فصل: من فوائد ابن عطية في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا}.
ذكر المفسرون أنه لما ضرب الله تعالى المثلين المتقدمين في السورة قال الكفار: ما هذه الأمثال؟ الله عز وجل أجل من أن يضرب هذه أمثالًا، فنزلت الآية.
وقال ابن قتيبة: إنما نزلت لأن الكفار أنكروا ضرب المثل في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت.
وقال قوم: هذه الآية مثل للدنيا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف يأباه رصف الكلام واتساق المعنى. و{يستحيي} أصله يستحيي، عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت.
وقرأ ابن كثير في بعض الطرق عنه، وابن محيصن وغيرهما {يستحي} بكسر الحاء، وهي لغة فتميم، نقلت حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ثم استثقلت الضمة على الياء الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء.
واختلف المتأولون في معنى: {يستحيي} في هذه الآية. فرجح الطبري أن معناه يخشى. وقال غيره. معناه يترك وهذا هو الأولى. ومن قال يمتنع أو يمنعه الحياء فهو يترك أو قريب منه. ولما كان الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك، رد الله بقوله: {إن الله لا يستحيي} على القائلين كيف يضرب الله مثلًا بالذباب ونحوه، أي إن هذه الأشياء ليست من نازل القول، إذ هي من الفصيح في المعنى المبلغ أغراض المتكلم إلى نفس السامع، فليست مما يستحيى منه.
وحكى المهدوي أن الاستحياء في هذه الآية راجع إلى الناس، وهذا غير مرضي.
وقوله تعالى: {أن يضرب} {أن} مع الفعل في موضع نصب، كأنها مصدر في موضع المفعول، ومعنى {يضرب مثلًا} يبين ضربًا من الأمثال أي نوعًا، كما تقول: هذا من ضرب هذا، والضريب المثيل. ويحتمل أن يكون مثل ضرب البعث، وضرب الذلة، فيجيء المعنى أن يلزم الحجة بمثل، و{مثلًا} مفعول، فقيل هو الأول، وقيل هو الثاني، قدم وهو في نية التأخير، لأن {ضرب} في هذا المعنى يتعدى إلى مفعولين.
واختلفوا في قوله: {ما بعوضة} فقال قوم: {ما} صلة زائدة لا تفيد إلا شيئًا من تأكيد، وقيل ما نكرة في موضع نصب على البدل من قوله: {مثلًا} و{بعوضة} نعت ل {ما} فوصفت ما بالجنس المنكر لإبهامها. حكى المهدوي هذا القول عن الفراء والزجاج وثعلب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقيل غير هذا مما هو تخليط دعا إليه الظن {أن يضرب} إنما يتعدى إلى مفعول واحد.
وقال بعض الكوفيين: نصب {بعوضة} على تقدير إسقاط حرف الجر، والمعنى أن يضرب مثلًا ما من بعوضة.
وحكي عن العرب: له عشرون ما ناقة فجملًا، وأنكر أبو العباس هذا الوجه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والذي يترجح أن {ما} صلة مخصصة كما تقول جئتك في أمر ما فتفيد النكرة تخصيصًا وتقريبًا، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: الخفيف.
سلع ما ومثله عشر ما ** عائل ما وعالت البيقورا

وبعوضة على هذا مفعول ثان.
وقال قوم: {ما} نكرة، كانه قال شيئًا. والآية في هذا يشبهها قول حسان بن ثابت: الكامل:
فكفى بنا فضلًا على من غيرنا ** حبُّ النبيِّ محمدٍ إيّانا

قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم نظير هذا القول، والشبه بالبيت غير صحيح عندي، والبعوضة فعولة من بعض إذا قطع اللحم، يقال بضع وبعض بمعنى، وعلى هذا حملوا قول الشاعر: الوافر:
لنعمَ البيتُ بيتُ أبي دثارٍ ** إذا ما خاف بعضُ القومِ بَعْضا

وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج: {بعوضةٌ} بالرفع.
قال أبو الفتح: وجه ذلك أن {ما} اسم بمنزلة الذي، أي لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلًا، فحذف العائد على الموصول، وهو مبتدأ، ومثله قراءة بعضهم: {تمامًا على الذي أحسن} أي على الذي هو أحسن.
وحكى سيبويه ما أنا بالذي قائل لك شيئًا، أي هو قائل.
وقوله تعالى: {فما فوقها} من جعل {ما} الأولى صلة زائدة، فما الثانية عطف على بعوضة، ومن جعل {ما} اسمًا فما الثانية عطف عليها.
وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: المعنى فما فوقها في الصغر.
وقال قتادة وابن جريج وغيرهما: المعنى في الكبر.
قال القاضي أبو محمد: والكل محتمل، والضمير في {أنه} عائد على المثل.
واختلف النحويون في {ماذا} فقيل هي بمنزلة اسم واحد، بمعنى أي شيء أراد الله، وقيل ما اسم وذا اسم آخر بمعنى الذي، فما في موضع رفع بالابتداء، وذا خبره، ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام.
وقوله: {مثلًا} نصب على التمييز، وقيل على الحال من ذا في {بهذا} والعامل فيه الإشارة والتنبيه.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: {يضل به كثير ويهدي به كثيرًا} فقيل هو من قول الكافرين، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى؟ وقيل بل هو خبر من الله تعالى أنه يضل بالمثل الكفار الذين يعمون به، ويهدي به المؤمنين الذين يعلمون أنه الحق. وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال ولا خلاف أن قوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين} من قوله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {ويهدي به كثيرًا} إلى آخر الآية ردًا من الله تعالى على قول الكفار {يضل به كثيرًا} والفسق الخروج عن الشيء. يقال فسقت الفارة إذا خرجت من جحرها، والرطبة إذا خرجت من قشرها، والفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان، وقراءة جمهور الأمة في هذه الآية: {يُضل} بضم الياء فيهما.
وروي عن إبراهيم بن أبي عبلة أنه قرأ: {يَضل} بفتح الياء {كثيرٌ} بالرفع {ويهدي به كثير وما يضل به إلا الفاسقون} بالرفع.
قال أبو عمرو الداني: هذه قراءة القدرية وابن أبي عبله من ثقات الشاميين ومن أهل السنة، ولا تصح هذه القرءة عنه، مع أنها مخالفة خط المصحف.
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ في الأولى: {يُضل} بضم الياء وفي الثانية {وما يَضل} بفتح الياء {به إلا الفاسقون}.
قال القاضي أبو محمد: وهذه قراءة متجهة لولا مخالفتها خط المصحف المجمع عليه. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا}.
قال ابن عرفة: الحياء هو استقباح فعل الشيء بحالة ما دون نقص فيه، والاستحياء استقباح فعله لنقص فيه.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وصف به القديم ولا يجوز عليه التغير والخوف؟ وفي حديث سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله كريم حي يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا».
أجاب أنه على سبيل التمثيل مثل تركه كتغييب العبد من العطاء بترك من يمتنع من رد المحتاج حياء منه.
والمعنى هنا لا يترك ضرب المثل بالبعوض ترك من يستحى أن يتمثل بها.
قال ابن عرفة: فجعله من باب العدم والهلكة، مثل زيد لا يبصر لا من السلب والإيجاب مِثل الحائط لا يبصر.
وقال صاحب المثل السائر في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» إنه يفهم على وجهين: إما إذا لم تفعل فعلا تستحي منه فاصنع ما شئت على سبيل التخبير والإباحة، وإما إذا لم تتصف بالحياء لأجل جرمك وتعديك الحدود الشرعية ولم تبال ما أتت فاعل فاصنع ما شئت على سبيل التهديد والوعيد والإنذار.
قال: وفسر {يَضْرِبَ} في الآية بوجهين: إما بمعنى يذكر مثلا، وإمّا بمعنى يصوغ كضرب الصائغ الدراهم بمعنى صاغها.
قال: وحكمة ضرب المثل بهذا أن لفظ القرآن صحيح فصيح فضرب الله المثل فيه ابتلاء لعباده، فالمحق يأخذ بالقبول، والمبطل يعانده فيه.
وهذا جرى على السّنن المألوف عند العرب الفصحاء في صحيح الأمثال فحق المنصف منهم أن يقبل المثل وعلى هذا فردهم لذلك فيه ومعاندتهم فيه محض مباهتة، وهي طريقة المغلوب إذا لم يجد ملجأ.
قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا}.
قيل: أي، ما دونها، وقيل: ما هو أعظم منها.
وانتقد ابن الصائغ على ابن عصفور حدّه التنازع أن يتقدم اسم ويتأخر عنه عاملان فصاعدا، وقال: إنّه غير جامع، لا يتناول الأسئلة تكون فيها ثلاثة عوامل، لأن الفاء تقتضي الجمع.
ومنهم من جعلها بمعنى أو فعلى ما قال ابن الصائغ لا يفسّر إلا بمعنى الأول، وهو أن المراد ما دون البعوضة فيتم المثل وعلى أنّ الفاء بمعنى أو ويصحّ تفسير الفوقية بالأمرين.
قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ}.
وقال الزمخشري: أما حرف فيه معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء وفائدته أنه يزيد الكلام تأكيدا.
قال: وفي قولك: أما زيد فذاهب.
معناه عند سيبويه مهما يكن من شيء فزيد ذاهب وتفسيره يفيد أمرين: التأكيد والشرطية.
قال ابن عرفة: أراد أنه يفيد ملزومية الشرط للجزاء أي زيد ملازم للذهاب، فكأنه لم يزل ذاهبا وفائدة دخول الفاء على أما أنّه لما تقدم الإخبار بأن الله تعالى لا يستحي أن يضرب مثلا وكان الإخبار بذلك لا يقتضي وقوع ضرب المثل بل جوازه في حقّه، وأنّه لا يمتنع منه عقّبه ببيان أن ذلك واقع منه لقوله تعالى: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق}.
وعبر عن المؤمنين بالفعل تنبيها على أن من أتّصف بمطلق الإيمان يعلم ذلك فأحرى من حصل له الإيمان القوي الكامل ويستفاد من عمومه في المؤمنين أن الاعتقاد الحاصل للمقلد عِلْمٌ لاَ ظنّ وهو الصحيح عندهم.
قوله تعالى: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق}.
قال ابن عرفة: الحق في القرآن كثيرا كقوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق} فمن يفهمه على ظاهره يعتزل لأن مذهب المعتزلة مراعاة الأصلح على قاعدة التحسين والتقبيح، فالصواب أن يقال في تفسير الحق هو الأمر الثابت في نفس الأمر الذي دل الدليل الشرعي على ثبوته، أو يقال: إنما هو الثابت بدليل شرعي، أو مدلول الكلام القديم الأزلي.
قال ابن العربي في شرح الأسماء الحسنى: الحق في اللغة هو الموجودُ ويعم الاعتقاد والقول والعمل ثم قال: والمختار أن الحق ما له فائدة مقصودة، والباطل ضده سواء كان موجودا أو معدوما قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق} أي لفائدة مقصودة وهي الثواب والعقاب لقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} وانظر ما قيدته في الزمر والأحقاف والتغابن وعم.
قال أبو حيان: والفاء الداخلة على جواب أما فحقها التقديم فيقال: أما زيد فذاهب، لأنه هو الجواب لكنها لو قدمت للزم عليه وجود المعطوف دون المعطوف عليه.
وكذا قال الفارسي وأبو البقاء وابن هشام: أما فيها معنى الشرط، والفاء كذلك فكرهوا اجتماع حرفي شرط، كما كرهوا اجتماع حرفي تأكيد.
قال ابن عرفة: إِنَّمَا امتنع عندي لما فيه من إيهام الإتيان بالجزاء دون الشرط.
قوله تعالى: {مِن رَّبِّهِمْ}.
لم يقل من الله تنبيها على أنه رحمة منه ونعمة لهم، لكونه نصب لهم عليه الأدلة والطرق إلى العلم به.
قوله تعالى: {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا}.
الآية فيها حذف التقابل أي فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقّ مِنْ رَبِّهِمْ ويقولون ذلك بألسنتهم، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا.
ويعتقدون ذلك بقلوبهم ولذلك لم يقل في الكافرين: بماذا أراد ربنا بهذا مثلا ويمكن أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من الأولى، وهو أصوب مو كونها استئنافا، لأن المؤمنين إذا اعتقدوا أنه الحق حالة وجود المخالف والمعاند لهم فيه فأحرى أن يعتقدوا صحته مع عدم المخالف.
قال ابن عرفة: وسلكوا في هذه العبارة طريق الجدل عند الجدليين لأنهم لو قالوا ذلك أمرنا بالرد عليهم، فالضرب في رجوعهم بالمباهتة والتبكيت.
{وأتوا} في الجواب بلفظ ظاهره الاستفهام ومعناه الإنكار كما يأتي المجادل المغلوب بلفظ يموه به ويحيد به عن الجواب.
وقوله: {مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا} قال الزمخشري: فيه وجهان: إما أن ذا اسم موصول بمعنى الذي مرفوع على الابتداء أو خبره مع صلته، وإما أن ماذا كلمة واحدة كلها وهي في موضع نصب بأن إذا.
قال ابن عرفة: وكان ابن الحباب يحكى عن بعضهم أنه كان يقول في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} بالرفع: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} قال: النصب في جهة المؤمنين أرجح، والرفع للكافرين أرجح كما هو في الآية.
ووجهه أنه حيده منهم عن الجواب لأن الكافرين لو نصبوا أساطير الأولين لكان المعنى أنزل أساطير الأولين فيكونوا مقرين بالإنزال وإذا رفعوه فيكون المعنى هو أساطير الأولين، وحادوا عن الجواب على مقتضى السؤال والمؤمنون أجابوا على مقتضى السؤال فقالوا: أنزل خيرا فأقروا بالإنزال، وأنه خير في نفسه، فحصلوا المطلوب وزيادة.
وكذلك يجيء الرفع في هذه الآية أرجح في جهة الكافرين، ويحتمل أن يكون ماذا أراد الله في موضع الحال، ويحتمل أن يوقف على ماذا.
قال ابن عرفة: و{مَثَلا} إما تمييز أو حال، وإما منصوب على المخالفة كما قال ابن منصور في شرح مقربه لما عدّ المنصوبات.
قال ابن عطية: ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام.
وقال الزمخشري في قولهم: {مَاذَا} استرذال واستحقار.
وقال ابن عرفة: عادة ابن المنير ينتقد عليه ذلك لأنه إساءة أدب لا بنبغي أن يفسر القرآن به ولا يحكي عن الكافرين في الكلام القبيح إلا ما هو نص كلامهم مثل {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا}.
قال ابن عرفة: هذا لف ونشر لأنه لما تقدم ذكر المثل وذكر بعده الفريقين عقبه ببيان أنَّه يضل به قوما، ويهدي به آخرين.
واللَّف والنشر قسمان: موافق كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار} ومخالف كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} قال: وحكمة ذلك في الجمع الاهتمام بمقام التخويف والإنذار، فلذلك بدأ بأهل الشقاوة في الآيتين.
وقال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: هذه الآية إذا بنينا على القول الصحيح فإن ارتباط الدليل بالمدلول عادي وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد نصوا على أن الحق لا يستلزم الباطل بوجه، وإنما يستلزم حقا مثله.
وجاءت هذه الآية بعد ذكر ضرب المثل الذي جعله الله دليلا للمكلفين على صحة الرسالة، ثم عقبه ببيان أنه دليل حق ثم قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} فجعل الدليل الحق مستلزما للضلال فإذا بنينا على أن ارتباط الدليل بالمدلول عادي يكون الحق بهذه الآية قد يستلزم الضلال كما قالوا إنه يستلزم الحق.
وغاية ما فيه أن يقال: الغالب عليه استلزم الحق وقد يستلزم الباطل.
قال ابن عرفة واقتضت الآية أنّ المثل الذي هدى الله به المؤمنين أضل به بقية الكافرين، وهو سبب في الشيء ونقيضه، وهذا هو عين مذهب أهل السنة، لأن جميع الأشياء كائنة بإرادة الله وقدرته.
وأراد الزمخشري سؤالًا [أ] قال: إن قلت: لم قال: {يضل به كثيرًا} وهم قليلون قال تعالى: {وقليلٌ مِنْ عِبّادِيَ الشَّكُورُ} وقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَليِلٌ مَّا هُمْ}؟
قال ابن عرفة: السؤال غير وارد لأن الشكور أخص من الشاكر، والشاكر مهدي فلا يلزم من كون الشاكر قليلًا أن يكون المهدي قليلًا.
قال: والآية الأخرى تقتضي نسبة العلة لمن آمن وعمل الصّالحات وهو أخص ممن اتصف بمطلق الإيمان ومطلق الاهتداء فلو قدر السؤال بقوله تعالى: {ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين}.
لكان صحيحًا متوجها.
قيل لابن عرفة: إنما السؤال غير وارد على مذهبنا، وأما عند الزمخشري وسائر المعتزلة فهو وارد لأن المؤمن عندهم هو الذي عمل.
قال: بل هو غير وارد عندهم لأن من آمن الإيمان الحقيقي الكامل واخترمته المنية إثر ذلك ولم يمض عليه زمن عمل فيه الصّالحات هو مؤمن باتفاق منا ومنهم.
زاد الزمخشري في تمثيل القليل قوله صلى الله عليه وسلم: «النّاس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة».
قال كذلك قوله وجدت الناس أخبر تقله أي أخبر أحدهم ببعضه.
قال ابن عرفة: وهو تسليم للسؤال.
فأجابه عنه الزمخشري: بأنهم كثيرون في أنفسهم.
لاسيما فيما قالوا في جمع الكثرة: إنه يتناول مع العشرة فما دون ذلك والقلة هي فما في الترجيح في العدالة إنه ترجح التي هي أعدل لشرفها.
وإسناد فعل الإضلال إلى الله تعالى حقيقه.
وجعله الزمخشري مجازًا على قاعدة التحسين والتقبيح عندهم ثم استدل لذلك بحكاية عن مالك بن دينار أنّه دخل على محبوس مقيد بين يديه دجاج وأخبصه فقال له: هذه وضعت القيود على رجلك.
ابن عرفة: وهذا من أنواع الدليل المسمى في علم المنطق بالخطأ، لأنه جعل استحالة نسبة الأضلال إلى الله تعالى كاستحالة نسبة وضع القيد في رجل المحبوس إلى الدجاج وللأخبصة قال: فكما أطلقه هناك مجازًا فكذلك هنا استحقاقًا لمذهبه وجريًا على عادته الفاسدة.
قوله تعالى: {ومَا يُضِلّ بِهِ إلاّ الفَاسِقينَ}.
تقدم للزمخشري في قوله تعالى: {هُدى للمُتَّقِينَ} سؤال، قال: المتقي مهتد فكونها هدى له تحصيل الحاصل، وأجاب بأن المراد الصائرين للتقوى وهو هُدى بإعتبار الزيادة في الهداية.
وكذا السؤال هنا وجوابه قول تعالى: {فَأَمَّا الَّذينَ ءامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيِمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذيِنَ ءامَنُوا مَّرَضٌ فَزَادتَتْهُمْ رِجْسًا}. اهـ.