فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}
يحتمل وجهين:
أحدهما: ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم.
والثاني: ولكن الله قتلهم بمعونته لكم حين ألقى في قلوبهم الرعب وفي قلوبكم النصر.
وفيه وجه ثالث قاله ابن بحر: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم.
وقيل لم تقتلوهم بقوتكم وسلاحكم ولكن الله قتلهم بخذلانهم وقبض أرماحهم.
{وَمَا رَمَيْتَ إذَ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: ما حكاه ابن عباس، وعرة، والسدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض يوم بدر قبضة من تراب رماهم بها وقال: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» أي قبحت ومنه قول الحطيئة:
أرى لي وجهًا شوه الله خلقه ** فقُبح من وجهٍ وقبح حامله

فألقى الله تعالى القبضة في أبصارهم حتى شغلتهم بأنفسهم وأظفر الله المسلمين بهم، فهو معنى قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إذَ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللَّهَ رَمَى}. الثاني: معناه وما ظفرت إذ رميت ولكن الله أظفرك، قاله أبو عبيدة.
الثالث: وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ولكن الله ملأ قلوبهم رعبًا.
والقول الرابع: أنه أرد رمى أصحابه بالسهم فأصاب رميهم.
وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} يعني بما أرسله من الريح المعينة لسهامهم حتى سددت وأصابت. والمراد بالرمي الإصابة لأن معى الرمي محمول على الإصابة، فإن لم يصب قيل رمى فأخطأ. وإذا قيل مطلقًا:
قد رمى، لم يعقل منه إلا الإصابة. ألا ترى إلى قول امرئ القيس:
فرماها في فرائصها.... فاستغنى بذكر الرمي عن وصفه بالإصابة.
وقال ذو الرمة في الرأي:
رمى فأخطأ والأقدار غالبةٌ ** فانصاع والويل هجيراه والحربُ

قوله عز وجل: {وَليُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا} قال أصحاب الخواطر: البلاء الحسن ما يورثك الرضا به والصبر عليه.
وقال المفسرون: البلاء الحسن هاهنا النعمة بالظفر والغنيمة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}
هذه مخاطبة للمؤمنين أعلم الله بها أن القتلة من المؤمنين ليس هم مستبدين بالقتل، لأن القتل بالإقدار عليه، والخلق والاختراع في جميع حالات القاتل إنما هي لله تعالى ليس للقاتل فيها شيء، وإنما يشاركه بتكسبه وقصده، وهذه الألفاظ ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم، وسبب هذه الآية فيما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم مما فعل، فقال قتلت كذا وفعلت كذا فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك فنزلت الآية، وقوله: {وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى} يراد به ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله يومئذ، وذلك أنه أخذ قبضات من حصى وتراب، فرمى بها في وجوه القوم وتلقاهم ثلاث مرات فانهزموا عند آخر رمية، ويروى أنه قال يوم بدر: شاهت الوجوه، وهذه الفعلة أيضًا كانت يوم حنين بلا خلاف، وروي أن التراب الذي رمى به لم يبق كافر إلا دخل في عينيه منه شيء، وروي أنه رمى بثلاثة أحجار فكانت الهزيمة مع الحجر الثالث.
قال القاضي أبو محمد: فيحتمل قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} ما قلناه في قوله: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} وذلك منصوص في الطبري وغيره، وهو خارج في كلام العرب على معنى وما رميت الرمي الكافي إذ رميت، ونحوه قول العباس بن مرداس: [المتقارب]
فلم أعط شيئًا ولم أمنعِ

أي لن أعط شيئًا مرضيًا ويحتمل أن يريد، وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت حصياتك، ولكن الله رماه وهذا أيضًا منصوص في المهدوي وغيره، ويحتمل أن يريد وما أغنيت إذ رميت حصياتك ولكن الله رمى أي أعانك وأظفرك، والعرب تقول في الدعاء: رمى الله لك، أي أعانك وصنع لك.
وحكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز وقرأت فرقة {ولكنّ الله رمى} بتشديد النون، وفرقة {ولكنْ اللهُ} بتخفيفها ورفع الهاء من {الله} {وليبلي} أي ليصيبهم ببلاء حسن، فظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة والظفر والعزة، وقيل أراد الشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلًا، منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر، ومعاذ وعمرو ابنا عفراء، وغيرهم، {إن الله سميع} لاستغاثتكم، {عليم} بوجه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو، وحكى الطبري: أن المراد بقوله: {وما رميت إذ رميت} رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن الآية نزلت عقب بدر، وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وما بعدها وذلك بعيد، وحكي أيضًا أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر فصار في الهويّ حتى أصاب ابن أبي الحقيق فقتله وهو على فراشه، وهذا فاسد، وخيبر فتحها أبعد من أحد بكثير، والصحيح في قتل ابن أبي الحقيق غير هذا، فهذان القولان ضعيفان لما ذكرناه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة إلا عاصمًا {ولكِنِ اللهُ قتلهم} {ولكنِ اللهُ رمى} بتخفيف النون ورفع اسم الله فيهما.
وسبب نزول هذا الكلام أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجعوا عن بدر جعلوا يقولون: قَتَلْنا وقَتَلْنا، هذا معنى قول مجاهد.
فأما قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت} ففي سبب نزوله ثلاثة أقوال:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: «ناولني كفًا من حصباء، فناوله فرمى به في وجوه القوم، فما بقي منهم أحد إلا وقعت في عينه حصاة»، وقيل: أخذ قبضة من التراب، فرمى بها، وقال: «شاهت الوجوه»؛ فما بقي مشرك إلا شُغل بعينه يعالج التراب الذي فيها، فنزلت: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} وذلك يوم بدر؛ هذا قول الأكثرين.
وقال ابن الأنباري: وتأويل شاهت: قبحت، يقال: شاه وجهه يشوه شَوهًا وشُوهة، ويقال: رجل أشوه، وامرأة شوهاء: إذا كانا قبيحين.
والثاني: أن أُبي بن خلف أقبل يوم أُحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريده، فاعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا سبيله، وطعنه النبي صلى الله عليه وسلم بحرتبه، فسقط أُبيٌّ عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور، فقالوا: إنما هو خدش، فقال: والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل المجاز لماتوا أجمعون، فمات قبل أن يَقْدَم مكة؛ فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن أبيه.
والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى يوم خيبر بسهم، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحَقيق وهو على فراشه، فنزلت هذه الآية، ذكره أبو سليمان الدمشقي في آخرين.
قوله تعالى: {ولكن الله قتلهم} اختلفوا في معنى إضافة قتلهم إليه على أربعة أقوال:
أحدها: أنه قتلهم بالملائكة الذين أرسلهم.
والثاني: أنه أضاف القتل إليه لأنه تولَّى نصرهم.
والثالث: لأنه ساقهم إلى المؤمنين وأمكنهم منهم.
والرابع: لأنه ألقى الرعب في قلوبهم.
وفي قوله: {وما رميت إذ رميت} ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: وما ظفرت أنت ولا أصبت، ولكن الله اظفرك وأيدك، قاله أبو عبيدة.
والثاني: وما بلغ رميُك كفًا من تراب أو حصى أن تملأ عيون ذلك الجيش الكثير، إنما الله تولى ذلك، قاله الزجاج.
والثالث: وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: {وليُبليَ المؤمنين منه بلاءً حسنًا} أي: لُينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والأجر.
{إن الله سميع} لدعائهم {عليم} بنيَّاتهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} أي يوم بدر.
روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك.
فنزلت الآية إعلامًا بأن الله تعالى هو المميت والمقدّر لجميع الأشياء، وأن العبد إنما يشارك بتكسبه وقصده.
وهذه الآية تردّ على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم.
فقيل: المعنى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم.
وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم.
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} مِثله، {ولكن الله رمى}.
واختلف العلماء في هذا الرمي على أربعة أقوال:
الأوّل: إن هذا الرمي إنما كان في حَصْب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؛ رواه ابن وهب عن مالك.
قال مالك: ولم يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه ذلك.
وكذلك روى عنه ابن القاسم أيضًا.
الثاني: أن هذا كان يوم أُحد حين رمى أبي بن خلف بالحربة في عنقه؛ فَكرَّ أبيّ منهزمًا.
فقال له المشركون: والله ما بك من بأس.
فقال: والله لو بصق عليّ لقتلني.
أليس قد قال: بل أنا أقتله.
وكان قد أوعد أبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل بمكة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنا أقتلك» فمات عدوّ الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة، بموضع يقال له سَرِف.
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: لما كان يوم أُحُد أقبل أبَيّ مقنعًا في الحديد على فرسه يقول: لا نجوتُ إن نجا محمد؛ فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله.
قال موسى بن عقبة قال سعيد بن المسيب: فاعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلّوْا طريقه؛ فاستقبله مصعب بن عمير يَقِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ فقُتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم تَرْقُوة أبَيّ بن خلف من فُرجة بين سابغة البَيْضة والدّرع؛ فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم.
قال سعيد: فكسر ضلعًا من أضلاعه؛ فقال: ففي ذلك نزل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} وهذا ضعيف؛ لأن الآية نزلت عقيب بدر.
الثالث: أن المراد السّهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حِصن خَيْبر، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحُقَيق وهو على فراشه.
وهذا أيضًا فاسد وَخَيْبَرُ وفتحُها أبعد من أُحُد بكثير.
والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحُقَيق غير هذا.
الرابع: أنها كانت يوم بدر؛ قاله ابن إسحاق.
وهو أصح؛ لأن السورة بدرية، وذلك أن جبريل عليه السلام قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «خذ قبضة من التراب» فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة؛ وقاله ابن عباس، وسيأتي.
قال ثعلب: المعنى {وَمَا رَميْتَ} الفزع والرعب في قلوبهم {إذْ رَمَيْتَ} بالحصباء فانهزموا {وَلِكنَّ اللَّهَ رمى} أي أعانك وأظفرك.
والعرب تقول: رمى الله لك، أي أعانك وأظفرك وصنع لك.
حكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز.
وقال محمد بن يزيد: وما رميت بقوتك إذ رميت، ولكنك بقوة الله رميت.
{وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَنًا} البلاء هاهنا النعمة.
واللام تتعلق بمحذوف؛ أي وليبلي المؤمنين فعل ذلك. اهـ.