فصل: (سورة الأنفال آية 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنفال آية 5]:

{كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5)}
{كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} فيه وجهان أحدهما. أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره. هذه الحال كحال إخراجك. يعنى أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة، مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. والثاني: أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله: {الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أي الأنفال استقرّت للّه والرسول، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون.
و{مِنْ بَيْتِكَ} يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مهاجره ومسكنه، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه {بِالْحَقِّ} أي إخراجًا ملتبسا بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ} في موضع الحال، أي أخرجك في حال كراهتهم، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة معها أربعون راكبا، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو ابن هشام، فأخبر جبريل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقى العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدًا، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها: إنى رأيت عجبا رأيت كأنّ ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدّث بها العباس فقال أبو جهل: ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير.
في المثل السائر: لا في العير ولا في النفير، فقيل له: إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا واللّه لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، ونقيم القينات والمعازف ببدر، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا، وإن محمدًا لم يصب العير، وإنا قد أعضضناه، فمضى بهم إلى بدر- وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة- فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن اللّه وعدكم إحدى الطائفتين: إمّا العير، وإمّا قريشا، فاستشار النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحابه وقال: ما تقولون، إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أن النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغير وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ثم ردّد عليهم فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا يا رسول اللّه، عليك بالعير ودع العدوّ، فقام عند غضب النبي صلى اللّه عليه وسلم أبو بكر وعمر رضى اللّه عنهما فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض. فو اللّه لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول اللّه، امض لما أمرك اللّه، فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنما معكما مقاتلون، ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال: أشيروا علىّ أيها الناس وهو يريد الأنصار، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا، فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة، فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول اللّه؟
قال: أجل، قال: قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول اللّه لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعلّ اللّه يريك منا ما تقرّبه عينك، فسر بنا على بركة اللّه، ففرح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبسطه قول سعد، ثم قال: سيروا على بركة اللّه وأبشروا، فإنّ اللّه وعدني إحدى الطائفتين، واللّه لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم. وروى أنه قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس وهو في وثاقه: لا يصلح فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: لم؟
قال: لأنّ اللّه وعدك إحدى الطائفتين. وقد أعطاك ما وعدك، وكانت الكراهة من بعضهم لقوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ}.

.[سورة الأنفال آية 6]:

{يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)}
والحق الذي جادلوا فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: تلقى النفير، لإيثارهم عليه تلقى العير {بَعْدَ ما تَبَيَّنَ} بعد إعلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنهم ينصرون. وجدالهم: قولهم ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب؟ وذلك لكراهتهم القتال. ثم شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة، بحال من يعتل إلى القتل ويساق على الصغار إلى الموت المتيقن، وهو مشاهد لأسبابه، ناظر إليها لا يشك فيها.
وقيل: كان خوفهم لقلة العدد، وأنهم كانوا رجالة. وروى أنه ما كان فيهم إلا فارسان.

.[سورة الأنفال آية 7]:

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7)}
{إِذْ} منصوب بإضمار اذكر. و{أَنَّها لَكُمْ} بدل من إحدى الطائفتين.
والطائفتان: العير والنفير. {غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ} العير، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدّتهم: والشوكة: الحدّة مستعارة من واحدة الشوك. ويقال: شوك القنا لشباها. ومنها قولهم: شائك السلاح، أي تتمنون أن تكون لكم العير، لأنها الطائفة التي لا حدّة لها ولا شدّة، ولا تريدون الطائفة الأخرى {أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} أن يثبته ويعليه بِكَلِماتِهِ بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر. والدابر الآخر: فاعل من دبر. إذا أدبر. ومنه دابرة الطائر. وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعنى أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم واللّه عز وجلّ يريد معالى الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلوّ الكلمة، والفوز في الدارين. وشتان ما بين المرادين. ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوّتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزّكم وأذلهم، وحصل لكم مالا تعارض أدناه العير وما فيها. وقرئ: {بكلمته}، على التوحيد.

.[سورة الأنفال آية 8]:

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}
فإن قلت: بم يتعلق قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ}؟ قلت: بمحذوف تقديره: ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، ما فعله إلا لهما. وهو إثبات الإسلام وإظهاره، وإبطال الكفر ومحقه.
فإن قلت: أليس هذا تكريرًا؟ قلت: لا، لأنّ المعنيين متباينان، وذلك أنّ الأوّل تمييز بين الإرادتين وهذا بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض. ويجب أن يقدّر المحذوف متأخرًا حتى يفيد معنى الاختصاص فينطبق عليه المعنى: وقيل: قد تعلق بيقطع.

.[سورة الأنفال آية 9]:

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}
فإن قلت: بم يتعلق {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ}؟ قلت: هو بدل من {إِذْ يَعِدُكُمُ} وقيل بقوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ} واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لابد من القتال، طفقوا يدعون اللّه ويقولون: أي ربنا انصرنا على عدوّك، يا غياث المستغيثين أغثنا. وعن عمر رضى اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة، فاستقبل القبلة ومدّ يديه يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض- فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر رضى اللّه عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال: يا نبى اللّه كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
{أَنِّي مُمِدُّكُمْ} أصله بأنى ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه استجاب فنصب محله. وعن أبى عمرو أنه قرأ {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} بالكسر، على ارادة القول، أو على إجراء استجاب مجرى قال لأنّ الاستجابة من القول. فإن قلت: هل قاتلت الملائكة يوم بدر؟ قلت: اختلف فيه، فقيل: نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علىّ بن أبى طالب في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم. فقالت. وقيل: قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين.
وعن أبى جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ قال: من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم. وروى أنّ رجلا من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين: إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك قد خر مستلقيا وشقّ وجهه، فحدث الأنصارى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: صدقت ذاك من مدد السماء. وعن أبى داود المازني: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي، وقيل لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقرئ {مُرْدِفِينَ} بكسر الدال وفتحها، من قولك: ردفه إذا تبعه. ومنه قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} بمعنى ردفكم. وأردفته إياه: إذا أتبعته. ويقال: أردفته، كقولك أتبعته، إذا جئت بعده، فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى متبعين، أو متبعين، فإن كان بمعنى متبعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضًا، أو متبعين بعضهم لبعض، أو بمعنى: متبعين إياهم المؤمنين، أي يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم، أو متبعين لهم يشيعونهم ويقدمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم، ليكونوا على أعينهم وحفظهم. أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة: ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران: {بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ}
{بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} ومن قرأ {مُرْدِفِينَ} بالفتح فهو بمعنى متبعين أو متبعين. وقرئ: {مردّفين}، بكسر الراء وضمها وتشديد الدال: وأصله مرتدفين، أي مترادفين أو متبعين، من ارتدفه، فأدغمت تاء الافتعال في الدال، فالتقى ساكنان فحرّكت الراء بالكسر على الأصل، أو على إتباع الدال. وبالضم على إتباع الميم. وعن السدى: بآلاف من الملائكة. على الجمع ليوافق ما في سورة آل عمران.
فإن قلت: فبم يعتذر لمن قرأ على التوحيد ولم يفسر المردفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين، والمردفين بارتدافهم غيرهم؟ قلت: بأنّ المراد بالألف من قاتل منهم. أو الوجوه منهم الذين من سواهم أتباع لهم.

.[سورة الأنفال آية 10]:

{وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في {وَما جَعَلَهُ}؟ قلت: إلى قوله: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} لأن المعنى: قاستجاب لكم بإمدادكم. فإن قلت: ففيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى قوله: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} لأنه مفعول القول المضمر فهو في معنى القول. ويجوز أن يرجع إلى الإمداد الذي يدل عليه ممدّكم {إِلَّا بُشْرى} إلا بشارة لكم بالنصر، كالسكينة لبنى إسرائيل، يعنى أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم وذلتكم، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر، وتسكينًا منكم، وربطا على قلوبكم {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يريد ولا تحسبوا النصر من الملائكة، فإن الناصر هو اللّه لكم وللملائكة. أو وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند اللّه، والمنصور من نصره اللّه.