قوله: {ضلوا عنا} أي بطلوا فلم ينتفع بهم في هذا اليوم الذي كنا نرجو شفاعتهم فيه ثم قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} قد يكون على معنى كذلك يضل الله أعمالهم أي يحبطها يوم القيامة، ويحتمل كذلك يخذلهم الله تعالى في الدنيا فلا يوفقهم لقبول الحق إذ ألفوا الباطل وأعرضوا عن التدبر، فإذا خذلهم الله تعالى وأتوا يوم القيامة فقد بطلت أعمالهم التي كانوا يرجون الانتفاع بها في الدنيا، وأما التأويل الخامس: وهو الإهلاك فغير لائق بهذا الموضع لأن قوله تعالى: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} يمنع من حمل الإضلال على الإهلاك.
وأما التأويل السادس: وهو أنه يضله عن طريق الجنة فضعيف لأنه تعالى قال: {يُضِلُّ بِهِ} أي يضل بسبب استماع هذه الآيات والإضلال عن طريق الجنة ليس بسبب استماع هذه الآيات بل بسبب إقدامه على القبائح فكيف يجوز حمله عليه.
وأما التأويل السابع: وهو أن قوله: {يُضِلُّهُ} أي يجده ضالًا قد بينا أن إثبات هذه اللغة لا دليل عليه وأيضًا فلأنه عدى الإضلال بحرف الباء فقال: {يُضِلُّ بِهِ} والإضلال بمعنى الوجدان لا يكون معدى بحرف الباء.
وأما التأويل الثامن: فهو في هذه الآية يوجب تفكيك النظم لأنه إلى قوله: {يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا} من كلام الكفار ثم قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} كلام الله تعالى من غير فصل بينهما بل مع حرف العطف وهو الواو، ثم هب أنه هاهنا كذلك لكنه في سورة المدثر وهو قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} لا شك أنه قول الله تعالى فهذا هو الكلام في الإضلال.
أما الهدى فقد جاء على وجوه:
أحدها: الدلالة والبيان قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} [السجدة: 26] وقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] وهذا إنما يصح لو كان الهدى عبارة عن البيان وقال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى} [النجم: 23] وقال: {إِنَّا هديناه السبيل إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] أي سواء شكر أو كفر فالهداية قد جاءته في الحالتين وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] وقال: {ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شيء وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154] وهذا لا يقال للمؤمن وقال تعالى حكاية عن خصوم داود عليه السلام: {وَلاَ تُشْطِطْ واهدنا إلى سَوَاء الصراط} [ص: 22] أي أرشدنا وقال: {إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ وأملى لَهُمْ} [محمد: 25] وقال: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ في جَنبِ الله} [الزمر: 56] إلى قوله: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ المتقين} [الزمر: 57] إلى قوله: {بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت} [الزمر: 59] أخبر أنه قد هدى الكافر مما جاءه من الآيات وقال: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَهُدًى} [الأنعام: 157] وهذه مخاطبة للكافرين.
وثانيها: قالوا في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] أي لتدعو وقوله: {وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] أي داع يدعوهم إلى ضلال أو هدى.
وثالثها: التوفيق من الله بالألطاف المشروطة بالإيمان يؤتيها المؤمنين جزاء على إيمانهم ومعونة عليه وعلى الازدياد من طاعته، فهذا ثواب لهم وبإزائه ضده للكافرين وهو أن يسلبهم ذلك فيكون مع أنه تعالى ما هداهم يكون قد أضلهم، والدليل على هذا الوجه قوله تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} [مريم: 76]، {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} [آل عمران: 86]، {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت في الحياة الدنيا وَفِى الأخرة وَيُضِلُّ الله الظالمين} [إبراهيم: 27]، {كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَاءهُمُ البينات والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} [آل عمران: 86] فأخبر أنه لا يهديهم وأنهم قد جاءهم البينات، فهذا الهدى غير البيان لا محالة، وقال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22].
ورابعها: الهدى إلى طريق الجنة قال تعالى: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ في رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صراطا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 175] وقال: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16] وقال: {والذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أعمالهم سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة} [محمد: 4 6] والهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الجنة، وقال تعالى: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} [يونس: 90] وهذا تأويل الجبائي، وخامسها: الهدى بمعنى التقديم يقال هدى فلان فلانًا أي قدمه أمامه، وأصل هدى من هداية الطريق؛ لأن الدليل يتقدم المدلول، وتقول العرب أقبلت هوادي الخيل.
أي متقدماتها ويقال للعنق هادي وهوادي الخيل أعناقها لأنها تتقدمها، وسادسها: يهدي أي يحكم بأن المؤمن مهتد وتسميته بذلك لأن حقيقة قول القائل هداه جعله مهتديًا، وهذا اللفظ قد يطلق على الحكم والتسمية قال تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] أي ما حكم ولا شرع، وقال: {إِنَّ الهدى هُدَى الله} [آل عمران: 73] معناه أن الهدى ما حكم الله بأنه هدى وقال: {ومَن يَهْدِ الله فهو المهتد} [الإسراء: 97] أي من حكم الله عليه بالهدى فهو المستحق لأن يسمى مهتديًا فهذه هي الوجوه التي ذكرها المعتزلة: وقد تكلمنا عليها فيما تقدم في باب الإضلال.
قالت الجبرية: وههنا وجه آخر وهو أن يكون الهدى بمعنى خلق الهداية والعلم، قال الله تعالى: {والله يَدْعُواْ إِلَى دَارِ السلام وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] قالت القدرية هذا غير جائز لوجوه: أحدها: أنه لا يصح في اللغة أن يقال لمن حمل غيره على سلوك الطريق كرهًا وجبرًا أنه هداه إليه وإنما يقال رده إلى الطريق المستقيم وحمله عليه وجره إليه فأما أن يقال إنه هداه إليه فلا، وثانيها: لو حصل ذلك بخلق الله تعالى لبطل الأمر والنهي والمدح والذم والثواب والعقاب، فإن قيل هب أنه خلق الله تعالى إلا أنه كسب العبد قلنا هذا الكسب مدفوع من وجهين:
الأول: أن وقوع هذه الحركة إما أن يكون بتخليق الله تعالى أو لا يكون بتخليقه، فإن كان بتخليقه، فمتى خلقه الله تعالى استحال من العبد أن يمتنع منه، ومتى لم يخلقه استحال من العبد الإتيان به، فحينئذٍ تتوجه الإشكالات المذكورة وإن لم يكن بتخليق الله تعالى بل من العبد فهذا هو القول بالاعتزال.
الثاني: أنه لو كان خلقًا لله تعالى وكسبًا للعبد لم يخل من أحد وجوه ثلاثة، إما أن يكون الله يخلقه أولًا ثم يكتسبه العبد أو يكتسبه العبد أولًا ثم يخلقه الله تعالى.
أو يقع الأمران معًا، فإن خلقه الله تعالى كان العبد مجبورًا على اكتسابه فيعود الإلزام وإن اكتسبه العبد أولًا فالله مجبور على خلقه، وإن وقعا معًا وجب أن لا يحصل هذا الأمر إلا بعد اتفاقهما لكن هذا الاتفاق غير معلوم لنا فوجب أن لا يحصل هذا الاتفاق، وأيضًا فهذا الاتفاق وجب أن لا يحصل إلا باتفاق آخر، لأنه من كسبه وفعله، وذلك يؤدي إلى ما لا نهاية له من الاتفاق وهو محال هذا مجموع كلام المعتزلة قالت الجبرية: إنا قد دللنا بالدلائل العقلية التي لا تقبل الاحتمال، والتأويل على أن خالق هذه الأفعال هو الله تعالى، إما بواسطة أو بغير واسطة، والوجوه التي تمسكتم بها وجوه نقلية قابلة للاحتمال والقاطع لا يعارضة المحتمل فوجب المصير إلى ما قلناه وبالله التوفيق. اهـ.
سؤال:
لقائل أن يقول لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم لقوله: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} [سبأ: 13]، {وقليل ما هم} [ص: 24] ولحديث: «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» وحديث: «النَّاسُ أُخْبُرْ تَقْلُهْ»؟
والجواب: أهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال، وأيضًا فإن القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة فسموا بالكثير ذهابًا إلى الحقيقة. اهـ.