فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ عَطَفَ عَلَى هَذَا التَّحْذِيرِ قَوْلَهُ: {وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُعِينُهُمْ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنِ اتِّقَاءِ الْفِتْنَتَيْنِ، وَهُوَ إِيثَارُ مَا عِنْدَ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ لِمَنْ رَاعَى أَحْكَامَ دِينِهِ وَشَرَعِهِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَوَقَفَ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَتَفْضِيلَهُ عَلَى كُلِّ مَا عَسَاهُ يَفُوتُهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِمَا، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مِثْلَ هَفْوَةِ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ حَذَّرَ أَعْدَاءَ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ فَتْحِ حِصْنِهِمْ، وَالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، لِمَا كَانَ لَهُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمْ فِي حِفْظِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، عَلَى أَنَّ لِلْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ حُسْنَ قُدْوَةٍ بِأَبِي لُبَابَةَ فِي تَوْبَتِهِ النَّصُوحِ، إِذْ أَلَمَّ بِهِ ضَعْفٌ فَوَقَعَ فِي مِثْلِ هَفْوَتِهِ أَوْ مَا دُونَهَا مِنْ خِيَانَةٍ، وَأَيْنَ مِثْلُ أَبِي لُبَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ؟ وَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ يَخُونُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِي انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ دِينِهِمْ، وَيَخُونُونَ أُمَّتَهُمْ وَدَوْلَتَهُمْ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِ يَرْجُونَهُ أَوْ يَنَالُونَهُ مَنْ عَدُوِّهِمْ- وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مَالِ أُمَّتِهِمْ وَغَنَائِمِ وَطَنِهِمْ- أَوْ خَوْفًا عَلَى مَالِهِمْ وَوَلَدِهِمْ مِنْ سُلْطَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ السُّلْطَانُ، وَقَدْ أَسْقَطَتِ الْخِيَانَةُ دَوْلَةً كَانَتْ أَعْظَمَ دُوَلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَبَأْسًا بِارْتِكَابِ رِجَالِهَا الرِّشْوَةَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمِنَ الْأَجَانِبِ حَتَّى مُسِخَتْ فَصَارَتْ دُوَيْلَةً صَغِيرَةً فَقِيرَةً، وَلَكِنَّ الْخَلَفَ الْمَغْرُورَ لِذَلِكَ السَّلَفِ الْمُخَرِّبِ يَدَّعُونَ أَنَّهَا إِنَّمَا أَسْقَطَهَا تَعَالِيمُ الْإِسْلَامِ الْقَوِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ قَدِيمَةً، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا وَاجِبًا وَاحِدًا أَوْ أَدَبًا وَاحِدًا مِنْ آدَابِ الْقُرْآنِ، لَكَانَ كَافِيًا لِوِقَايَتِهَا مِنَ الزَّوَالِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ هَذِهِ الْآيَةُ آخِرُ وَصَايَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَهِيَ أَعَمُّهَا، وَالْأَصْلُ الْجَامِعُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا، وَكَلِمَةُ الْفُرْقَانِ فِيهَا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ كَكَلِمَةِ التَّقْوَى فِي مَجِيئِهَا هُنَا مُطْلَقَةً، فَالتَّقْوَى هِيَ الشَّجَرَةُ، وَالْفُرْقَانُ هُوَ الثَّمَرَةُ، وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ مَادَّةِ الْفَرْقِ، وَمَعْنَاهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ هُنَا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ وَالْحُكْمُ الْحَقُّ فِيهَا، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِالنُّورِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَصْلَ وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأُمُورِ فِي الْعِلْمِ هُوَ الْوَسِيلَةُ لِلْخُرُوجِ مِنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ هُوَ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ وَالْأَصْنَافِ وَالْأَشْخَاصِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بَيْنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَالْبَسَائِطِ وَالْمُرَكَّبَاتِ، وَالنِّسَبِ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبَاتِ، مِنَ الْحِسِّيَّاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ، وَيُبَيِّنُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْطِيهِ حَقَّهُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُمْتَازًا مِنْ غَيْرِهِ. وَإِيرَادُ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ يَطُولُ فَيَشْغَلُ عَنِ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْفُرْقَانِ إِلَّا أَنْ نَتْرُكَ عَوَالِمِ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا وَنَأْتِيَ بِمِثَالٍ مِنَ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْفُرْقَانِ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا، فَنَقُولُ: إِنَّ الْعَامِّيَّ يَعْلَمُ مِنَ اللُّغَةِ أَمْرًا إِجْمَالِيًّا، وَهُوَ أَنَّهَا أَلْفَاظٌ يُعَبِّرُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ مِنْ عِلْمِهِ، وَمِنَ الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ فِيهَا مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ، وَفِي عُلُومِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ وَالْوَضْعِ وَالِاشْتِقَاقِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ- كَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ مِنَ الْأَخِيرِ مَثَلًا- وَأَنْتَ تَرَى أَنَّكَ بِهَذَا الْبَيَانِ الْوَجِيزِ لِمَعْنَى الْفُرْقَانِ قَدِ اتَّضَحَ لَكَ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَالْحُكْمِ الرَّجِيحِ مَا كَانَ خَفِيًّا، وَفَصَّلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُجْمَلًا، وَلِذَلِكَ نَعُدُّهُ مِنْ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ لَا اسْتِطْرَادًا أَجْنَبِيًّا، وَلَا سَيْلًا أَتِيًّا، كَأَكْثَرِ الَّذِي يَأْتِيهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ مَبَاحِثِ النَّحْوِ وَفُنُونِ الْبَلَاغَةِ وَغَيْرِهَا.
وَكَمَا يَكُونُ الْفُرْقَانُ فِي مَسَائِلِ الْعُلُومِ وَمَوَادِّهَا مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ وَلُغَوِيَّةٍ، وَفِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي اسْتُنْبِطَتِ الْعُلُومُ مِنْهَا، يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَفِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ وَفِي الْحُرُوبِ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْفُرْقَانُ عَلَى أَشْهَرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ وَغَلَبَ عَلَى الْقُرْآنِ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [25: 1]؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى يُفَرِّقُ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفِي الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ، وَفِي الْأَعْمَالِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى يَوْمِ بَدْرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ بَيَانِ وَجْهِهِ، وَمُتَعَلِّقِ فَصْلِهِ وَتَفْرِقَتِهِ.
فَقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} مَعْنَاهُ: إِنْ تَتَّقُوا اللهَ فِي كُلِّ مَا يَجِبُ أَنْ يُتَّقَى بِمُقْتَضَى دِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَبِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، يَجْعَلْ لَكُمْ بِمُقْتَضَى هَذِهِ التَّقْوَى مَلَكَةً مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ تُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتَفْصِلُونَ بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَتُمَيِّزُونَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَتُزِيلُونَ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالشُّبْهَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ تَفْسِيرُ الْفُرْقَانِ هُنَا بِنُورِ الْبَصِيرَةِ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ عَيْنُ مَا فَصَّلْنَاهُ مِنَ الْفُرْقَانِ الْعِلْمِيِّ الْحُكْمِيِّ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِالنَّصْرِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، بِمَا يُعِزُّ الْمُؤْمِنَ وَيُذِلُّ الْكَافِرَ، وَبِالنَّجَاةِ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا مِنَ الْفُرْقَانِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِيِّ. ذَكَرَ كُلَّ مَا رَآهُ مُنَاسِبًا لِحَالِ وَقْتِهِ أَوْ حَالِ مَنْ لَقَّنَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدْ تَحْدِيدَ الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، وَلَا الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ التَّقْوَى بِأَنْوَاعِهَا، وَهَذَا النُّورُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ طَالِبُهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، هُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [2: 269] فَهُوَ كَعَهْدِ اللهِ فِي إِمَامَةِ النَّاسِ بِالْحَقِّ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالتَّقْلِيدِ لِغَيْرِهِمْ لِاحْتِقَارِهَا فِي جَنْبِ إِطْرَائِهِمْ لِمُقَلِّدِيهِمْ، بَلْ هُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَقْصِدُونَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا بَعْضَ الْجَاهِلِينَ فِي ادِّعَائِهِمْ إِقْفَالَ بَابِهِ، وَكَثَافَةَ حِجَابِهِ، بَلْ أَصْحَابُهُ هُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الشَّرْعِ وَالدِّينِ وَالْوَاضِعُونَ لِلْعُلُومِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ، وَكَانَ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْهُ.
أَمَرَ اللهُ- تَعَالَى- فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاتِّقَائِهِ، وَبِاتِّقَاءِ النَّارِ، وَبِاتِّقَاءِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَبِاتِّقَاءِ الْفِتَنِ الْعَامَّةِ فِي الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ، وَتَقَدَّمَ فِي وَصَايَا هَذَا السِّيَاقِ- وَبِاتِّقَاءِ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ فِي الْحَرْبِ، وَبِاتِّقَاءِ ظُلْمِ النِّسَاءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي إِرْثِ الْأَرْضِ لِلْمُتَّقِينَ، كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [65: 2، 3] {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [65: 5] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي التَّقْوَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَأَجْرِهَا وَعَاقِبَتِهَا كَثِيرٌ، فَمَعْنَى التَّقْوَى الْعَامَّةِ اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ، وَفِي جِنْسِهِ الْإِنْسَانِيِّ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقَاصِدِ الشَّرِيفَةِ وَالْغَايَاتِ الْحَسَنَةِ، وَالْكَمَالِ الْمُمْكِنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَزِدْنَا عَلَى ذَلِكَ: اتِّقَاءَ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْكَمَالِ وَسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَوْنِ، كَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَجَعْلِ كَلِمَةِ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فِي الْأَرْضِ كَمَا هِيَ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ السُّفْلَى كَذَلِكَ. وَكَمَالُ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- وَكَمَالُ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ مُجْتَمِعًا وَمُنْفَرِدًا كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتْ ثَمَرَةُ التَّقْوَى الْعَامَّةُ الْكَامِلَةُ هُنَا حُصُولَ مَلَكَةِ الْفُرْقَانِ الَّتِي يُفَرِّقُ صَاحِبُهَا بِنُورِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ مِنْ عِلْمٍ وَحُكْمٍ وَعَمَلٍ، فَيَفْصِلُ فِيهَا بَيْنَ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ، وَمَا يَجِبُ رَفْضُهُ، وَبَيْنَ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ، وَمَا يَجِبُ تَرْكُهُ، وَتَنْكِيرُ الْفُرْقَانِ لِلتَّنْوِيعِ التَّابِعِ لِأَنْوَاعِ التَّقْوَى كَالْفِتَنِ فِي السِّيَاسَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ، فَكُلُّ مُتَّقٍ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتِهِ فُرْقَانًا فِيهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْحُكَّامُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ خُلَفَاءِ الْعَرَبِ أَعْدَلَ حُكَّامِ الْأُمَمِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى فِي عَهْدِ الْفَتْحِ. قَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَّقُوا فِتَنَ السِّيَاسَةِ وَالرِّيَاسَةِ لِقِلَّةِ اخْتِبَارِهِمْ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا بِتَفَرُّقِهِمْ فَضَعْفِهِمْ فَزَوَالِ مُلْكِهِمْ، وَكَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَعَاجِمِ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّقْوَى الْوَاجِبَةِ، وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ فُرْقَانِهَا، فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُجَدِّدُونَ مَجْدَهُمْ مَعَ جَهْلِ هَذَا الْفُرْقَانِ الْمُبِينِ، وَعَدَمِ الِاعْتِصَامِ بِالتَّقْوَى الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ، الْمُؤَهِّلَةِ لَهَا لِلْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، بَلْ مَعَ انْغِمَاسِهِمْ فِي السُّكْرِ وَالْفَوَاحِشِ؛ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْإِفْرِنْجَ قَدْ تَرَقَّوْا فِي دُنْيَاهُمْ بِفُسَّاقِهِمْ وَفُجَّارِهِمْ، وَإِنَّمَا تَرَقَّوْا بِحُكَمَائِهِمْ وَأَبْرَارِهِمُ، الَّذِينَ وَقَفُوا حَيَاتَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ هَذَا عَطْفٌ عَلَى يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا أَيْ: وَيَمْحُو بِسَبَبِ هَذَا الْفُرْقَانِ وَتَأْثِيرِهِ مَا كَانَ مِنْ تَدْنِيسِ سَيِّئَاتِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَتَزُولُ مِنْهَا دَاعِيَةُ الْعَوْدِ إِلَيْهَا الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِصْرَارِ الْمُهْلِكِ، وَيَغْفِرُهَا لَكُمْ بِسَتْرِهَا، وَتَرْكِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَمِنْ أَعْظَمِ فَضْلِهِ أَنْ جَعَلَ هَذَا الْجَزَاءَ الْعَظِيمَ بِقِسْمَيْهِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ جَزَاءً لِلتَّقْوَى وَأَثَرًا لَهَا. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا إن الله سميع عليم ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين}.
ويبدو في التعبير القرآني شدة في التحذير؛ وتغليظ في العقوبة؛ وتهديد بغضب من الله ومأوى في النار:
{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا واجهتم الذين كفراو {زحفًا} أي متدانين متقاربين متواجهين؛ فلا تفروا عنهم، إلا أن يكون ذلك مكيدة حرب، حيث تختارون موقعًا أحسن، أو تدبرون خطة أحكم؛ أو أن يكون ذلك انضمامًا إلى فئة أخرى من المسلمين، أو إلى قواعد المسلمين، لتعاودوا القتال.. وأن من تولى، وأعطى العدو دبره يوم الزحف فقد استحق ذلك العقاب: غضبًا من الله ومأوى في جهنم..
وقد وردت بعض الأقوال في اعتبار هذا الحكم خاصًا بأهل بدر، أو بالقتال الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضره.
ولكن الجمهور على أنها عامة، وأن التولي يوم الزحف كبيرة من السبع الموبقات. كما روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وقد أورد الجصاص في أحكام القرآن تفصيلا لا بأس من الإلمام به قال: قال الله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة} روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر. قال أبو نضرة لأنهم لو انحازوا يومئذ لانحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم.. وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد، لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار، ولم يأمرهم النبي عليه السلام بالخروج، ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال، وإنما ظنوا أنها العير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه. فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا، انحازوا إلى المشركين، غلط لما وصفنا.. وقد قيل: إنه لم يكن جائزًا لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن الانحياز جائزًا لهم عنه، قال الله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وينصرفوا عنه ويسلموه، وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس، كما قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} وكان ذلك فرضا عليهم، قلت أعداؤهم أو كثروا، وأيضًا فإن النبي- صلى الله عليه وسلم كان فئة المسلمين يومئذ، ومن كان بمنحاز عن القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- فئتهم يومئذ، ولم تكن فئة غيره. قال ابن عمر: كنت في جيش، فحاص الناس حيصة واحدة ورجعنا إلى المدينة. فقلنا: نحن الفرارون. فقال النبي عليه السلام: «أنا فئتكم» فمن كان بالبعد من النبي صلى الله عليه وسلم إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه، فلم يكن يجوز لهم الفرار.
وقال الحسن في قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره} قال: شددت على أهل بدر. وقال الله تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وذلك لأنهم فروا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك يوم حنين فروا عن النبي صلى الله عليه وسلم فعاقبهم الله على ذلك في قوله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}. فهذا كان حكمهم إذا كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قل العدو أو كثر، إذا لم يجد الله فيه شيئًا. وقال الله تعالى في آية أخرى: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا} وهذا- والله أعلم- في الحال التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حاضرا معهم، فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين لا يهربوا عنهم، فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله} فروي عن ابن عباس أنه قال: كتب عليكم ألا يفر واحد من عشرة: ثم قلت: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} الآية. فكتب عليكم ألا يفر مئة من مئتين. وقال ابن عباس: إن فر رجل من رجلين فقد فر، وإن فر من ثلاثة فلم يفر- قال الشيخ يعني بقوله: فقد فر: الفرار من الزحف المراد بالآية، والذي في الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار، فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة، فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله} ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا فئة كل مسلم» وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم: «رحم الله أبا عبيد! لو انحاز إليّ لكنت له فئة». فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال: «أنا فئة لكم» ولم يعنفهم.. وهذا الحكم عندنا (يعني عند الحنفية) ثابت، ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم، ونحو ذلك، مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب، أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم.