فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}
جمهور المفسرين جعلوا الخطاب موجهًا إلى المشركين، فيكون الكلام اعتراضًا خوطب به المشركون في خلال خطبات المسلمين بمناسبة قوله: {ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين} [الأنفال: 18] والخطاب التفات من طريق الغيبة الذي اقتضاه قوله: {وأن الله موهن كيد الكافرين} [الأنفال: 18] وذكر المفسرون في سبب نزولها أن أبا جهل وأصحابه لما أزمعوا الخروج إلى بدر استنصروا الله تجاه الكعبة، وأنهم قبل أن يشرعوا في القتال يومَ بدر استنصروا الله أيضًا وقالوا ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه، فخوطبوا بأن قد جاءهم الفتح على سبيل التهكم أي الفتح الذي هو نصر المسلمين عليهم.
وإنما كان تهكمًا لأن في معنى {جاءكم الفتح} استعارة المجيء للحصول عندهم تشبيهًا بمجيء المُنجد لأن جعل الفتح جاءيا إياهم.
يقتضي أن النصر كان في جانبهم ولمنفعتهم، والواقع يخالف ذلك، فعُلم أن الخبر مستعمل في التهكم بقرينة مخالفته الواقع بمسمع المخاطبين ومرآهم.
وحَمل ابن عطية فعل {جاءكم} على معنى: فقد تبين لكم النصر ورأيتموه أنه عليكم لا لكم، وعلى هذا يكون المجيء بمعنى الظهور: مثل {وجاء ربك} [الفجر: 22] ومثل {جاء الحق وزهق الباطل} [الإسراء: 81] ولا يكون في الكلام تهكم.
وصيغ {تستفتحوا} بصيغة المضارع مع أن الفعل مضى لقصد استحضار الحالة من تكريرهم الدعاء بالنصر على المسلمين، وبذلك تظهر مناسبة عطف {وإن تنتهوا فهو خير لكم} إلى قوله: {وأن الله مع المؤمنين} أي تنتهوا عن كفركم بعد ظهور الحق في جانب المسلمين.
وعطف الوعيدُ على ذلك بقوله: {وإن تَعُودوا نعد} أي: إن تعودوا إلى العناد والقتال نعد، أي نعد إلى هزمكم كما فعلنا بكم يوم بدر.
ثم أيْأسهم من الانتصار في المستقبل كله بقوله: {ولن تُغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت} أي لا تنفعكم جماعتكم على كثرتها كما لم تغن عنكم يوم بدر، فإن المشركين كانوا يومئذٍ واثقين بالنصر على المسلمين لِكثرة عَددهم وعُدَدهم.
والظاهر أن جملة: {إن تعودوا} معطوفة على جملة الجزاء وهي: {فقد جاءكم الفتح}.
و{لو} اتصالية أي {لن} تغني عنكم في حال من الأحوال ولو كانت في حال كثرة على فئةِ أعدَائِكم، وصاحب الحال المقترنة بـ(لو) الاتصالية قد يكون متصفًا بمضمونها، وقد يَكون متصفًا بنقيضه، فإن كان المراد من العَود في قوله: {وإن تعودوا} العود إلى طلب النصر للمُحق فالمعنى واضح، وإن كان المراد منه العود إلى محاربة المسلمين فقد يشكل بأن المشركين انتصروا على المسلمين يومَ أُحُد فلم يتحقق معنى نَعُد ولا موقع لجملة: {ولن تغني عنكم فئتكم} فإن فئتهم أغنت عنهم يوم أُحُد.
والجواب عن هذا إشكال أن الشرط لم يكن بأداة شرط مما يفيد العموم مثل (مَهْما) فلا يُبطله تخلف حصول مضمون الجزاء عن حصول الشرط في مرة، أو نقول إن الله قضى للمسلمين بالنصر يوم اُحُد، ونصرهم وعلم المشركون أنهم قد غُلبوا ثم دارت الهزيمة على المسلمين؛ لأنهم لم يمتثلوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَحوا عن الموضع الذي أمرهم أن لا يبرحوا عنه طلبًا للغنيمة فعوقبوا بالهزيمة كما قال: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} [آل عمران: 166] وقال: {إن الذين تَولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وقد مضى ذلك في سورة [آل عمران: 155]، وبعدُ ففي هذا الوعيد بشارة أن النصر الحاسم سيكون للمسلمين وهو نصر يوم فتح مكة.
وجملة: {وأن الله مع المؤمنين} على هذا التفسير زيادة في تأييس المشركين من النصر، وتنويه بفضل المؤمنين بأن النصر الذي انتصروه هو من الله لا بأسبابهم فإنهم دون المشركين عددًا وعُدة.
ومن المفسرين من جعل الخطاب بهذه الآية للمسلمين، ونسب إلى أُبيّ بن كعب وعطاء، لكون خطاب المشركين بعد الهجرة قد صار نادرًا، لأنهم أصبحوا بُعداء عن سماع القرآن، فتكون الجملة مستأنفة استينافًا بيانيًا فإنهم لما ذُكروا باستجابة دعائهم بقوله: {إذ تستغيثون ربكم} [الأنفال: 9] الآيات، وأمروا بالثبات للمشركين، وذكروا بنصر الله تعالى إياهم يوم بدر بقوله: {فلم تقتلوهم} إلى قوله: {مُوهن كيد الكافرين} [الأنفال: 17، 18] كان ذلك كله يثير سؤالًا يختلج في نفوسهم أن يقولوا أيكون كذلك شأننا كلما جاهدنا أم هذه مزية لوقعة بدر، فكانت هذه الآية مفيدة جواب هذا التساؤل.
فالمعنى: إن تستنصروا في المستقبل قوله فقد جاءكم الفتح، والتعبير بالفعل الماضي في جواب الشرط للتنبيه على تحقيق وقوعه، ويَكون قوله: {فقد جاءكم الفتح} دليلًا على كلام محذوف، والتقدير: إن تستنصروا في المستقبل ننصركم فقد نصرناكم يوم بدر.
والاستفتاح على هذا التفسير كناية عن الخروج للجهاد، لأن ذلك يستلزم طلب النصر ومعنى {وإن تنتهوا فهو خير لكم} أي إن تمسكوا عن الجهاد حيث لا يتعين فهو أي الإمساك، خير لكم لتستجمعوا قوتكم وأعدادكم، فأنتم في حال الجهاد منتصرون، وفي حال السلم قائمون بأمر الدين وتدبير شئونكم الصالحة، فيكون كقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تمنّوا لقاء العدو، وقيل المراد وإن تنتهوا عن التشاجر في أمر الغنيمة أو عن التفاخر بانتصاركم يوم بدر فهو خير لكم من وقوعه.
وأما قوله: {وإن تعودوا نعد} على هذا التفسير فهو إن تعودوا إلى طلب النصر نعد فننصركم أي لا يُنقص ذلك من عطائنا كما قال زهير:
سألنا فأعطيتكم وعدنا فعُدْتُم ** ومن أكثر التَسآل يومًا سيُحرم

يُعلّمهم الله صدق التوجه إليه، ويكون موقع {ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا} زيادة تقرير لمضمون {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} وقوله: {وإن تعودوا نعد} أي لا تعتمدوا إلاّ على نصر الله.
فموقع قوله: {ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا} بمنزلة التعليل لتعليق مجيء الفتح على أن {تستفتحوا} المشعر بأن النصر غير مضمون الحصول إلاّ إذا استنصروا بالله تعالى وجملَه {ولو كثرت} في موضع الحال، و{لو} اتصالية، وصاحب الحال متصف بضد مضمونها، أي: ولو كثرت فكيف وفئتكم قليلة، وعلى هذا الوجه يكون في قوله: {وأن الله مع المؤمنين} إظهار في مقام الإضمار، لأن مقتضى الظاهر أن يقال: وإن الله معكم، فعدل إلى الاسم الظاهر للإيماء إلى أن سبب عناية الله بهم هو إيمانهم.
فهذان تفسيران للآية والوجدان يكون كلاهما مرادًا.
والفتح حقيقته إزالة شيء مجعول حَاجزًا دون شيء آخر، حفظًا له من الضياع أو الافتكاك والسرقة، فالجدار حاجز، والباب حاجز، والسد حاجز، والصندوق حاجز، والعِدل تجعل فيه الثياب والمتاع حاجز، فإذا أزيل الحاجز أو فرج فيه فرجة يسلك منها إلى المحجوز سميت تلك الإزالة فتحًا، وذلك هو المعنى الحقيقي، إذ هو المعنى الذي لا يخلو عن اعتباره جميع استعمال مادة الفتح وهو بهذا المعنى يستعار لإعطاء الشيء العزيز النوال استعارةً مفردةً أو تمثيلية وقد تقدم عند قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} [الأنعام: 44] وقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات} الآية في [سورة الأعراف: 96] فالاستفتاح هنا طلب الفتح أي النصر، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر.
وكثر إطلاق الفتح على حلول قوم بأرض أو بلدِ غيرهم في حرب أو غارة، وعلى النصر، وعلى الحُكْم، وعلى معان أُخر، على وجه المجاز أو الكناية وقوله: {وأن الله مع المؤمنين} وقرأه نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، بفتح همزة {أن} على تقدير لام التعليل عطفًا على قوله: {وأن الله موهن كيد الكافرين} [الأنفال: 18].
وقرأه الباقون بكسر الهمزة، فهو تذييل للآية في معنى التعليل، لأن التذييل لما فيه من العموم يصلح لإفادة تعليل المذيّل، لأنه بمنزلة المقدمة الكبرى للمقدمة الصغرى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}
وتستفتحوا من الاستفتاح وهو طلب الفتح؛ لأن الألف والسين والتاء تأتي بمعنى الطلب، فنقول: استفهم أي طلب الفهم، وإن تستفتحوا، أي تطلبوا الفتح، ونعلم أن المعنويات مأخوذة كلها من الأمر الحسيّ؛ لأن أول إلف للإنسان في المعلومات جاء من الأمور الحسّية؛ ثم تتكون للإنسان المعلومات العقلية. ومثال ذلك قولنا: إن النار محرقة، وعرفنا هذا القول من تجربة حسّية مرت بأكثر من إنسان ثم صارت قضية عقلية يعرفها الإنسان وإن لم ير نارًا وإن لم ير إحراقًا.
وعندما تجتمع المحسات تتكون عند الإنسان خمائر معنوية وقضايا كلية يدير بها شئونه العامة، ومثال ذلك: إننا نعرف جميعًا أن المجتهد ينجح، وأخذنا هذه الحقيقة من الواقع، تمامًا كما أخذنا الحقيقة القائلة: إن المقصر والمهمل كل منهما يرسب.
وسبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه فيقول: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78].
أي أن الإنسان منا مخلوق وهو خالي الذهن، وخلو الذهن يطلب الامتلاء، وكل معلومة يتلقاها الذهن الصغير يستطيع أن يستظهرها فورًا، ولذلك نجد التلمذ الصغير أقدر على حفظ القرآن الكريم من الشاب الكبير؛ لأن هذا الشاب الكبير قد يزدحم ذهنه بالمعلوم العقلي.
وقد شرح لنا علماء النفس هذه المسألة حين قالوا: إن لكل شعور بؤرة هي مركز الشعور. والأمر الذي تفكر فيه تجد المعلومات الخاصة به في ذهنك فورًا. وقد تتزحزح هذه المعلومات من ذاكرتك إذا فكرت في موضوع آخر، كما تتزحزح المعلومات الخاصة بالموضوع السابق إلى حافة الشعور لتحل مكانها المعلومات الخاصة بالموضوع الجديد في بؤرة الشعور.
والحيز في المعنويات مثله مثل الحيز في الحسِّيات، فأنت حين تملأ زجاجة بالمياه لابد أن تكون فوهة الزجاجة متسعة لتدخل فيها المياه ويخرج الهواء الذي بداخل الزجاجة. لكن إن كانت فوهة الزجاجة ضيقة كفوهة زجاجة العطر مثلا فهذه يصعب ملؤها بالمياه إلا بواسطة أداة لها سن رفيع كالسرنجة الطيبة حتى يمكن إدخال المياه وطرد الهواء الموجود بداخل الزجاجة ذات الفوهة الضيقة.
وهكذا نرى أن الحيز في الأمور المحسة لا يسع كميتين مختلفتي النوعية، ويكون حجم كل منهما مساويًا لحجم الحيز. وتقترب المسألة في المخ من هذا الأمر أيضًا، فأنت لا تتذكر المعلومات الخاصة بموضوع معين إلا إذا كان الموضوع في مركز الشعور، فإذا ما ابتعد الموضوع عن تفكيرك بعدت المعلومات الخاصة به إلى حاشية الشعور البعيدة. والطفل الصغير يكون خالي الذهن لذلك يستقبل المعلومات بسرعة ويكون مستحضرا لها.
ولذلك لا يجب أن نتهم إنسانًا بالغباء وآخر بالذكاء لمجرد قدرة واحد على سرعة التَّذكر وعجز الآخر عن مجاراة زميله في ذلك، فالذكاء له مقاييس متعددة ما زال العلماء إلى الآن يختلفون حولها.
لكن في موضوع التذكر اتفق جانب كبير من العلماء على أن الذهن كآلة التصوير يأخذ المعلومة من أول لقطة شريطة أن تكون بؤرة الشعور خالية لهذه المعلومة. أما إن كانت بؤرة الشعور مشغولة بأمر آخر فهي لا تلتقط المعلومة. والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].