فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}.
بعد أن تحدث الحق تبارك وتعالى عن الجنة.. وأعطانا مثلا يقرب لنا صور النعيم الهائلة التي سينعم بها الإنسان في الجنة.. أراد أن يوضح لنا المنهج الإيماني الذي يجب أن يسلكه كل مؤمن.. ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف كافرا بعبادته.. ولكن الإنسان الذي ارتضى دخول الإيمان بالله جل جلاله قد دخل في عقد إيماني مع الله تبارك وتعالى.. ومادام قد دخل العقد الإيماني فأنه يتلقى عن الله منهجه في افعل ولا تفعل.. وهذا المنهج عليه أن يطبقه دون أن يتساءل عن الحكمة في كل شيء.. ذلك أن الإيمان هو إيمان بالغيب.. فإذا كان الشيء نفسه غائبا عنا فكيف نريد أن نعرف حكمته.
إن حكمة أي تكليف إيماني هي: أنه صادر من الله سبحانه وتعالى، ومادام صادرا من الله فهو لم يصدر من مُساوٍ لك كي تناقشه، ولكنه صادر من إله وجبت عليك له الطاعة لأنه إله وأنت له عابد.. فيكفي أن الله سبحانه وتعالى قال افعل حتى نفعل.. ويكفي أنه قال لا تفعل حتى لا نفعل.
الحكمة غائبة عنك.. ولكن صدور الأمر من الله هو الحكمة، وهو الموجب للطاعة.. فأنا أصلي لأن الله فرض الصلاة، ولا أصلي كنوع من الرياضة.. وأنا أتوضأ لأن الله تبارك وتعالى أمرنا بالوضوء قبل الصلاة.. ولكنني لا أتوضأ كنوع من النظافة.. وأنا أصوم لأن الله أمرني بالصوم.. ولا أصوم حتى أشعر بجوع الفقير.. لأنه لو كانت الصلاة رياضة لاستبدلناها بالرياضة في الملاعب.. ولو أن الوضوء كان نظافة لقمنا بالاستحمام قبل كل صلاة.. ولو أن الصوم كان لنشعر بالجوع ما وجب على الفقير أن يصوم لأنه يعرف معنى الجوع.
إذن فكل تكاليف من الله نفعلها لأن الله شرعها ولا نفعلها لأي شيء آخر.. وكل ما يأتينا من الله من قرآن نستقبله على أنه كلام الله ولا نستقبله بأي صيغة أخرى.. ذلك هو الإيمان الذي يريد الله منا أن نتمسك به، وأن يكون هو سلوك حياتنا.
تلك مقدمة كان لابد منها إذا أردنا أن نعرف معنى الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وعندما ضرب الله مثلا بالبعوضة.. استقبله الكفار بالمعنى الدنيوي دون أن يفطنوا للمعنى الحقيقي.. قالوا كيف يضرب الله مثلا بالبعوضة ذلك المخلوق الضعيف.. الذي يكفي أن تضربه بأي شيء أو بكفك فيموت؟ لماذا لم يضرب الله تبارك وتعالى مثلا بالفيل الذي هو ضخم الجثة شديدة القوة.
أو بالأسد الذي هو أقوى من الإنسان وضرب لنا مثلا بالبعوضة فقالوا: {ماذا أراد الله بهذا مثلا}. ولم يفطنوا إلى أن هذه البعوضة دقيقة الحجم خلقها معجزة.. لأن في هذا الحجم الدقيق وضع الله سبحانه وتعالى كل الأجهزة اللازمة لها في حياتها.. فلها عينان ولها خرطوم دقيق جدا ولكنه يستطيع أن يخرق جلد الإنسان.. ويخرج الأوعية الدموية التي تحت الجلد ليمتص دم الإنسان.
والبعوضة لها أرجل ولها أجنحة ولها دورة تناسلية ولها كل ما يلزم لحياتها.. كل هذا في هذا الحجم الدقيق.. كلما دق الشيء احتاج إلى دقة خلق أكبر.
ونحن نشاهد في حياتنا البشرية أنه مثلا عندما اخترع الإنسان الساعة.. كان حجمها ضخما لدرجة أنها تحتاج إلى مكان كبير.. وكلما تقدمت الحضارة وارتقى الإنسان في صناعته وحضارته وتقدمه، أصبح الحجم دقيقا وصغيرا، وهكذا أخذت صناعة الساعات تدق.. حتى أصبح من الممكن صنع ساعة في حجم الخاتم أو أقل.. وعندما بدأ اختراع المذياع أو الراديو كان حجمه كبيرا.. والآن أصبح في غاية الدقة لدرجة أنك تستطيع أن تضعه في جيبك أو أقل من ذلك.. وفي كل الصناعات عندما ترتقي.. يصغر حجمها لأن ذلك محتاج إلى صناعة ماهر وإلى تقدم علمي.
وهكذا حين ضرب الله مثلا بالبعوضة وما فوقها.. أي بما هو أقل منها حجما.. فإنه تبارك وتعالى أراد أن يلفتنا إلى دقة الخلق.. فكلما لطف الشيء وصغر حجمه احتاج إلى دقة الخلق.. ولكن الكفار لم يأخذوا المعنى على هذا النحو وإنما أخذوه بالمعنى الدنيوي البسيط الذي لا يمثل الحقيقة.
فالله سبحانه وتعالى حينما ضرب هذا المثل.. استقبله المؤمنون بأنه كلام الله.. واستقبلوه بمنطق الإيمان بالله فصدقوا به سواء فهموه أم لم يفهموه.. لأن المؤمن يصدق كل ما يجيء من عند الله سواء عرف الحكمة أو لم يعلمها.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 52- 53].
إن كل مصدق بالقرآن لا يطلب تأويله أو الحكمة في آياته.. ولذلك قال الكافرون: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} ويأتي رد الحق تبارك وتعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِين}. ومن هم الفاسقون؟ هم الذين ينقضون عهد الله.. أول شيء في الفسق أن ينقض الفاسق عهده.
ويقال فسقت الرطبة أي بعدت القشرة عن الثمر.. فعندما تكون الثمرة أو البلحة حمراء تكون القشرة ملتصقة بالثمرة بحيث لا تستطيع أن تنزعها منها.. فإذا أصبحت الثمرة أو البلحة رطبا تسود قشرتها وتبتعد عن الثمرة بحيث تستطيع أن تنزعها عنها بسهولة.. هذا هو الفاسق المبتعد عن منهج الله.. ينسلخ عنه بسهولة ويسر، لأنه غير ملتصق به.. وعندما تبتعد عن منهج الله فإنك لا ترتبط بأوامره ونواهيه.. فلا تؤدي الصلاة مثلا وتفعل ما نهى الله عنه لأنك فسقت عن دينه.. والذي أوجد الفسق هو أن الإنسان خلق مختارا.. قادرا على أن يفعل أو لا يفعل.. وبهذا الاختيار أفسد الإنسان نظام الكون.. فكل شيء ليس للإنسان اختيار فيه تراه يؤدي مهمته بدقة عالية كالشمس والقمر والنجوم والأرض.. كلها تتبع نظاما دقيقا لا يختل لأنها مقهورة.. ولو أن الإنسان لم يخلق مختارا.. لكان من المستحيل أن يفسق.. وأن يبتعد عن منهج الله ويفسد في الأرض.. ولكن هذا الاختيار هو أساس الفساد كله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:

.فَصْلٌ في معنى الحياء واشتقاقه:

الحياء: تَغَيَّرَ وانكسارٌ يعتري الإنسانَ من خوفِ ما يُعَابُ بِهِ ويُذَم، واشتقاقه من الحياة، ومعناه على ما قال الزمخشري: نقصت حياته، واعتلت مجازًا، كما يُقَالُ: نَسِيَ وخَشِيَ، وشظي القوسُ: إذا اعتلت هذه الأعضاء، جُعِلَ الحييُّ لما يعتريه من الانكسار، والتَّغَيُّرِ منتكس القوة منتقص الحياة كما قالوا: فلان هلك من كذا حياءً، ومات حياءً، وذاب حياءً، يعني بقوله: نَسِيَ وخَشِيَ وشظي أي: أصيبَ نَسَاه، وهو عرق وحَشَاه، وهو ما احتوى عليه البَطْنُ، وشظاهُ وهو عَظْم في الوَرِك، واستعماله هُنَا في حَقِّ الله- تعالى- مَجَازٌ عن التَّرْكِ.
وقيل: مجاز عن الخِشْيَةِ؛ لأنَّها أيْضًا من ثمراته، وَرَجَّحَهُ الطَّبريُّ، وجعله الزمخشريُّ من باب المُقَابلةِ، يعني أنَّ الكُفَّارَ لَمَّا قالوا: أَمَا يَسْتَحي رَبُّ محمد أن يضرب المثَلَ بالمُحْقّرَات، قُوبِلَ قولهم ذلك بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا} ونظيره قول أبي تمَّام: الكامل:
مَنْ مُبْلِغٌ أَفْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّهَا ** أَنِّي بَنَيْتُ الجَارَ قَبْلَ لمَنْزِلِ

لو لم يذكر بناء الدَّارِ لم يصحّ بناء الجار.
وقيل: معنى لا يستحيي، لا يمتنع، وأصْلُ الاستحياء الانقباضُ عن الشَّيء، والامتناعُ منه؛ خوفًا من مُواقعة القبيح، وهذا محالٌ على الله تعالى، وفي صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله إنَّ اللهَ لا يَسْتَحي من الحَقِّ المعنى لا يأمر بالحَيَاء فيه، ولا يمتنع من ذكره.
قال ابن الخطيب: القانون في أمثال هذه الأشياء، أنَّ كُلَّ صفةٍ ثبتت للعبدِ مما يختص بالأجسام، فإذا وصف الله بذلك، فلذلك محمولٌ على نهايات الأعراض، لا على بدايات الأعراض، مثاله: حالةٌ تَحْصُلُ للإنسان، ولكن هل لها مبدأ ومنتهى، أمَّا المبدأ فهو التغيُّر الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن يُنْسبَ إليه القبيح، وأمَّا النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل، فإذا ورد الحياءُ في حقِّ الله تعالى، فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل تركُ الفعلِ الذي هو منتهاه وغايته، وكذلك الغضبُ له مقدمةٌ وهو غليان دم القَلْبِ وشهوة الانتقام وله غاية، وهي إنزال العقاب بالمغضوب عليه، فإذا وصفنا الله- تعالى- بالغَضَبِ، فليس المراد ذلك المبدأ، يعني شهوة الانتقام، وغليان دم القَلْبِ، بل المرادُ تلك النّهاية، وهي إنزال العقاب، فهذا هو القانون الكُلِّ في هذا الباب.

.فَصْلٌ في إعراب الآية:

قوله: {لا يَستَحيي} جملة في محلِّ الرفع خبرًا ل {أن} واستفعل هنا للإغناء عن الثُّلاثي المجرّد.
وقال الزمخشري: إنَّه مُوَافق له أي: قد ورد حَيي، واستَحْيى بمعنى واحد، والمشهور: اسْتَحْيَى يَسْتَحْيي فهو مستحيٍ ومُسْتَحْيىً منه من غير حَذْف.
قال القرطبي: و{يستحيي} أصله يَسْتَحْييُ عينه ولامه حرفا علة أعلّت اللام منه بأن استثقلت الضمةُ على الياء فسكنت، والجمعُ مستحيون ومستحيين، وقد جاء استحى يستحي فهو مستح مثل: اسْتَقَى يَسْتَقِي.
وقرأ به ابن محيصن.
ويروى عن ابن كثير، وهي لغة تميم وبكر بن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضَّمة على الثانية، فسكنت، فحذف إحداهما للالتقاء، والجمعُ مستحون ومستحين، قاله الجوهري.
ونقل بعضهم أن المحذوف هنا مختلفٌ فيه؛ فقيل: عينُ الكلمة، فوزنُه يَسْتَفِل.
وقيل: لامُه، فوزنه يَسْتَفِع، ثُمَّ نُقِلت حركةُ اللاَّم على القول الأوّل، وحركةُ العَيْن على القول الثاني إلى الفاء، وهي الحاء؛ ومن الحذف قولُه: الطويل:
ألا تَسْتَحِي مِنَّا المُلُوكُ وَتَتَّقِي ** مَحَارِمَنا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ

وقال آخر: الطويل:
إذا ما اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ ** كَرَعْنَ بِسبْتٍ في إِنَاءٍ مِنَ الوَرْدِ

واستحيي يتعدَّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جرّ تقول: استحييتُه وعليه:
إذا ما استحين الماء

واستحييت منه؛ وعليه:
أَلاّ تستحي مِنَّا الملوك

فيحتمل أن يكون قد تعدَّى في هذه الآية إلى أن يضرب بنفسه، فيكون في محل نصب قولًا واحدًا، ويحتمل أن يكون تَعَدَّى إليه بحرف المحذوف، وحينئذٍ يجري الخلافُ المتقدّم في قوله: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}.
و{يَضْرِب} معناه: يُبَيِّنُ فيتعدَّى لواحدٍ.
وقيل: معناه التصييرُ، فيتعدّى لاثنين نحو: ضَرَبْتُ الطِّينَ لَبِنًا.
وقال بعضهم: لا يتعدَّى لاثنين إلاَّ مع المثل خاصة، فعلى القول الأوّلِ يكونُ {مَثَلًا} مفعولًا و{ما} زائدة.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: معاذ الله أنْ يكون في القرآن زيادة.
وقال ابن الخطيب: والأصح قول أبي مُسْلِمِ؛ لأن الله- تعالى- وصف القرآن بكونه: هدى وبَيَانًا، وكونه لَغْوًا ينافي ذلك، فعلى هذا يكون {ما} صفة للنكرة قبلها، لتزداد النكرة اتساعًا.
ونظيره قولهم: لأَمْرٍ مَّا جَدَعَ قَصيرٌ أَنْفُهُ وقولُ امرئ القيس: المديد.
وَحَدِيثُ الرَّكبِ يَوْمَ هُنَا ** وَحَدِيثٌ مَّا عَلَى قِصَرِهْ

وقال أبو البَقَاءِ: وقيل: {ما} نَكِرَةٌ موصوفةٌ، ولم يجعل بعوضة صفتها، بل جعلها بدلًا منها، وفيه نظرٌ؛ إذ يحتاج أن يُقدِّر صفةً محذوفة ولا ضرورة لذلك، فكان الأولى أن يجعل بعوضةً صفتها بمعنى أنَّهُ وصفها بالجنس المُنكَّرِ لإبهامِه، فهي في معنى قليل، وإليه ذهب الفرّاء والزَّجَّاجُ وثَعْلَبٌ، وتكون {ما} وصفتها حينئذٍ بدلًا من {مَثَلًا} و{بعوضة} بدلًا من {ما} أو عطف بيان لها، إن قيل: {ما} صفة ل {مثلًا} أو نعتٌ ل {ما} إن قيل: إنَّها بدلٌ من {مثلًا} كما تقدَّم في قول الفَرَّاء، وبدلٌ من {مثلًا} أو نعتٌ ل {ما} إن قيل: إنَّها بدلٌ من {مثلًا} كما تقدَّم في قول الفَرَّاء، وبدلٌ من {مثلًا} أو عطف بيان له إن قيل: إن {ما} زائدة.
وقيل: {بعوضة} هو المفعول، و{مثلًا} نُصِبَ على الحالِ قُدِّمَ على النكرةِ.
وقيل: نُصِبَ على إسقاط الخافض، التقدير: ما بين بعوضةٍ، فلمَّا حُذِفَتْ بين أعربت {بعوضة} بإعرابها، وتكون الفاء في قوله: {فما فوقها} بمعنى إلى، أي: إلى ما فوقها، ويعزى هذا للكسائي والفرّاء وغيرهم من الكوفيين؛ وأنشدوا: البسيط:
يَا أَحْسَنَ النَّاسِ مَا قَرْنًا إلَى قَدَمٍ ** وَلاَ حِبَالَ مُحِبٍّ وَاصِلٍ تَصِلُ

أي: ما بين قَرْنٍ.
وَحَكَوْا: له عشرون ما ناقةً فَجَمَلًا، وعلى القول الثَّاني يكونُ {مثلًا} مفعول أوَّلَ، و{ما} تحتمل الوجهين المتقدمين، و{بعوضةً} مفعولٌ ثانٍ.
وقيل: بعوضةً هي المفعولُ الأولُ، و{مَثَلًا} هو الثَّاني، ولَكِنَّهُ قُدِّم.
وتلخَّص مما تقدَّم أنَّ في {ما} ثلاثة أوجه:
زائدة، صفة لما قبلَها، نكِرةٌ موصوفةٌ، وأنَّ في {مثلًا} ثلاثة أيضًا:
مفعول أوّل، أو مفعول ثان، أو حالٌ مقدّمة، وأنَّ في {بعوضة} تسعة أوجه، والصوابُ من ذلك كُلُّه أن يكون {ضَرَبَ} متعدِّيًا لواحدٍ بمعنى بَيَّنَ، و{مثلًا} مفعولٌ به، بدليل قوله: {ضُرِبَ مَثَلٌ} و{ما} صفةٌ للنَّكِرة، و{بعوضةً} بدلٌ لا عطف بيان، لأن عطف البيان ممنوع عند جمهور البصريين في النكرات.
وقرأ إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ والضَّحَّاكُ ورؤبة بن العجاج برفع {بعوضةٌ} واتفقوا على أنَّها خبرٌ لمبتدأ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ، فقيل: هو {ما} على أنَّها استفهاميةٌ أي: أيُّ شيء بعوضةٌ، وإليه ذهب الزمخشري ورَجَّحَهُ.
وقيل: المبتدأ مضمرٌ تقديرُه: هو بعوضةٌ، وفي ذلك وجهان:
أحدهما: أن تُجْعَلَ هذه الجملة صلة ل {ما} لكونها بمعنى الذي، ولكنَّه حذف العائد، وإن لم تَطُل الصِّلةُ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلاَّ في أي خاصّة لطولها بالإضافة، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ، أو ضرورة كقراءة:
{تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] وقوله: البسيط:
مَنْ يُعَنْ يِالحَقِّ لاَ يَنْطِقْ بِمَا سَفَهٌ ** وَلاَ يَحِدْ عَنْ سَبِيلِ الحَمْدِ وَالكَرَمِ

أي: الذي هو أحسنُ، وبما هو سَفَهٌ، وتكونُ {ما} على هذا بدلًا من {مثلًا} كأنَّهُ قيل: مثلًا الذي هو بعوضةٌ.
قال النَّحَّاسُ: والحذفُ في {ما} أقبحُ منه في الذي لأن الذي إنّما له وجه واحد، والاسم معه أطول.
والثاني: أن تُجْعَلَ {ما} زائدة، أو صفةً، وتكون هو بعوضةٌ جملة كالمفسِّرة لما انطوى عليه الكلامُ.
ويقال: إنَّ معنى: ضربتُ له مثلًا مَثَّلْتُ له مَثَلًا، وهذه الأبنيةِ على ضربٍ واحدٍ، وعلى مثال واحد ونوعٍ واحد.
والضربُ: النوعُ، والبعوضةُ: واحِدةُ البعوض، وهو معروف، وهو في الأَصْلِ وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع، مأخوذ من البَعْض، وهو القَطْع، وكذلك البَضْع والعَضْب؛ قال: الوافر:
لَنِعْمَ البَيْتُ بَيْتُ أَبِي دِثَارٍ ** إِذَا مَا خَافَ بَعْضُ القَوْمِ بَعْضَا

وقال الجوهري: البعوض: البَقُّ، الواحدة بعوضة، سُميت بذلك لصغرها.
قوله: {فَمَا فَوْقَهَا} قد تقدَّم أنَّ الفاء بمعنى إلى، وهو قولٌ مرجوحٌ جَدًّا، وما في {فَمَا فَوْقَهَا} إن نصبنا {بعوضة} كانت معطوفة عليها موصولةً بمعنى الذي، وصلتُهَا الظَّرفُ، أو موصوفةً وصفتها الظرفُ أيضًا، وإن رفعنا {بعوضةٌ} وجعلنا {ما} الأولى موصولة أو استفهامية، فالثانية معطوفة عليها، لكن في جَعْلِنَا {ما} موصولةً يكون ذلك من عَطْفِ المفردات، وفي جعلنا إيَّاها استفهامية يكون من عَطْفِ الجمل، وإن جعلنا {ما} زائدة، أو صفة لنكرةٍ، و{بعوضةٌ} لهو مضمرًا كانت {ما} معطوفة على بعوضة.