فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج هؤلاء عن مجاهد في الآية قال: المطر أنزله الله عليهم قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار، والتبدت به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن إسحاق، عن عروة بن الزبير، قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهسًا، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد الأرض، ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشًا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال: إن المشركين غلبوا المسلمين في أوّل أمرهم على الماء، فضحى المسلمون وصلوا مجنبين محدثين، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن، وقال أتزعمون أن فيكم نبيًا وأنكم أولياء الله، وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء، فشرب المسلمون وتطهروا، وثبتت أقدامهم، وذهبت وسوسته.
وقد قدّمنا أن المشهور في كتب السير المعتمدة أن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء.
وهذا المرويّ عن ابن عباس في إسناده العوفي، وهو ضعيف جدًا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {رِجْزَ الشيطان} قال: وسوسته.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} قال: بالصبر {وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام} قال: كان بطن الوادي دهاسًا، فلما مطروا اشتدت الرملة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام} قال: حتى تشتدّ على الرمل، وهو كهيئة الأرض.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عليّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تلك الليلة ويقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد» وأصابهم تلك الليلة مطر شديد، فذلك قوله: {وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام}.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن مجاهد، قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: قال لي أبي: يا بنيّ لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب على الأعناق، وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق به.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عكرمة، في قوله: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} يقول: الرءوس.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عطية {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} قال: اضربوا الأعناق.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الضحاك {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} يقول: اضربوا الرقاب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال: يعني بالبنان الأطراف.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عطية {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال: كل مفصل. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)} إلى قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)}
موضوع هذا الدرس الأول في السورة، هو بيان حكم الله في الأنفال.. المغانم التي يغنمها المسلمون في جهادهم في سبيل الله.. بعد ما ثار بين أهل بدر من الجدال حول تقسيمها. فردهم الله إلى حكمه فيها؛ كما ردهم إلى تقواه وطاعته وطاعة رسوله؛ واستجاش في قلوبهم وجدان الإيمان والتقوى.
ثم أخذ يذكرهم بما أرادوا لأنفسهم من العير والغنيمة، وما أراده الله لهم من النصر والعزة. وكيف سارت المعركة، وهم قلة لا عدد لها ولا عدة، وأعداؤهم كثرة في الرجال والعتاد. وكيف ثبتهم بمدد من الملائكة، وبالمطر يستقون منه ويغتسلون ويثبت الأرض تحت أقدامهم فلا تسوخ في الرمال، وبالنعاس يغشاهم فيسكب عليهم السكينة والاطمئنان. وكيف ألقى في قلوب أعدائهم الرعب وأنزل بهم شديد العقاب.
ومن ثم يأمر المؤمنين أن يثبتوا في كل قتال، مهما خيل إليهم في أول الأمر من قوة أعدائهم، فإن الله هو الذي يقتل، وهو الذي يرمي، وهو الذي يدبر، وإن هم إلا ستار لقدر الله وقدرته، يفعل بهم ما يشاء..
ثم يسخر من المشركين الذين كانوا قبل الموقعة يستفتحون، فيطلبون أن تدور الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم، فيقول لهم: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}.
ويحذر المؤمنين أن يتشبهوا بالمنافقين الذين يسمعون ولكنهم لا يسمعون، لأنهم لا يستجيبون!
وينتهي الدرس بنداءات متكررة للذين آمنوا. ليستجيبوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم- ولو خيل إليهم أنه الموت والقتل- وليذكرهم كيف كانوا قليلًا مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم وأيدهم بنصره؛ وليعدهم أن يجعل لهم فرقانًا في قلوبهم وفي حركتهم إن هم اتقوه. ذلك إلى تكفير السيئات وغفران الذنوب؛ وما ينتظرهم من فضل الله الذي تتضاءل دونه الغنائم والأنفال.
{يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصحلوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقًا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}.
ذكرنا من قبل في التعريف الإجمالي بالسورة جانبًا من الروايات التي وردت عن نزول هذه الآيات. ونضيف هنا إليها بعض الروايات؛ زيادة في استحضار الجو الذي نزلت فيه السورة جملة، والذي نزلت فيه الآيات الخاصة بالغنائم والأنفال بوجه خاص؛ واستحضار الملامح الواقعية للجماعة المسلمة في أول وقعة كبيرة بعد قيام الدولة المسلمة في المدينة.
قال ابن كثير في التفسير: روى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه- واللفظ له- وابن حبان والحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا» فتسارع في ذلك شبان القوم، وبقي الشيوخ تحت الرايات. فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا رداء لكم، لو انكشفتم لفئتم إلينا. فتنازعوا، فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال}. إلى قوله: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}. وقال الثوري، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلًا فله كذا وكذا، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا» فجاء أبو اليسير بأسيرين، فقال: يا رسول الله- صلى الله عليك- أنت وعدتنا. فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر، ولا جبن عن العدو، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك. فتشاجروا، ونزل القرآن: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}. قال: ونزل القرآن: {واعلموا أنما غنتم من شيء فأن لله خمسه}. إلى آخر الآية..
وروى الإمام أحمد قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن محمد بن عبيد الله الثقفي، عن سعد بن أبي وقاص، قال: لما كان يوم بدر، وقتل أخي عمير، قتلت سعيد بن العاص؛ وأخذت سيفه. وكان يسمى ذا الكثيفة. فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اذهب فاطرحه في القبض» قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي. قال: فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب فخذ سلبك».
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن عاصم بن أبي النجود، عن مصعب ابن سعد، عن سعد بن مالك، قال: قلت يا رسول الله، قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف. فقال: «إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه» قال: فوضعته ثم رجعت، فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي. قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي. قال: قلت: قد أنزل الله فيّ شيئًا؟ قال: «كنت سألتني السيف، وليس هو لي، وإنه قد وهب لي، فهو لك» قال: وأنزل الله هذه الآية: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش، وقال الترمذي: حسن صحيح.
فهذه الروايات تصور لنا الجو الذي تنزلت فيه آيات الأنفال.. ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم، وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا؛ وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين، وشاركوهم ديارهم وأموالهم، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم: {يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها. لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة؛ وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء؛ وكان الناس- يومئذ- حريصين على هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الله سبحانه وتعالى، في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين!.. ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكرّهم الله سبحانه به، وردهم إليه.. ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر؛ حتى أحسوا ذلك في مثل ما قاله عبادة بن الصامت- رضي الله عنه-: فينا- أصحاب بدر- نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولًا وعملًا. نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها، فلم يعد الأمر حقًا لهم يتنازعون عليه؛ إنما أصبح فضلًا من الله عليهم؛ يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل، الذي بدأ بهذه الآيات، واستطرد فيما تلاها كذلك.
{يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصحلوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}.
لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال، هو الهتاف بتقوى الله.. وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب.. إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا، والنزاع عليها- وإن كان هذا النزاع متلبسًا هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء- إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى.. إن قلبًا لا يتعلق بالله، يخشى غضبه ويتلمس رضاه، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض، ولا يملك أن يرف شاعرًا بالانطلاق!
إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة.. وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}.
وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة الله ورسوله:
{وأطيعوا الله ورسوله}.
وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال. فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق، وارتدت ملكيتها ابتداء لله والرسول، فانتهى حق التصرف فيها إلى الله والرسول. فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم الله وقسم رسول الله؛ طيبة قلوبهم، راضية نفوسهم؛ وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم، ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم.. ذلك.
{إن كنتم مؤمنين}.
فلابد للإيمان من صورة عملية واقعية. يتجلى فيها، ليثبت وجوده، ويترجم عن حقيقته. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل» ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيرًا في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتعريف الإيمان وتحديده؛ وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان، أو تمنيًا لا واقعية له في عالم العمل والواقع.
ثم يعقب بتقرير صفات الإيمان الحق كما يريده رب هذا الدين؛ ليحدد لهم ما يعنيه قوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين}. فها هو ذا الإيمان الذي يريده منهم رب هذا الدين:
{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقًا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}.