فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} يحتمل كلَّ قطيعة لا يرضى بها الله سبحانه وتعالى كقطع الرحِمِ وعدمِ موالاة المؤمنين والتفرقةِ بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق، وتركِ الجماعات المفروضةِ وسائرِ ما فيه رفضُ خيرٍ أو تعاطي شر، فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد، من الوصلة التي هي المقصودةُ بالذات من كل وصلٍ وفصل، والأمر هو القولُ الطالبُ للفعل مع العلو، وقيل: بالاستعلاء، وبه سمِّي الأمرُ الذي هو واحدُ الأمور تسميةً للمفعول بالمصدر، فإنه مما يؤمَر به كما يقال: له شأنٌ وهو القصدُ والطلب لما أنه أثَرٌ للشأن، وكذا يقال له شيء وهو مصدرُ شاء لما أنه أثرٌ للمشيئة، ومحلُّ {أن يوصل} إما النصبُ على أنه بدلٌ من الموصول أو من ضميره والثاني أولى لفظًا ومعنى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} {مَا} المقطوعة موصولة، أو نكرة موصوفة عند أبي البقاء، وفي المراد بها أقوال:
الأول: رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعوه بالتكذيب والعصيان قاله الحسن وفيه استعمال ما لمن يعقل بل سيد العقلاء بل العقل.
والثاني: القول فإنه تعالى أمر أن يوصل بالعمل فلم يصلوه ولم يعملوا، وظاهر أنها نزلت في المنافقين.
الثالث: التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض الرابع: الرحم والقرابة قاله قتادة، وظاهره أنه أراد كفار قريش وأشباههم الخامس: الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين الله تعالى وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل، ولعل هذا هو الأوجه لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ولا دليل واضح على الخصوص.
ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه، وتضييع حقه بنقض عهده وحق خلقه بتقطيع أرحامهم وليس بالقوي.
والأمر القول الطالب للفعل مع علو عند المعتزلة أو استعلاء عند أبي الحسين، ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون: {مَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 0 11] ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها، وفي موجبها خلاف، وهذا هو الأمر الطلبي.
وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به كما سمي الخطب والحال العظيمة شأنًا.
وهو مصدر في الأصل بمعنى القصد وسمي به ذلك لأن من شأنه أن يقصد.
وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل لأنه يطلق عليه مثل {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 79].
و{أَن يُوصَلَ} يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من {مَا} أو من ضميره، والثاني: أولى للقرب ولأن قطع ما أمر الله تعالى بوصله أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه، واحتمال الرفع بتقدير هو أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله أي لأن أو كراهية أن ليس بشيء كما لا يخفى. اهـ.
قوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ في الأرض}.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ في الأرض} فالأظهر أن يراد به الفساد الذي يتعدى دون ما يقف عليهم.
والأظهر أن المراد منه الصد عن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام لأن تمام الصلاح في الأرض بالطاعة لأن بالتزام الشرائع يلتزم الإنسان كل ما لزمه، ويترك التعدي إلى الغير، ومنه زوال التظالم وفي زواله العدل الذي قامت به السموات والأرض، قال تعالى فيما حكى عن فرعون أنه قال: {إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ في الأرض الفساد} [غافر: 26] ثم إنه سبحانه وتعالى أخبر أن من فعل هذه الأفاعيل خاسر فقال: {أولئك هُمُ الخاسرون} وفي هذا الخسران وجوه: أحدها: أنهم خسروا نعيم الجنة لأنه لا أحد إلا وله في الجنة أهل ومنزل، فإن أطاع الله وجده، وإن عصاه ورثه المؤمنون، فذلك قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خالدون} [المؤمنون: 10 11] وقال: {إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة} [الشورى: 45] وثانيها: أنهم خسروا حسناتهم التي عملوها لأنهم أحبطوها بكفرهم فلم يصل لهم منها خير ولا ثواب، والآية في اليهود ولهم أعمال في شريعتهم، وفي المنافقين وهم يعملون في الظاهر ما يعمله المخلصون فحبط ذلك كله، وثالثها: أنهم إنما أصروا على الكفر خوفًا من أن تفوتهم اللذات العاجلة، ثم إنها تفوتهم إما عند ما يصير الرسول صلى الله عليه وسلم مأذونًا في الجهاد أو عند موتهم، وقال القفال رحمه الله تعالى وبالجملة أن الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملًا لا يجزي عليه فيقال له خاسر، كالرجل الذي إذا تعنى وتصرف في أمر فلم يحصل منه على نفع قيل له خاب وخسر لأنه كمن أعطى شيئًا ولم يأخذ بإزائه ما يقوم مقامه، فسمى الكفار الذين يعملون بمعاصي الله خاسرين قال تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 2، 3] وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحياة الدنيا} [الكهف: 103، 104] والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولئك هُمُ الخاسرون} إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو بأنهم يرتكبون كل معية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها ولعل هذا أولى.
وذكر {في الأرض} إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم. اهـ.

.قال الطبري:

قوله جل ثناؤه: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
الخاسرون جمع خاسر، والخاسرون: الناقصُون أنفسَهم حظوظَها- بمعصيتهم الله- من رحمته، كما يخسرُ الرجل في تجارته، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه. فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَرُ خَسْرًا وخُسْرَانا وخَسَارًا، كما قال جرير بن عطية:
إِنَّ سَلِيطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهُ ** أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ

يعني بقوله: في الخسار، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إن معنى {أولئك هم الخاسرون} أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية، بحرمان الله إياه ما حرَمه من رحمته، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويلَ الكلام على معناه، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه. اهـ.

.قال القرطبي:

{أولئك هُمُ الخاسرون} ابتداء وخبر.
و{هم} زائدة؛ ويجوز أن تكون {هم} ابتداء ثانٍ، {الخاسرون} خبره، والثاني وخبره خبر الأوّل كما تقدّم.
والخاسر: الذي نقص نفسه حَظّها من الفلاح والفَوْز.
والخُسْران: النقصان، كان في ميزان أو غيره؛ قال جَرير:
إن سَلِيطًا في الخَسَار إنّهُ ** أولادُ قَومٍ خُلِقوا أقِنّهْ

يعني بالخَسَار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم.
قال الجوهري: وَخَسرت الشيء بالفتح وأخسرته نقصته.
والخَسَار والخَسَارة والخَيْسَرَى: الضلال والهلاك.
فقيل للهالك: خاسر؛ لأنه خسر نفسه وأهله يوم القيامة ومُنع منزله من الجنة. اهـ.

.قال السمرقندي:

وقوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ في الأرض} لأنهم يكفرون ويأمرون غيرهم بالكفر، فذلك فسادهم في الأرض {أولئك هُمُ الخاسرون} أي المغبونون في العقوبة.
وقال الكلبي: ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله منزل وأهل وخدم في الجنة، فإن أطاع الله أتى ومنزله وأهله وخدمه في الجنة، وإن عصى الله ورثه الله تعالى المؤمنين، فقد غبن أي بعد عن أهله وخدمه، كما قال في آية أخرى {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} [الزمر: 15].
وقال بعضهم: هذا التفسير لا يصح لأنه لا يجوز أن يقال للكافر منزل في الجنة وخدم، إلا أن الكلبي لم يقل ذلك من ذات نفسه، وإنما رواه عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما. اهـ.

.قال الألوسي:

و{أولئك} إشارة إلى {الفاسقين} [البقرة: 26] باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر الخاسرين عليهم باعتبار كمالهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية، واشتروا النقض بالوفاء، والفساد بالصلاح، والقطيعة بالصلة، والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان رأس المال والربح وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم.
وفي الآية ترشيح للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم. اهـ.

.قال القرطبي:

في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهدٍ جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره؛ لذمّ الله تعالى مَن نقض عهده.
وقد قال: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] وقد قال لنبيّه عليه السلام: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] فنهاه عن الغَدْر، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد؛ على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيتين:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}.
التفسير:
لما بين كون القرآن معجزًا أورد شبهة أوردها الكفار قدحًا في ذلك وأجاب عنها. عن ابن عباس: لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين- يعني قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} [البقرة: 17] وقوله: {أو كصيب} [البقرة: 19] قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية. وعن الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله فنزلت. والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض؟ وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا: أجرأ من الذباب وأضعف من بعوضة وكلفتني مخ البعوض.
ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة كالزوان حب يخالط البر، وكحبة خردل، والمنخل والحصاة والأرضة والدود والزنابير. قال: مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة، فلما نبت الزرع واشتد غلب عليه الزوان. فقال عبيد الزارع: يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك؟ فقال: بلى قالوا: فمن أين هذا الزوان؟ قال: لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان تقلعوا معه حنطة، دعوهما يتربيان جميعًا حتى الحصاد. فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزمًا ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الجرين، وأفسر لكم، ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة وهو أبو البشر، والقرية هي العالم، والحنطة الجيدة النقية هي أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس، والزوان المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنو آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله، وأهل الشر إلى الهاوية، وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار فكذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم، من كانت له أذن تسمع فليسمع. وأضرب لكم مثلًا آخر يشبه ملكوت السماء، رجل آخر أخذ حبة الخردل وهي أصغر الحبوب فزرعها في قرية، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول، وجاء طير السماء فعشش في فروعها، فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله تعالى أجره وعظمه ورفع ذكره ونجا به من اهتدى.
وقال: لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الطيب ويمسك النخالة، كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم، وقال: قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الرياح. وقال: لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسد، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله. وقال: نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يغزلن ولا يشخصن، ومنهن ما هو في جوف الحجر الأصم وفي جوف العود، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله أفلا تعقلون؟! وقال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم. هذا ونحن نرى أن الإنسان يذكر معنى فلا يلوح كما ينبغي، فإذا ذكر المثال اتضح وانكشف. وذلك أن من طبع الخيال حب المحاكاة، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال، وإذا ذكر التشبيه معه أدركه العقل مع معاونة الخيال، ولا شك أن الثاني يكون أكمل، وإذا كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي أنزل تبيانًا لكل شيء. ثم إن الله تعالى هو الذي خلق الكبير والصغير، وحكمته في كل ما خلق وبرأ عامة بالغة، وليس الصغير أخف عليه من الكبير، ولا الكبير أصعب عليه من الصغير. فالمعتبر إذن ما يليق بالقصة، فإذا كان اللائق بها الذباب والعنكبوت لخسة مضرب المثل ووهنه، فكيف يضرب بالفيل وبشيء مستحكم النسج والصفاقة؟ وهذا مما لا يخفى على من به أدنى مسكة، ولكن ديدن المحجوج المبهوت دفع الواضح وإنكار المستقيم، وكم من عائب قولًا صحيحًا... وآفته من الفهم السقيم والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به، ويذم واشتقاقه من الحياة، يقال: حيي الرجل كما يقال نسي وحشي إذا اشتكى النسا والحشا، وكأن الحيي صار منتقص القوة منتكس الحياة وقد عرفت في الأسماء الحسنى، أن أمثال هذه الصفات إنما يجوز أن تطلق على الله تعالى بعد الإذن الشرعي باعتبار النهايات لا باعتبار المبادئ. فحديث سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرًا حتى يضع فيهما خيرًا» إنما جاء على سبيل التمثيل لأنه مثل تركه تخييب العبد بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه. ومعنى قوله: {إن الله لا يستحيي} أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا: أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلًا بالذباب والعنكبوت؟ فجاءت على سبيل المقابلة والطباق، وهو فن بديع قال أبو تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلها ** أني بنيت الجار قبل المنزل

فلولا بناء الدار لم يصح بناء الجار، وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه:
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ** كرعن بسبت في إناء من الورد

فيصف كثرة مياه الأمطار في طريقه، وأنه أينما ذهب رأى الماء وكأنه يعرض نفسه على النوق فتستحيي فتكرع فيه مشافر كأنها السبت وهو الجلد المدبوغ بالقرظ، وشبه الأرض وفيها الماء وحواليه الأزهار بإناء من الورد. وفيه لغتان: استحييت منه واستحييته وهما محتملتان هاهنا. وضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم، وفي الحديث: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب.
وما هذه إبهامية، إذا اقترنت باسم نكرة زادته شياعًا وعمومًا كقولك أعطني كتابًا ما تريد أي كتاب كان، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله: {فيما نقضهم} [النساء: 155] أي مثلًا حقًا أو ألبتة. وانتصب {بعوضة} بأنها عطف بيان و{مثلًا} وذلك أن ما يضرب به المثل قد يسمى مثلًا كما يقال: حاتم مثل في الجود. أو مفعول ل {يضرب} و{مثلًا} حال عن النكرة مقدمة عليها، أو انتصبا مفعولين فجرى ضرب مجرى جعل.
والبعوض في أصله صفة على فعول من البعض القطع فغلبت، ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه وفي معناه البضع والعضب. ومن غرائب خلقه أنه مع صغره أعطي كل ما أعطي الفيل مع كبره، ففيه إشارة إلى أن خلق أحدهما ليس أصعب من خلق الآخر، وإشارة إلى حالة الإنسان وكمال استعداده كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على صورته» أي على صفته فأعطاه على ضعفه من كل صفة من صفات جماله وجلاله أنموذجًا ليشاهد في مرآة نفسه جمال صفات ربه. ومن العجائب أن خرطومه في غاية الصغر، ومع ذلك مجوف. ومع فرط صغره وكونه مجوفًا يغوص في جلد الجاموس والفيل على ثخانته كما يضرب الرجل أصبعه في الخبيص، وذلك لما ركب الله تعالى في رأس خرطومه من السم.
وقوله: {فما فوقها} أي فالذي هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب، فإن القوم أنكروا تمثيل الله بكل هذه الأشياء، أو أراد فما فوقها في الصغر كجناح البعوضة حيث ضربه صلى الله عليه وسلم مثلًا للدنيا، وهذا أولى لأن الآية نزلت في بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير، فيجب أن يكون المذكور ثانيًا أحقر من الأول. والفاء هاهنا تفيد الترتيب في الذكر لأنه يذكر في هذا المقام الأخس فالأخس كقوله:
يا دار مية بالعلياء فالسند

لأنه يذكر في تعريف الأمكنة الأخص بعد الأعم، فكأن العلياء موضع وسيع يشتمل على مواضيع منها السند.
{وأما} حرف فيه معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء، وفائدته التوكيد. تقول: زيد ذاهب. فإذا قصدت التوكيد وأن الذهاب منه عزيمة قلت: أما زيد فذاهب ولذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس مراده من هذا التفسير أن أما بمعنى مهما كيف وهذه حرف ومهما اسم- بل قصده إلى المعنى البحث أي أن يكن في الدنيا شيء يوجد ذهاب زيد فهذا، جزم بوقوع ذهابه لأنك جعلت حصول ذهابه لازمًا لحصول أي شيء في الدنيا، وما دامت الدنيا باقية فلابد من حصول شيء فيها. ففي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم أنه الحق، ونعي على الكافرين ورميهم بالكلمة الحمقاء. والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وحق الأمر ثبت ووجب. والضمير في {أنه الحق} للمثل، أو ل {أن يضرب} و{ماذا} فيه وجهان: أن يكون ذا اسمًا موصولًا بمعنى الذي، فيكون كلمتين: ما مبتدأ وخبره ذا مع صلته، وأن تكون ذا مركبة مع ما مجعولتين اسمًا واحدًا، فيكون منصوب المحل في حكم ما وحده لو قلت: ما أراد الله، وجوابه على الأول مرفوع وعلى الثاني منصوب. وقد يجيء على العكس كما تقول في جواب من قال: ما رأيت خير أي المرئي خير.
وفي جواب: ما الذي رأيت خيرًا أي رأيت خيرًا. والإرادة نقيض الكراهة، قال الإمام الرازي: الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته. والمتكلمون أنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر، لا في الوقوع بل في الإيقاع. واحترز بهذا القيد الأخير عن القدرة. واختلفوا في كونه تعالى مريدًا مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى. فزعم النجار أنه معنى سلبي ومعناه أنه غير ساهٍ ولا مكره. ومنهم من قال: إنه أمر ثبوتي. ثم اختلفوا فالجاحظ والكعبي وأبو الحسين البصري: معناه علمه تعالى باشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف. والأشاعرة وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم: أنه صفة زائدة على العلم. ثم القسمة في تلك الصفة أنها إما أن تكون ذاتية وهو القول الآخر للنجار، وإما أن تكون معنوية، وذلك المعنى إما أن يكون قديمًا وهو قول الأشعري، أو محدثًا وذلك المحدث إما أن يكون قائمًا بالله تعالى وهو قول الكرّامية، أو قائمًا بجسمٍ آخر ولم يقل به أحد، أو موجودًا لا في محل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما.
وفي قوله: {ماذا أراد الله بهذا مثلًا} استرذال واستحقار كما قالت عائشة في عبد الله بن عمرو بن العاص حين أفتى بنقض ذوائب النساء في الاغتسال يا عجبًا لابن عمرو هذا محقرة له.
و{مثلًا} نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث ماذا أردت بهذا جوابًا ولمن حمل سلاحًا رديئًا كيف تنتفع بهذا سلاحًا أو على الحال نحو {هذه ناقة الله لكم آية} [هود: 64] وقوله: {يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا} جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين ب {أما} وأهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13] {وقليل ما هم} [ص: 64] إنما يوصفون به بالقياس إلى أهل الضلال. وأيضًا فإن المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة.
إن الكرام كثير في البلاد وإن ** قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا

وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب البعيد، لأنه لما ضرب المثل ازداد به المؤمنون نورًا إلى نورهم فتسبب لهديهم، وازدادت الكفرة رجسًا إلى رجسهم فتسبب لضلالهم عن الحق. والفسق الخروج عن القصد قال رؤبة:
فواسقًا عن قصدها جوائر ** يذهبن في نجد وغورًا غائرًا

والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وهو عند أهل السنة من أهل الإيمان إلا أنه عاصٍ، وعند الخوارج كافر، وعند المعتزلة نازل بين المنزلتين، لأن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة. ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزئ خلفه. ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} [الحجرات: 11] يعني اللمز والتنابز: {إن المنافقين هم الفاسقون} [التوبة: 67] والنقض: افسخ وفك التركيب. وإنما ساغ استعمال النقض في إبطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، وهذا كقولك عالم يغترف منه الناس فتنبه بالاغتراف من العالم بأنه بحر، وتسكت عن المستعار لأنك رمزت إليه بذكر شيء من لوازمه. والعهد: الموثق. عهد إليه في كذا إذا أوصاه به ووثقه عليه. والمراد بالناقضين إما كل من ضل وكفر لأنهم نقضوا عهدًا أبرمه الله بإراءة آياته في الآفاق وفي أنفسهم وبما ركز في عقولهم من إقامة البينة على الصانع وعلى توحيده وعلى حقية شريعته بعد إزاحة العلات وإزالة الشبهات، وإما قوم من أهل الكتاب وقد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وبيّن لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته.
وقيل: عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود: العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم {وإذ أخذ ربك} [الأعراف: 172] الآية. وعهد خص به النبيين أن يبلغو الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} [الأحزاب: 7] وعهد خص به العلماء {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187] والضمير في {ميثاقه} للعهد. والميثاق إما مصدر بمعنى التوثقة كالميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة، أو اسم لما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله أي من بعد توثقته عليهم، أو من بعد ما وثق الله تعالى به عهده من آياته وكتبه ورسله. ومعنى قطعهم ما أمر الله به أن يوصل، إما قطعهم ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرابة والرحم، أو قطعهم موالاة المؤمنين إلى موالاة الكافرين، أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض. والأمر طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور، لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به، فقيل له: أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به. وللأمر حرف واحد وهو اللام الجازم نحو ليفعل وصيغ مخصوصة للمخاطب نحو انزل ونزال وصه.
وقد يستعمل في الدعاء والالتماس بمعونة القرينة وظاهره للوجوب، وغيره من الندب أو الإباحة يتوقف على القرينة. وقوله: {أن يوصل} بدل الاشتمال من الضمير المجرور، والجار الذي ينبغي أن يعاد مقدر تقديره بأن يوصل أي بوصله. والإفساد في الأرض إما إظهار المعاصي، وإما التنازع وإثارة الفتن.
{أولئك هم الخاسرون} لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والإفساد بالإصلاح، وعقاب هذه الأمور بثوابها {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [العصر: 2- 3] الآية. اهـ.