فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} فيه مسائل:

.المسألة الأولى: [الاختلاف يوم بدر فيمن قتل]:

قال مجاهد: اختلفوا يوم بدر.
فقال: هذا أنا قتلت.
وقال الآخر أنا قتلت فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني أن هذه الكسرة الكبيرة لم تحصل منكم، وإنما حصلت بمعونة الله روي أنه لما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه قريش، قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك: «اللهم إني أسألك ما وعدتني» فنزل جبريل وقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعلي أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم، وقال شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا.
قال صاحب الكشاف والفاء في قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم.
ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} يعني أن القبضة من الحصباء التي رميتها، فأنت ما رميتها في الحقيقة، لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر، ولكن الله رماها حيث نفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم، فصورة الرمية صدرت من الرسول عليه الصلاة والسلام وأثرها إنما صدر من الله، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات.

.المسألة الثانية: [الاحتجاج بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله]:

احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وجه الاستدلال أنه تعالى قال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} ومن المعلوم أنهم جرحوا، فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله.
وأيضًا قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أثبت كونه عليه السلام راميًا، ونفى عنه كونه راميًا، فوجب حمله على أنه رماه كسبًا وما رماه خلقًا.
فأن قيل: أما قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} فيه وجوه: الأول: أن قتل الكفار إنما تيسر بمعونة الله ونصره وتأييده، فصحت هذه الإضافة.
الثاني: أن الجرح كان إليهم، وإخراج الروح كان إلى الله تعالى، والتقدير: فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم.
وأما قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذَا رَمَيْتَ ولكن الله رمى} قال القاضي فيه أشياء: منها أن الرمية الواحدة لا توجب وصول التراب إلى عيونهم، وكان إيصال أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلا بإيصال الله تعالى، ومنها أن التراب الذي رماه كان قليلًا، فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل، فدل هذا على أنه تعالى ضم إليها أشياء أخر من أجزاء التراب وأوصلها إلى عيونهم، ومنها أن عند رميته ألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم، فكان المراد من قوله: {ولكن الله رمى} هو أنه تعالى رمى قلوبهم بذلك الرعب.
والجواب: أن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر، والأصل في الكلام الحقيقة.
فإن قالوا: الدلائل العقلية تمنع من القول بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى.
فنقول: هيهات فإن الدلائل العقلية في جانبنا والبراهين النقلية قائمة على صحة قولنا، فلا يمكنكم أن تعدلوا عن الظاهر إلى المجاز.
والله أعلم.

.المسألة الثالثة: [قراءة {لكن} بالتخفيف ورفع ما بعدها]:

قرئ {ولكن الله قَتَلَهُمْ ولكن الله رمى} بتخفيف ولكن ورفع ما بعده.

.المسألة الرابعة: في سبب نزول هذه الآية:

ثلاثة أقوال: الأول: وهو قول أكثر المفسرين أنها نزلت في يوم بدر.
والمراد أنه عليه السلام أخذ قبضة من الحصباء، ورمى بها وجوه القوم وقال شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينيه ومنخريه منها شيء، فكانت تلك الرمية سببًا للهزيمة، وفيه نزلت هذه الآية.
والثاني: أنها نزلت يوم خيبر روي أنه عليه السلام أخذ قوسًا وهو على باب خيبر.
فرمى سهمًا.
فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق، وهو على فرسه، فنزلت: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} والثالث: أنها نزلت في يوم أحد في قتل أبي بن خلف، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وقال يا محمد من يحيى هذا وهو رميم؟ فقال عليه السلام يحييه الله ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار فأسر يوم بدر، فلما افتدى.
قال لرسول الله إن عندي فرسًا أعتلفها كل يوم فرقًا من ذرة، كي أقتلك عليها.
فقال صلى الله عليه وسلم: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» فلما كان يوم أحد أقبل أبي يركض على ذلك الفرس حتى دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه.
فقال عليه السلام: «استأخروا» ورماه بحربة فكسر ضلعًا من أضلاعه، فحمل فمات ببعض الطريق ففي ذلك نزلت الآية والأصح أن هذه الآية نزلت في يوم بدر، وإلا لدخل في أثناء القصة كلام أجنبي عنها، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما قوله تعالى: {وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} فهذا معطوف على قوله: {ولكن الله رمى} والمراد من هذا البلاء الأنعام، أي ينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصرة والغنيمة والأجر والثواب، قال القاضي: ولولا أن المفسرين اتفقوا على حمل الابتلاء هاهنا على النعمة، وإلا لكان يحتمل المحنة بالتكليف فيما بعده من الجهاد، حتى يقال: إن الذي فعله تعالى يوم بدر، كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات.
ثم إنه تعالى ختم هذا بقوله: {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لكلامكم عليم بأحوال قلوبكم، وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب، لئلا يغتر العبد بظواهر الأمور، ويعلم أن الخالق تعالى مطلع على كل ما في الضمائر والقلوب. اهـ.

.قال السمرقندي:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ}
وذلك أن المسلمين كانوا يقولون: قتلنا فلانًا وقتلنا فلانًا.
فأراد الله تعالى أن لا يعجبوا بأنفسهم، فقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} يقول: فما قتلتموهم؛ {ولكن الله قَتَلَهُمْ}، يعني الله تعالى نصركم عليهم وأمدكم بالملائكة.
{وَمَا رَمَيْتَ}، يعني الله تعالى تولى ذلك.
وذلك حين رمى النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب، فملأ الله تعالى أعينهم بها فانهزموا، قال الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ} يعني لم تصب رميتك ولم تبلغ ذلك المبلغ؛ {ولكن الله رمى} الله تعالى تولى ذلك.
ويقال: رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالحربة، فأصاب أبي بن خلف الجمحي فقتله.
قرأ حمزة والكسائي {ولكن الله رمى} بكسر النون والتخفيف والله بالضم، وكذلك في قوله: {ولكن الله قَتَلَهُمْ} وقرأ الباقون بنصب النون مع التشديد ونصب ما بعده {ولكن الله رمى}.
قال: {وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا}، يعني لينصرهم نصرًا جميلًا ويختبرهم بالتي هي أحسن، ويقال: ولينعم المؤمنين نعمة بينة.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، يعني سميع لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وعليم بإجابته. اهـ.

.قال الثعلبي:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} الآية.
قال أهل التفسير والمغازي لمّا ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا قال: «هذه مصارع القوم إن شاء الله»، فلمّا طلعوا عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللّهمّ إنّي أسألك ما وعدتّني فأتاه جبرئيل وقال: خذ حفنة من تراب فارمهم بها».
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا التقى الجمعان لعلّي رضي الله عنه: «أعطني قبضة من حصا الوادي» فناوله من حصى عليه تراب فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم به في وجوه القوم وقال: «شاهت الوجوه» فلم يبق مشرك إلاّ دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب الهزيمة.
وقال حكيم بن حزام: لمّا كان يوم بدر سمعنا صوتًا وقع من السماء كأنّه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا.
وقال قتادة وابن زيد: ذكر له أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى حصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم.
وقال: «شاهت الوجوه» فانهزموا.
الزهري عن سعيد بن المسيب قال: نزلت هذه الآية في قتل أُبي بن كعب الجمحي. وذلك أنّه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل وهو يفتّه فقال: يا محمد الله يُحيي هذا وهو رميم؟
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يحيه الله ثمّ يميتك ثمّ يدخلك النار فلمّا كان يوم بدر أسره ثمّ فدي، فلمّا افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي فرسًا أعلفها كل يوم فرق ذرة لكي أقتلك عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلمّا كان يوم أُحُد أقبل أُبيّ بن خلف يركض بفرسه ذلك حتّى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استاخروا»، فاستأخروا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة في يده فرمى بها أُبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعًا من أضلاعه فرجع أبي إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه وطفقوا يقولون: لا بأس، فقال أُبي: والله لو كانت الناس لقتلهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله، فانطلق به أصحابه ينعونه حتّى مات ببعض الطريق فدفنوه. ففي ذلك أنزل الله هذه الآية: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} الآية.
وروى صفوان بن عمرو عن عبد العزيز بن جبير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر دعا بقوس فأُتي بقوس طويلة فقال: جيئوني بغيرها، فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} فهذا سبب نزول الآية.
فأمّا معناها فإن الله تعالى أضاف القتل والرمي إلى نفسه لأنّه كان منه تعالى التسبيب والتسديد ومن رسوله والمؤمنين الضرب والحذف. وكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة من الله تعالى الإنشاء والايجاد بالقدرة القديمة التامّة ومن الخلق الاكتساب بالقوى المحدثة، وفي هذا القول دليل على ثبوت مذهب أهل الحق وبطلان قول القدريّة.
وقيل: إنّما أضافها إلى نفسه لئلاّ يعجب القوم.
قال مجاهد: قال هذا: قتلت، وقال هذا: قتلت، فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن: أراد فلم تُميتموهم ولكن الله أماتهم وأنتم جرحتموهم لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره.
قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} أي قتل يبلغ إلى المشركين بها وملأ عيونهم منها.
وقال ابن إسحاق: ولكن الله رمى أي لم يكن ذلك رميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك وما ألقى في صدور عدوك منها حتّى هزمهم.
وقال أبو عبيده: تقول العرب: رمى الله لك، أي نصرك. قال الأعمش: {ولكن الله رمى} أي وفّقك وسدّد رميتك.
{وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَنًا} أي ولينعم على المؤمنين نعمه عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب.
وقال ابن إسحاق: ليعرف المؤمنين نعمة نصرهم وإظهارهم على عدوهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا نعمه {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لإقوالهم: {عَلِيمٌ} بأفعالهم سميع بأسرارهم عليم بإضمارهم. اهـ.