فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبما روى أنه انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أنا فئتك، وبعضهم يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: «أنتم العكارون» على تسليتهم وتطييب قلوبهم، وحمل الكلام كله في الخبرين على ذلك بعيد.
نعم إن ظاهرهما يستدعي أن لا يكاد يوجد فار من الزحف، ووزن متحيز متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوز لأنه من حاز يحوز وإلى هذا ذهب الزمخشري ومن تبعه، وتعقب بأن الإمام المرزوقي ذكر أن تدير تفعل مع أنه واوي نظر إلى شيوع ديار، وعليه فيجوز أن يكون تحيز تفعل نظرًا إلى شيوخ الحيز بالياء، فلهذا لم يجيء تدور وتحوز، وذكر ابن جني أن ما قاله هذا الإمام هو الحق وأنهم قد يعدون المنقلبون كالأصلي ويجرون عليه أحكامه كثيرًا، لكن في دعواه نفي تحوز نظر، فإن أهل اللغة قالوا: تحوز وتحيز كما يدل عليه ما في القاموس، وقال ابن قتيبة: تحوز تفعل وتحيز تفيعل، وهذه المادة في كلامهم تتضمن العدول من جهة إلى أخرى من الحيز بفتح الحاء وتشديد الياء، وقد وهم فيه من وهم، وهو فناء الدار ومرافقها، ثم قيل لكل ناحية فالمستقر في موضعه كالجبل لا يقال له متحيز وقد يطلق عندهم على ما يحيط به حيز موجود، والمتكلمون يريدون به الأعم وهو كل ما أشير إليه فالعالم كله متحيز ونصب الوصفين على الحالية وإلا ليست عاملة ولا واسطة في العمل وهو معنى قولهم: لغو وكانت كذلك لأنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ولولا التفريغ لكانت عاملة أو واسطة في العمل على الخلاف المشهور وشرط الاستثناء المفرغ أن يكون في النفي أو صحة عموم المستثنى منه نحو قرأت إلا يوم كذا ومنه ما نحن فيه ويصح أن يكون من الأول باعتبار أن يولي بمعنى لا يقبل على القتال، ونظير ذلك ما قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام: «العالم هلكى إلا العالمون» الحديث.
وجوز أن يكون على الاستثناء من المولين، أي من يولهم دبره إلا رجلًا منهم متحرفًا فالقتال أو متحيزًا {فَقَدْ بَاء} أي رجع {بِغَضَبٍ} عظيم لا يقادر قدره، وحاصله المولون إلا المتحرفين والمتحيزين لهم ما ذكر {مِنَ الله} صفة غضب مؤكدة لفخامته أي بغضب كائن منه تعالى شأنه {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي بدل ما أراد بفراره أن يأوي إليه من مأوى ينجيه من القتل {وَبِئْسَ المصير} جهنم ولا يخفى ما في إيقاع البوء في موقع جواب الشرط الذي هو التولية مقرونًا بذكر المأوى والمصير من الجزالة التي لا مزيد عليها، وفي الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز، وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس الت يحرم الله تعالى إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف» وجاء عده في الكبائر في غير ما حديث قالوا: وهذا إذا لم يكن العدو أكثر من الضعف لقوله تعالى: {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ} الآية أما إذا كان أكثر فيجوز الفرار فالآية ليست باقية على عمومها وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال من فر من ثلاثة فلم يفرو من فر من اثنين فقد فر، وسمي هذا التخصيص نسخًا وهو المروي عن أبي رباح.
وعن محمد بن الحسن أن المسلمين إذا كانوا اثني عشر ألفاف لم يجز الفرار، والظاهر أنه لا يجوز أصلًا لأنهم لا يغلبون عن قلة كما في الحديث، وروى عن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي نضرة والحسن رضي الله تعالى عنهما وهي رواية عن الحبر أيضًا أن الحكم مخصوص بأهل بدر، وقال آخرون: إن ذلك مخصوص بما ذكر وبجيش فيه النبي صلى الله عليه وسلم وعللوا ذلك بأن وقعة بدر أول جهاد وقع في الإسلام ولذا تهيبوه ولو لم يثبتوا فيه لزم مفاسد عظيمة ولا ينافيه أنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها لأن النظم لا يوجب وجودها وأما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معهم فلأن الله تعالى ناصهر، وأنت تعلم أنه كان في المدينة خلق كثير من الأنصار لم يخرجوا لأنهم لم يعلموا بالنفير وظنوها العير فقط وأن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أن لله تعالى ناصره كان فئة لهم، وقال: بعضهم إن الإشارة بيومئذ إلى يوم بدر لا تكاد تصح لأنه في سياق الشرط وهو مستقبل فالآية وإن كانت نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فذلك اليوم فرد من أفراد يوم اللقاء فيكون عامًا فيه لا خاصًا به وإن نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم بده {وَيَوْمَئِذٍ} إشارة إلى يوم اللقاء ودفع بأن مراد أولئك القائلين إنها نزلت يوم بدر وقد قامت قرينة على تخصيصها ولا بعد فيه اه، وعندي أن السورة إنما نزلت بعد تمام القتال ولا دليل على نزول هذه الآية قبله والتخصيص المذكور مما لا يقوم دليل على سياق ويد الله مع الجماعة والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} أي: يوم اللقاء {دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ} أي: مائلًا له.
يقال: تحرف وانحرف واحرورف: مال وعدل، وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء، وإما بالفرّ للكر، بأن يخيل عدوه أنه منهزم ليغره، ويخرجه من بين أعوانه، فيفر عنه، ثم بكرّ عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه، وهو باب من مكايد الحرب: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي: منضمًا إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم: {فَقَدْ بَاء} أي: رجع {بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: ما صار إليه من عذاب النار.
تنبيهات:
الأول: دلت الآية على وجوب مصابرة العدو، أي: الثبات عند القتال، وتحريم الفرار منه يوم الزحف، وعلى أنه من الكبائر، لأنه توعده عليه وعيده شديدًا.
الثاني: ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال، إلا حالة التحرف، أو التحيز، وهو مروي عن ابن عباس، واختاره أبو مسلم.
قال الحاكم: وعليه أكثر الفقهاء.
وروى عن جماعة من السلف، أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم بدر، لقوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} وأجيب بأن الإشارة في: {يَوْمَئِذٍ} إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق، لا إلى يوم بدر.
الثالث: ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي: جماعة أخرى من المسلمين، سوى التي هو فيها، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس، لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر رضي الله عنه: لو تحيز إلي لكنت له فئة.
وفي رواية عنه: أيها الناس! أنا فئتكم.
وقال الضحاك: المتحيز إلى فئة، الفارّ إلى النبي وأصحابه.
وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه، وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال:
من فر من سرية إلى أميره، أو إلى الإمام الأعظم، دخل في هذه الرخصة.
ثم أورد حديث عبد الله بن عُمَر المروي عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم، قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع، وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب، ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا! ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا! فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: «من القوم»؟ فقلنا: نحن الفرارون. فقال: «لا، بل أنتم العكّارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين»، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده.
قال الترمذي: حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد. انتهى.
أي: وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة.
قال الحاكم في مسألة الفرار: إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده، فإن ظن المقاومة لم يحل الفرار، وإن ظن الهلاك جاز الفرار إلى فئة وإن بعدت، وإذا لم يقصد الإقلاع عن الجهات. وحمل عليه حديث ابن عمر المذكور.
وعن الكرخي: أن الثبات والمصابرة واجب، إذا لم يخش الإستئصال، وعرف عدم نكايته للكفار، والتجأ إلى مصرٍ للمسلمين، أو جيش، وهكذا أطلق في شرح الإبانة فلم يبح الفرار إلا بهذا الشروط الثلاثة، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه.
الرابع: روي عن عطاء أن حُكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}، قال الحاكم: إذا أمكن الجمع فلا نسخ وأقول: كنا أسلفنا أن السلف كثيرًا ما يعنون بالنسخ تقييد المطلق، أو تخصيص العام، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها.
قال بعض الأئمة: هذا الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافًا كثيرة، لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفا}.
وعن ابن عباس: من فرّ من اثنين فقد فرّ، ومن فرّ من ثلاثة فلم يفرّ.
وبالجملة، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف، فإن هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرمًا بشرط بينه الله في آية الضعف.
وفي المهذب: إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين، جاز الفرار، لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون، فالأفضل الثبات، وإن ظنوا الهلاك، فوجهان: يلزم الإنصراف لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
والثاني: يستحب ولا يجب، لأنهم إن قُتلوا فازوا بالشهادة وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين، فإن لم يظنوا الهلاك لم يجز الفرار، وإن ظنوه فوجهان:
يجوز لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
ولا يجوز، وصححوه لظاهر الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}
وعبر عن حين الزحف بلفظ اليوم في قوله: {يومئذ} أي يوم الزحف أي يولهم يوم الزحف دُبره أي حين الزحف.
ومن ثم استثني منه حالة التحرف لأجل الحيلة الحربية والانحياز إلى فِئَة من الجيش للاستنجاد بها أو لإنجادها.
والمستثنى يجوز أن يكون ذاتًا مستثنى من الموصول في قوله: {ومن يولهم} والتقدير: إلاّ رَجلًا مُتحرفًا لقتال، فحذف الموصوف وبقيت الصفة، ويجوز أن يكون المستثنى حالة من عموم الأحوال دل عليها الاستثناء أي إلاّ في حال تحرفه لقتال.
و(التحرف) الانصراف إلى الحَرْف، وهو المكان البعيد عن وسطه فالتحرف مزايلة المكان المستقر فيه والعدولُ إلى أحد جوانبه، وهو يستدعي تولية الظهر لذلك المكان بمعنى الفرار منه.
واللام للتعليل أي إلاّ في حال تحرف أي مجانبة لأجل القتال، أي لأجل أعماله إن كان المراد بالقتال الاسم، أو لأجل إعادة المقاتلة إن كان المراد بالقتال المصدر، وتنكير قتال يرجح الوجه الثاني، فالمراد بهذا التحرف ما يعبر عنه بالفَرّ لأجل الكرّ فإن الحرب كرّ وفرّ، وقال عمرو بن معدي كرب:
ولقد أجمَعُ رِجليَّ بها ** حذَر الموت وإني لفرور

ولقد أعْطِفها كارهة ** حينَ للنفس من الموت هَرِير

كل ما ذلك مني خُلُق ** وبكلٍ أنا في الروْع جدير

والتحيز طلب الحَيْز فَيْعِل من الحَوْز، فأصل إحدى ياءيْه الواو، فلما اجتمعت الواو والياء وكانت السابقة ساكنة قلبت الواوُ ياء وأدغمت الياء في الياء، ثم اشتقوا منه تَحَيّز، فوزنه تَفَيْعَل وهو مختار صاحب الكشاف جريًا على القياس بقدر الإمكان، وجوّز التفتازاني أن يَكون وزنه تَفَعّل بناء على اعتباره مشتقًا من الكلمة الواقع فيها الإبدال والإدغامُ وهي الحَيز، ونظّره بقولهم: تَدَيُّر بمعنى الإقامة في الدار، فإن الدار مشتقة من الدوران ولذلك جُمعت على دُور، إلاّ أنه لما كثر في جمعها دِيَار ودِيرَة عوملت معاملة ما عينه ياء، فقالوا من ذلك تَدَيّرَ بمعنى أقام في الدار وهو تَفعّل من الدار، واحتَج بكلام ابن جني والمرزوقي في شرح الحماسة، يعني ما قال ابن جني في شرح الحماسة عند قول جابر بن حريش:
إِذْ لا تخاف حُدُوجُنا قذْفَ النّوى ** قبلَ الفساد إِقامةً وتديرا

التدير تفَعُّل من الدار وقياسه تدور إلاّ أنه لما كثر استعمالهم ديار أَنِسوا بالياء ووجدوا جانبها أوطا حسًّا وألين مسًّا فاجتروا عليها فقالوا تدير وما قال المرزوقي الأصل في تَدَير الواو ولكنهم بنوه على دِيَارِ لإلفِهم له بكثرة تردده في كلامهم.
فمعنى {متحيزًا إلى فئة} أن يكون رجع القهقرى ليلتحق بطائفة من أصحابه فيتقوى بهم.
والفِئَة الجماعة من الناس، وقد تقدم في سورة البقرة [249] في قوله: {كم من فئةٍ قليلةَ} وتطلق على مؤخرة الجيش لأنها يفيء إليها مَن يحتاج إلى إصلاح أمره أو مَن عَرض له ما يَمنعه من القتال من مرض أو جراحة أو يستنجد بهم، فهو تولَ لمقصد القتال، وليس المراد أن ينحاز إلى جماعة مستريحين لأن ذلك من الفرار، ويدخل في معنى التحيز إلى الفئة الرجوع إلى مقر أمير الجيش للاستنجاد بفئة أخرى، وكذلك القفول إلى مقر أمير المِصر الذي وجه الجيش للاستمداد بجيش آخر إذا رأى أميرُ الجيش ذلك من المصلحة كما فعل المسلمون في فتح إفريقية وغيره في زمن الخلفاء، ولما انهزم أبو عبيد بن مسعود الثقفي يوم الجسر بالقادسية، وقتل هو ومن معه من المسلمين، قال عمر بن الخطاب: هلاّ تَحيّز إليّ فأنا فِئتُهْ.