فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَمَّا رَمْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا عَادِيًّا لِإِصَابَتِهِمْ وَهَزِيمَتِهِمْ، لَا مُشَاهَدًا كَضَرْبِ أَصْحَابِهِ لِأَعْنَاقِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا غَيْرَ مُشَاهَدٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ لَا يُوهِمُ التَّنَاقُضَ لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ السَّبَبِيَّةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُ الرَّمْيِ بِأَنْ يُقَالَ: «وَمَا رَمَيْتَ وُجُوهَهُمْ» إِذْ لَا شُبْهَةَ هُنَا فِي عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا اسْتِقْلَالًا بِكَسْبِهِ الْعَادِيِّ، وَأَمَّا هُنَالِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ كَسْبِهِمُ الِاسْتِقْلَالِيِّ. وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ لَوْلَا تَأْيِيدُ اللهِ تَعَالَى وَنَصْرُهُ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانَهُ لَمَا وَصَلَ كَسْبُهُمُ الْمَحْضُ إِلَى هَذَا الْقَتْلِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَانَ مِنْ خَوْفِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لِلْقِتَالِ وَمُجَادَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [8: 6] فَلَوْ ظَلُّوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ لَكَانَ مُقْتَضَى الْأَسْبَابِ أَنْ يَمْحَقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَحْقًا.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ فِعْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَتْلِ وَفِعْلِهِ فِي الرَّمْيِ. فَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْخِيرِهِ تَعَالَى لَهُمْ أَسْبَابَ الْقَتْلِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي جَمِيعِ كَسْبِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ كَوْنِهَا لَا تَسْتَقِلُّ فِي حُصُولِ غَايَاتِهَا إِلَّا بِفِعْلِ اللهِ وَتَسْخِيرِهِ لَهُمْ وَلِلْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَصِلُ إِلَيْهَا كَسْبُهُمْ عَادَةً، كَقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [56: 63- 65] إِلَخْ. فَالْإِنْسَانُ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَيُلْقِي فِيهَا الْبَذْرَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِنْزَالَ الْمَطَرِ، وَلَا إِنْبَاتَ الْحَبِّ وَتَغْذِيَتَهُ بِالتُّرَابِ الْمُخْتَلِفِ الْعَنَاصِرِ، وَلَا دَفْعَ الْجَوَائِحِ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَقِلُّ إِيجَادُ الزَّرْعِ وَبُلُوغُ ثَمَرَتِهِ وَصَلَاحِهَا بِكَسْبِهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مِنْ فِعْلِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ بِدُونِ كَسْبٍ عَادِيٍّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْثِيرِهِ، فَالرَّمْيُ مِنْهُ كَانَ صُورِيًّا لِتَظْهَرَ الْآيَةُ عَلَى يَدِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، فَمَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ أَخِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إِلْقَائِهِ الْعَصَا {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [20: 20] فَخَافَ مِنْهَا أَوَّلًا كَمَا وَرَدَ فِي سُورَتَيْ طه وَالنَّمْلِ.
هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُ الْكَلَامِ بِلَا تَكَلُّفٍ، وَلَا حَمْلٍ عَلَى الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ الْحَادِثَةِ مِنْ كَلَامِيَّةٍ وَتَصَوُّفِيَّةٍ وَغَيْرِهَا، فَالْجَبْرِيُّ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى سَلْبِ الِاخْتِيَارِ، وَكَوْنِ الْإِنْسَانِ كَالرِّيشَةِ فِي الْهَوَاءِ، وَالِاتِّحَادِيُّ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى وَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَكَوْنِ الْعَبْدِ هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ، وَالْأَشْعَرِيُّ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ كَسْبِ الْعَبْدِ وَخَلْقِ الرَّبِّ بِإِسْنَادِ الرَّمْيِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَى الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهُوَ يُغْنِي عَنْ إِسْنَادِ الْقَتْلِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَوْلَى، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ الْمَذَاهِبِ وَقَبْلَهَا، غَنِيٌّ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ عَنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [30: 32] وَكَلَامُ اللهِ فَوْقَ مَا يَظُنُّونَ.
وَأَمَّا مَوْقِعُ الْفَاءِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ عَلَيْهَا نَزَلَتْ قَبْلَ الْقِتَالِ تَحْرِيضًا عَلَيْهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هِيَ لِمُجَرَّدِ رَبْطِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ نُزُولِهَا بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ، وَوَصْلِهَا بِمَا قَبْلَهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النَّهْيِ عَنِ الْهَزِيمَةِ، وَأَوْلَى مِنْهُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى نُزُولِ مَا قَبْلَهَا فِي ضِمْنِ السُّورَةِ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ.
وَأَمَّا قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ مُسْتَفَادٍ مِمَّا قَبْلَهُ، أَيْ أَنَّهُ فَعَلَ مَا ذَكَرَ لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِ، وَتَأْيِيدِ رَسُولِهِ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا بِالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَحُسْنِ السُّمْعَةِ. وَالْبَلَاءُ: الِاخْتِبَارُ بِالْحَسَنِ أَوْ بِالسَّيِّئِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [7: 168] وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِالتَّفْصِيلِ. وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَهُوَ تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْبَلَاءِ الْحَسَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِمَا كَانَ مِنِ اسْتِغَاثَةِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الرَّسُولِ رَبَّهِمْ وَدُعَائِهِمْ إِيَّاهُ وَحْدَهُ، عَلِيمٌ بِصِدْقِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اسْتِجَابَتِهِ لَهُمْ مِنْ تَأْيِيدِ الْحَقِّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَخِذْلَانِ الشِّرْكِ، كَمَا أَنَّهُ سَمِيعٌ لِكُلِّ نِدَاءٍ وَكَلَامٍ، عَلِيمٌ بِالنِّيَّاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ، وَالْعَوَاقِبِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهُ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ أَهْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَجَزَائِهِمَا عَلَيْهِمَا قَالَ: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ أَيْ: الْأَمْرُ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَفَائِدَتُهُمْ مِمَّا تَقَدَّمَ هُوَ ذَلِكُمُ الَّذِي سَمِعْتُمْ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ تَعْلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ، أَيْ مُضْعِفُ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمُحَاوَلَتِهِمُ الْقَضَاءَ عَلَى دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِصْلَاحِ قَبْلَ أَنْ تَقْوَى وَتَشْتَدَّ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ (مُوهِّنٌ) بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ (كَيْدَ) وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَهَنِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالتَّخْفِيفِ وَالْإِضَافَةِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالنَّصْبِ.
وَقَدْ صَرَّحَ التَّنْزِيلُ بِجَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ فِي تَعْلِيلٍ آخَرَ فِي عَاقِبَةِ الْحَرْبِ، قَالَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [3: 140- 141].
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ، ذَكَرَ خِذْلَانَهُمْ وَإِضْعَافَ كَيْدِهِمْ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْهُ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى اسْتِنْصَارِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَعُرْوَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: اللهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَقْطَعَ لِلرَّحِمِ، وَأَتَى بِمَا لَا يُعْرَفُ فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ. فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْتَاحًا مِنْهُ رَوَاهُ عَنْهُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَدْرٍ أَخَذُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَنْصَرُوا اللهَ وَقَالُوا: اللهُمَّ انْصُرْ أَعْلَى الْجُنْدَيْنِ، وَأَكْرَمَ الْفِئَتَيْنِ، وَخَيْرَ الْقَبِيلَتَيْنِ، فَقَالَ اللهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} يَقُولُ: قَدْ نَصَرْتُ مَا قُلْتُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ حِينَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ: اللهُمَّ رَبَّ دِينِنَا الْقَدِيمِ وَدِينِ مُحَمَّدٍ الْحَدِيثِ، فَأَيُّ الدِّينَيْنِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ، وَأَرْضَى عِنْدَكَ فَانْصُرْ أَهْلَهُ الْيَوْمَ فَالْفَتْحُ هُوَ نَصْرُ النَّبِيِّ وَدِينِهِ وَأَتْبَاعِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ مَغْرُورًا بِشِرْكِهِ وَاثِقًا بِدِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ أَكَابِرِ مُجْرِمِي مَكَّةَ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ كُفْرُهُمْ عَنْ كِبْرٍ وَعُلُوٍّ وَحَسَدٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أَيْ: إِنْ تَنْتَهُوا عَنْ عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِتَالِهِ فَالِانْتِهَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ لَا تَكُونُوا إِلَّا مَغْلُوبِينَ مَخْذُولِينَ كَقَوْلِهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [3: 12] وَالْخَيْرِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعُدْوَانِ وَالْقِتَالِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِانْتِهَاءُ عَنِ الشِّرْكِ فَتَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَكَمَالِهَا وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ: إِنْ تَعُودُوا إِلَى مُقَاتَلَتِهِ نَعُدْ لِمَا رَأَيْتُمْ مِنَ الْفَتْحِ لَهُ عَلَيْكُمْ حَتَّى يَجِيءَ الْفَتْحُ الْأَعْظَمُ الَّذِي يَذِلُّ فِيهِ شِرْكُكُمْ، وَتُدُولُ الدَّوْلَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُمْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ: وَلَنْ تَدْفَعَ عَنْكُمْ جَمَاعَتُكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا مِنْ بَأْسِ اللهِ وَبَطْشِهِ وَلَوْ كَثُرَتْ عَدَدًا فَالْكَثْرَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنَّصْرِ، إِلَّا إِذَا تَسَاوَتْ مَعَ الْقِلَّةِ فِي الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَالثِّقَةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَعُونَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ فَلَا تَضُرُّهُمْ قِلَّتُهُمْ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (وَأَنَّ) وَحَفْصٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ أَيْ: وَلِأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ الْأَمْرُ مَا ذَكَرَهُ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَسَابِقَهِ وَلَاحِقِهِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا رَبَّكُمْ وَتَسْتَغِيثُوهُ عِنْدَ شُعُورِكُمْ بِالضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنِ التَّكَاسُلِ فِي الْقِتَالِ وَالرَّغْبَةِ عَمَّا يَأْمُرُ بِهِ الرَّسُولُ، وَمُجَادَلَتِهِ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَإِنْ تَعُودُوا إِلَيْهِ نَعُدْ عَلَيْكُمْ بِالْإِنْكَارِ أَوْ تَهْيِيجِ الْعَدُوِّ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ كَثْرَتُكُمْ إِذَا لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَكُمْ بِالنَّصْرِ، فَهَا نَحْنُ أُولَاءِ قَدْ نَصَرْنَاكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ. هَذَا أَقْوَى مِنْ كُلِّ مَا رَأَيْنَاهُ فِي تَصْوِيرِ الْمَعْنَى، فَأَكْثَرُ مَا قَالُوهُ ظَاهِرُ التَّكَلُّفِ، وَلَوْلَا السِّيَاقُ لَكَانَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَرْجَحَ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير. أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم اقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فاحنه الغداة. فكان ذلك استفتاحًا منه، فنزلت: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} الآية.
أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما {إن تستفتحوا} يعني المشركين، إن تستنصروا فقد جاءكم المدد.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية رضي الله عنه قال: قال أبو جهل يوم بدر: اللهم انصر إحدى الفئتين، وأفضل الفئتين، وخير الفئتين. فنزلت: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}.
وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنهم فئتهم من الله شيئًا}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} قال: كفار قريش في قولهم: ربنا افتح بيننا وبين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ففتح بينهم يوم بدر.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء في يوم بدر.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه في قوله: {وإن تنتهوا} قال: عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم {وإن تعودوا نعد} قال: إن تستفتحوا الثانية افتح لمحمد صلى الله عليه وسلم {وأن الله مع المؤمنين} قال: مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه {وإن تعودوا نعد} يقول: نعد لكم بالأسر والقتل. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ولَن تُغْنِيَ}
قرأ الجمهورُ بالتَّاءِ من فوق، لتأنيث الفئة.
وقرئ {ولن يُغْنِيَ} بالياء من تحت لأن تأنيثه مجازي، وللفصل أيضًا: {ولو كَثُرَتْ} هذه الجملة الامتناعية حالية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك.
قوله: {وَلَن تُغْنِيَ} قرأ نافعٌ، ابن عامر، وحفصٌ عن عاصم، بالفتح.
والباقون: بالكسر، فالفتحُ من أوجه:
أحدها: أنه على لام العلَّة تقديره: ولأنَّ الله مع المؤمنين كان كيت وكيت.
والثَّاني: أن التقدير: ولأنَّ اللَّهَ مع المؤمنين امتنع عنادهم.
والثالث: إنه خبرُ مبتدأ محذوف أي: والأمر أنَّ الله مع المؤمنين، وهذا الوجهُ الأخيرُ يقربُ في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف.
اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {إن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الفَتْحُ}.
قال المشركون- يوم بدر- اللهم انصرْ أَحَبَّ الفِئتين إليك، فاستجابَ دعاءَهم ونصر أحبَّ الفئتين إليه.. وهم المسلمون، فسألوا بألسنتهم هلاكَ أنفسِهم، وذلك لانجرارهم في مغاليط ما يُعَلِّقون من ظنونهم، فهم توهَّموا استحقاق القربة، وكانوا في عين الفرقة وحُكْمِ الشِّقْوَةِ، موسومين باستيجاب اللعنة بدعائهم، والوقوع في شقائهم؛ فاختيارهم مُنُوا ببَوارِهم.
ويقال ظنوا أنهم من أهل الرحمة فَزَلُّوا، فلما كُشِفَ السترُ خابوا وذَلُّوا، فعند ذلك علموا أنهم زاغوا في ظنهم وضلوا.
قوله جلّ ذكره: {وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
فيغفر لكم ما قد سَلَفَ من خلاف محمد صلى الله عليه وسلم.
{فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ليس المراد منه المبالغة؛ لأنه يقال هذا خير لك من هذا إذا كان الثاني ليس في شر، وترك موافقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم- بكل وجهٍ- هو شرٌّ لهم، ولكنه أراد به في الأحوال الدنيوية، وعلى موجب ظنِّهم.
قوله جلّ ذكره: {وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ}.
يعني إنْ عُدْتُم إلى الجميل من السيرة عُدْنا عليكم بجميل المِنَّة، وإنْ عاودتم الإقدام على الشَّرِّ أَعَدْنا عليكم ما أذقناكم من الضُّرِّ.
قوله جلّ ذكره: {وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ}.
مَنْ غَلَبَتْهُ قدْرُة الأحد لم تغْنِ عنه كثرة العدد. اهـ.