فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ناصر الدين: إن هذا الجواب لما تضمن معنى النه يساغ توكيده، ووجه أن النفي إذا كان مطلوبًا كان في معنى النهي وفي حكمه فيجوز فيه التأكيد كالنهي الصريح، ولا خفاء في أن عدم كونهم بحيث تصيبهم الفتنة مطلوب كما أن عدم كونهم يحطمهم سليمان وجنوده كذلك، وجوز أن تكون الجملة المنفية في موضع النصب صفة لفتنة، واعترض بأن فيه شذوذًا ون النون لا تدخل المنفي في غير القسم، وقد يجاب بأنك قد عرفت أن ابن جني وكذا بعض النحاة جوز ذلك، وقد ارتضاع ابن مالك في التسهيل، نعم ما ذكر كلام الجمهور.
وقال أبو البقاء وغيره: يحتامل أن تكون {لا} ناهية والجملة في موضع الفة أيضًا لكن على إرادة القول كقوله:
حتى إذا جن الظلام واختلط ** جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

لأن المشهور أن الجملة الإنشائية نهيًا كانت أو غيرها لا تقع صفة ونحوها إلا بتقدير القول، وقد صرحوا بأن قولك: مررت برجل أضربه بتقدير مقول فيه أضربه، وليس المقصود بالمقولية الحكاية بل استحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه، ومن الناس من جوز الوصف بذلك باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول، وأن تكون الجملة جواب قسم محذوف أي والله لا تيبن الظالمين خاصة بل تعم، وحينئذ يظهر أمر التأكيد، وأيد ذلك بقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه وزيد بن ثابت وأبيّ وابن مسعود والباقر والربيع وأبو العالية {لتصيبن} فإن الظاهر فيها القسمية، وقيل: إن الأصل لا إلا أن الألف حذفت تخفيفًا كما قالوا: أم والله، وقال بعضهم: أن {لفتاه لا} في القراءة المتواترة هي اللام والألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله:
فأنت من العواتك حين ترمي ** ومن ذم الرجال بمنتزاح

وكلا القولين لا يعول عليه، ويحتمل أن تكون نهيًا مستأنفًا لتقرير الأمر وتأكيده، وهو من باب الكناية لأن الفتنة لا تنهى عن الإصابة إذ لا يتصور الامتثال منها بحال، والمعنى حينئذ لا تتعرضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة و{مِنْ} على تقدير كون {لا} ناهية سواء جعلت الجملة صفة أو مؤكدة للأمر بيانية لا تبعيضية لأنها لو اعتبرت كذلك لكان النهي عن التعرض للظلم مخصوصًا بالظالمين منهم دون غيرهم فغير الظالم لا يكون منهيًا عن التعرض له بمنطوق الآية وذلك شيء لا يراد.
وأما على الوجوه الأخر من كون {لا} نافية لا ناهية سواء كان قوله سبحانه وتعالى: {لاَّ تُصِيبَنَّ} صفة لفتنة كما هو الظاهر أو جواب الأمر أو جواب قسم فهي تبعيضية قطعًا، إذ الآية على هذه التقادير جميعًا مخبرة بأن إصابة الفتنة لا تخص بالظالمين بل تعم غيرهم أيضًا، فلو بين الذين ظلموا بالمخاطبين لأفهمت أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم كلهم ظالموا وحاشاهم، ثم لا يخفى أن الخطاب إذا كان عامًا لأمة وفسرت الفتنة بإثرار المنكر لا يجيء الإشكال على عموم الإصابة بقوله سبحانه: {وَلاَ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] لأنه كما يجب على مرتكب الذنب الانتهاء عنه يجب على الباقين رفعه وإذا لم يفعلوا كانوا آثمين فيصيبهم ما يصيبهم لأثمهم.
ويدل للوجوب ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيهمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم، وأخرج الترمذي وأبو داود عن قيس بن حازم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب» وروى الترمذي أيضًا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة، وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل.
وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره، وأخرج غير واحد عن الزبير قال: قرآنا هذه الآية زمامًا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبيًا على أن تعرض الفتنة وهي افتراق الكلمة من أشد الظلم لاسيما هؤلاء الأجلاء، ثم فسر بضميرهم دلالة على الاختصا صوأكد بخاصة وكثيرًا ما يشدد الأمر على الخاصة {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لم خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} أي في العدد، والجملة الاسمية للإيذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}
الفتنة: إما بمعنى الذنب كإقرار المنكر، وافتراق الكلمة والتكاسل في الجهاد وإما بمعنى العذاب.
فإن أريد الذنب فإصابته بإصابة أثره، وإن أريد العذاب، فإصابته بنفسه.
و{لاَّ تُصِيبَنَّ} جواب للأمر، أي: إن إصابتكم لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم، بل تشملهم وغيرهم بشؤم صحبتهم، وتعدي رذيلتهم إلى من يخالطهم، كقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} قاله القاشانيّ.
وقد روى الإمام أحمد عن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من قوم يعلم فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون،ثم لم يغيروه، إلا عمهم الله بعقاب.
وروي نحوه عن عدي بن عَميرة وحذيفة والنعمان وعائشة وأم سلمة.
قال الكرخي: ولا يستشكل هذا بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، لأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر، فالواجب على كل من رآه أن يغيره، إذا كان قادرًا على ذلك فإذا سكت فكلهم عصاة. هذا يفعله، وهذا برضاه. وقد جعل تعالى، بحكمته، الراضي بمنزلة العامل، فانتظم في العقوبة. انتهى.
وذكر القسطلاني: أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الْإِنْسَاْن كارهًا له، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده، فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الإعتبار. انتهى.
وعن ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: لمن يخالف أوامر O. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}
عُقب تحريضُ جميعهم على الاستجابة، المستلزمُ تحذيرهم من ضدها بتحذير المستجيبين من إعراض المعرضين، ليعلموا أنهم قد يلحقهم أذى من جراء فعل غيرهم إذا هم لمُ يُقَوّموا عِوَج قومهم، كَيلا يحسبوا أن امتثالهم كاف إذا عصى دهماؤهم، فحذّرهم فتنة تلحقهم فتعم الظالم وغيره.
فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام دب بينهم الاختلاف واضطربت أحوالهم واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة.
وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء، واختلال السير، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس، قال تعالى: {وفتنّاك فتونًا} [طه: 40] وقد تقدم ذكر الفتنة في قوله: {والفتنة أشد من القتل} في سورة [البقرة: 91].
فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا، فإن هم تركوا ذلك، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره، حتى يعم أو يكاد، فيعسر اقتلاعه من النفوس، وذلك الاختلالُ يفسد على الصالحين صلاحَهم وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم، فظهر أن الفتنة إذا حلّت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه والصالح، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل، لأن إضرار حلولها تصيب جميعهم.
وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقابًا من الله تعالى في الدنيا، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم، فإن من سُنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله تعالى في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح: أن النبي قال: مثل القائِم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على مَن فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ مَن فوقنا فإنْ يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعًا وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال: «نعم إذا كثر الخبث ثم يحشْرون على نياتهم».
وحرف {لا} في قوله: {لا تصيبن} نهي بقرينة اتصال مدخولها بنون التوكيد المختصة بالإثبات في الخبر وبالطلب، فالجملة الطلبية: إما نعت ل {فتنة} بتقدير قول محذوف، ومثله وارد في كلام العرب كقول العجاج:
حتى إذا جَن الظلام واختلط ** جاءوا بِمَذْق هَلْ رأيتَ الذئب قط

أي مقول فيه.
وباب حذف القول باب متسع، وقد اقتضاه مقام المبالغة في التحذير هنا والاتقاء من الفتنة فأكد الأمر باتقائها بنهيها هي عن إصابتها إياهم، لأن هذا النهي من أبلغ صيغ النهي بأن يُوجه النهي إلى غير المراد نهيه تنبيهًا له على تحذيره من الأمر المنهي عنه في اللفظ، والمقصودُ تحذير المخاطب بطريق الكناية لأن نهي ذلك المذكور في صيغة النهي يستلزم تحذير المخاطب فكأنّ المتكلم يجمع بين نهيين، ومنه قول العرب: لا أعرِفَنّك تفعل كذا، فإنه في الظاهر المتكلممِ نفسَه عن فعل المخاطب، ومنه قوله تعالى: {لا يفتننكم الشيطان} [الأعراف: 27] ويسمى هذا بالنهي المحول، فلا ضمير في النعت بالجملة الطلبية.
ويجوز أن تكون جملة: {لا تصيبن} نهيًا مستأنفًا تأكيدًا للأمر باتقائها مع زيادة التحذير بشمولها مَن لم يكن من الظالمين.
ولا يصح جعل جملة: {لا تصيبن} جوابًا للأمر في قوله: {واتقوا فتنة} لأنه يمنع منه قوله: {الذين ظلموا منكم خاصة} وإنما كان يجوز لو قال: {لا تصيبنكم} كما يظهر بالتأمل، وقد أبطل في مغني اللبيب جعل (لا) نافية هنا، ورَد على الزمخشري تجويزه ذلك.
و{خاصة} اسم فاعل مؤنث لجريانه على {فتنة} فهو منتصب على الحال من ضمير {تصيبن} وهي حال مفيدة لأنها المقصود من التحذير.
وافتتاح جملة: {واعلموا أن الله شديد العقاب} بفعل الأمر بالعلم للإهتمام لقصد شدة التحذير، كما تقدم آنفًا في قوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلْبه} [الأنفال: 24] والمعنى أنه شديد العقاب لمن يخالف أمره، وذلك يشمل من يخالف الأمر بالاستجابة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}
ويأمرنا الحق عز وجل أن نتقي الفتن من بدئها قبل أن يستفحل شأنها. وأن يتجنب الإنسان المعصية، وأن يضرب المجتمع على يد أي انحراف، فمن يسرق الآن الخزائن قد بدأ أولا بسرقة اليسير، سرق من أخيه أو من البيت ثم من الجيران ثم من البنك. ولو أن كل انحراف عوجل بالضرب على يد من فعله وهو صغير لما كبر المنحرف والانحراف. ولتم وأد الجرائم الكبيرة في مهدها؛ لأن من ارتكب الصغيرة قد عوقب. وإياكم أن يقول أحدكم ما دام مثل هذا الانحراف لا يمسني فليس لي به شأن؛ لأن الذي اجترأ على مثلك، من السهل أن يجترئ عليك. ونحن نعرف جميعًا قصة الثيران الثلاثة؛ الأحمر والأبيض والأسود، فقد هاجم الأسد الثور الأبيض فأكله، ولم يدافع عنه الثور الأحمر أو الأسود. وهاجم الأسد الثور الأحمر بعد ذلك فقال الثور الأسود لنفسه: ما دام الأسد لم يأكلني فلا دخل لي بهذا الأمر. وجاء الأسد إلى الثور الأسود، بينما هو يقترب منه قال: لقد أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض.
إذن فقول الحق تبارك وتعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25].
هذا القول يدلنا على أن اتقاء الفتنة يبدأ من الضرب على أيدي صانع الفتنة وهي في بدايتها. وأضرب هذا المثل ليبقى في الذاكرة دائما؛ إن الأم التي قسمت الأكل بما فيه من لحم وخضر وفاكهة على الأبناء، فأكل أحد الأبناء نصيبه، ثم احتفظت الأم ببقية أنصبة إخوته في الثلاجة، ومن بعد ذلك لاحظت الأم أن الابن الذي أكل نصيبه يأكل نصيب أحد إخوته من خلف ظهرها ودون استئذانها، وهنا يجب أن تؤنبه وتعاقبه على مثل هذا الفعل حتى لا يتمادى في ذلك.