فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الماوردي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}.
أما النقض، فهو ضد الإبرام، وفي العهد قولان:
أحدهما: الوصيَّة.
والثاني: الموثق.
والميثاق ما وَقَعَ التوثق به.
وفيما تضمنه عهده وميثاقه أربعة أقاويل:
أحدها: أن العهد وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعة، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصية في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك بترك العمل به.
والثاني: أن عهده ما خلقه في عقولهم من الحجة على توحيده وصدق رسله بالمعجزات الدالة على صدقهم.
والثالث: أن عهده ما أنزله على أهل الكتاب من، على صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والوصية المؤكدة باتباعه، فذلك العهد الذي نقضوه بجحودهم له بعد إعطائهم الله تعالى الميثاق من أنفسهم، ليبينه للناس ولا يكتمونه، فأخبر سبحانه، أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا.
والرابع: أن العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، الذي وصفه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنا} [الأعراف: 172].
وفي هذه الكتابة التي في ميثاقه قولان:
أحدهما: أنها كناية ترجع إلى اسم الله وتقديره من بعد ميثاق الله.
والثاني: أنها كناية ترجع إلى العهد وتقديره من بعد ميثاق العهد.
وفيمن عَنَاهُ الله تعالى بهذا الخطاب، ثلاثة أقاويل:
أحدها: المنافقون.
والثاني: أهل الكتاب.
والثالث: جميع الكفار.
قوله عز وجل: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن الذي أمر الله تعالى به أن يوصل، هو رسوله، فقطعوه بالتكذيب والعصيان، وهو قول الحسن البصري.
والثاني: أنَّه الرحمُ والقرابةُ، وهو قول قتادة.
والثالث: أنه على العموم في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل.
قوله عز وجلَّ: {وَيُفْسِدُونَ في الأَرْضِ} وفي إفسادهم في الأرض قولان:
أحدهما: هو استدعاؤهم إلى الكفر.
والثاني: أنه إخافتهم السُّبُلَ وقطعهم الطريق.
وفي قوله: {أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قولان:
أحدهما: أن الخسران هو النقصان، ومنه قول جرير:
إِنَّ سليطًا في الْخَسَارِ إِنَّهُ ** أَوْلاَدُ قَوْمٍ حلفوا افنه

يعني بالخَسَار، ما ينقُصُ حظوظهم وشرفهم.
والثاني: أن الخسران هاهنا الهلاك، ومعناه: أولئك هم الهالكون.
ومنهم من قال: كل ما نسبه الله تعالى من الخسران إلى غير المسلمين فإنما يعني الكفر، وما نسبه إلى المسلمين، فإنما يعني به الذنب. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ}.
حكى ابن عطية في هذه الجملة خلافا هل هي استئأنفا أو من تمام ما قبلها؟
قال ابن عرفة: إن راعينا مقام التخويف وترتّب الذّم على كل وصف من هذه الأوصاف جعلناه كلاما آخر مستأنفا، وإن راعينا مناسبة اللَّفظ فترد لما قبلها.
واختلفوا في العهد ما هو؟
ابن عرفة: والظاهر أن نقض العهد راجع إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى.
وقطع ما أمر الله به أن يوصل راجع إلى الإقرار بالرسالة.
وأشار إليه ابن عطية فهم مكلفون بشهادة أن لا إلاه إلا الله وأن يصلوها بشهادة أن محمدا رسول الله فخالفوا في الأمرين فعهد الله هو الدليل الدال على وحدانيته ونقضه هو المخالفة فيه.
ابن عطية: وقال بعض المتأوّلين إنّ العهد هو ما أخذه الله تعالى على بني آدم حين أخرجهم من ظهر آدم كالذرّ {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} وضعفه الفخر بأنهم حينّذ ليسوا مكلفين فلا يعاقبون على نقض ذلك العهد.
وأجاب ابن عرفة بأن قال: لا مانع من أنهم كلفوا حينئذ بالإيمان فآمنوا والتزموا العهد ونسوه، ثم ذكروا بذلك في الدنيا بهذه الآية وأنظارها، فمنهم من تذكر وآمن، ومنهم من بقي فيعاقب لأجل ذلك ونظيره عندنا أن القاضي إذا حكم بحكم ونسيه فذكره فيه شاهد واحد فإنه ينفذه بشهادته ويرجع إليه وكذلك هذا.
قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ}.
أي من بعد توثقه وإبرامه.
ابن عطية قيل: إنّها لأهل الكتاب، وقيل: لجميع الكفار، وقيل: لمن آمن ثم كفر.
ابن عرفة: الظاهر تناولها لكل من صلح صدق هذا اللفظ عليه، قيل: لتدل على مبادرتهم بالنقص في أول أزمنته البعيدة.
أبو البقاء: من لابتداء الغاية في الزمان عند من أجازه وزائدة عند من منعه وهو ضعيف لا متناع زيادتها في الواجب.
قال الصفاقسي: هذا ليس بشيء لأن القبلية والبعدية من صفات الزمان، فكأن من تدخل على الزمان فلا يحتاج إلى زيادتها.
قال ابن عرفة: لا يليق به على علمه فإن ابن عصفور وغيره قد تأولوها في مثل هذا على حذف مضاف تقديره مصدرا، وأعربوا قبل وبعد إذا انتصبا ظرفي زمان صريحين وقالوا: ظرف الزمان هو اسم الزمان أو عدده أو ما قام مقامه نحو: أتيتك طلوع الشمس أو ما أضيف إليه إذا كان هو أو بعضه.
قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ}.
قال ابن عرفة: فيه عندي حجة لمن يقول إن لفظ أمر إنما يطلق على الواجب فقط، وأما المندوب فغير مأمور به إن زعم أنه لإجماعنا على المراد به هنا الوجوب لترينه الذمّ فمن يقول: إن المندوب مأمور به إن زعم أنّه حقيقة لزمه الاشتراك.
وإن جعله مجازا لزمه المجاز، وهما معا على خلاف الأصل.
ابن عرفة: والصحيح عندي في الأمر اشتراط الاستعلاء فقط لا العلو خلافا للمعتزلة وبعض أهل السنة.
قوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض}.
إن أراد بالفساد الأمر الأعم من القول والفعل والاعتقاد فيكون ذلك من عطف العام على الخاص وإن أريد به الفعل فقط فتكون من عطف الشيء على ما هو مغاير له.
قوله تعالى: {أولئك هُمُ الخاسرون}.
عبر بالخسران لأنهم بالعهد والميثاق حصل لهم الفوز والنجاة، فلما نقضوه شبّهوا بمن اشترى سلعة للتجارة وكان بحيث إن بادر بيعها لربح فيها ربحا كثيرا فتركها حتى كسد سوقها وباعها بالبخس والخسران.
قيل لابن عرفة: هذه الآية تدل على أنّ مرتكب الكبيرة غير مخلد في النار لاقتضائها حصر الخسران في هؤلاء لأن البناء على المضمر يفيد الحصر؟
فقال: يقول الزمخشري: إنه لمطلق الربط لا للحصر كما قال في {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار}. اهـ.

.من فوائد ابن كثير في الآية:

قال رحمه الله:
الفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش، والمراد من الآية الفاسق الكافر، والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرعد: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} الآيات، إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 19- 25].
وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقال آخرون: بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به، وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلا. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وقول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق. وعهده إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما ثبتت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي أيضًا عن مقاتل بن حيان نحو هذا، وهو حسن، وإليه مال الزمخشري، فإنه قال: فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] إذ أخذ الميثاق عليهم في الكتب المنزلة عليهم لقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].
وقال آخرون: العهد الذي ذكره الله تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآيتين [الأعراف: 172، 173] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به. وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضًا، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} إلى قوله: {الْخَاسِرُونَ} قال: هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظَّهْرَة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظَّهْرَةُ عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا.
وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا. وقال السدي في تفسيره بإسناده، قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} قال: هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات، كما فسره قتادة كقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] ورجحه ابن جرير. وقيل: المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه.
وقال مقاتل بن حيان في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قال في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].
وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب.
وقال ابن جرير في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الخاسرون: جمع خاسر، وهم الناقصون أنفسهم وحظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسر الرجل يخسر خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا، كما قال جرير بن عطية إن سَلِيطًا في الخَسَارِ إنَّه... أولادُ قَومٍ خُلقُوا أقِنَّه. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
وجملة {الذين ينقضون} إلى آخره صفة للفاسقين لتقرير اتصافهم بالفسق لأن هاته الخلال من أكبر أنواع الفسوق بمعنى الخروج عن أمر الله تعالى.
وجوز أن تكون مقطوعة مستأنفة على أن {الذين} مبتدأ وقوله: {أولئك هم الخاسرون} خبر وهي مع ذلك لا تخرج عن معنى توصيف الفاسقين بتلك الخلال إذ الاستئناف لما ورد إثر حكاية حال عن الفاسقين تعين في حكم البلاغة أن تكون هاته الصلة من صفاتهم وأحوالهم للزوم الاتحاد في الجامع الخيالي وإلا لصار الكلام مقطعًا منتوفًا فليس بين الاعتبارين إلا اختلاف الإعراب وأما المعنى فواحد فلذلك كان إعرابه صفة أرجح أو متعينًا إذ لا داعي إلى اعتبار القطع.
ومجيء الموصول هنا للتعريف بالمراد من الفاسقين أي الفاسقين الذين عرفوا بهذه الخلال الثلاث فالأظهر أن المراد من الفاسقين اليهود وقد أطلق عليهم هذا الوصف في مواضع من القرآن وهم قد عرفوا بما دلت عليه صلة الموصول كما سنبينه هنا بل هم قد شهدت عليهم كتب أنبيائهم بأنهم نقضوا عهد الله غير مرة وهم قد اعترفوا على أنفسهم بذلك فناسب أن يجعل النقض صلة لاشتهارهم بها، ووجه تخصيصهم بذلك أن الطعن في هذا المثل جرهم إلى زيادة الطعن في الإسلام فازدادوا بذلك ضلالًا على ضلالهم السابق في تغيير دينهم وفي كفرهم بعيسى، فأما المشركون فضلالهم لا يقبل الزيادة، على أن سورة البقرة نزلت بالمدينة وأكثر الرد في الآيات المدنية متوجه إلى أهل الكتاب.
والنقض في اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب، وإنما زدت قولي بفعل الخ ليخرج القطع والحرق فيقال نقض الحبل إذا حل ما كان أبرمه، ونقض الغزل ونقض البناء.
وقد استعمل النقض هنا مجازًا في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى {عهد الله} وهي استعارة من مخترعات القرآن بنيت على ما شاع في كلام العرب في تشبيه العهد وكل ما فيه وصل بالحبل وهو تشبيه شائع في كلامهم، ومنه قول مالك بن التيهان الأنصاري للنبيء صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة: يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالًا ونحن قاطعوها فنخشى إن أعزك الله وأظهرك أن ترجع إلى قومك يريد العهود التي كانت في الجاهلية بين قريش وبين الأوس والخزرج.
وكان الشائع في الكلام إطلاق لفظ القطع والصرم وما في معناهما على إبطال العهد أيضًا في كلامهم.
قال امرؤ القيس:
وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي

وقال لبيد:
أوَ لم تكن تدري نوارِ بأنَّني ** وَصَّالُ عَقد حبائل جَذّامها

وقال:
بل ما تَذكّر من نَوار وقد نَأَتْ ** وتقطَّعَتْ أَسبابُها ورِمَامُها

وقال:
فاقْطع لُبانة من تعرَّض وصلُه ** فلَشَرُّ واصِل خُلَّةٍ صَرَّامُها

ووجه اختيار استعارة النقض الذي هو حل طَيَّات الحبل إلى إبطال العهد أنها تمثيل لإبطال العهد رويدًا رويدًا وفي أزمنة متكررة ومعالجة.
والنقض أبلغ في الدلالة على الإبطال من القطع والصرم ونحوهما لأن في النقض إفسادًا لهيأة الحبل وزوال رجاء عودها وأما القطع فهو تجزئة.
وفي النقض رمز إلى استعارة مكنية لأن النقض من روادف الحبل فاجتمع هنا استعارتان مكنية وتصريحية وهذه الأخيرة تمثيلية وقد تقرر في علم البيان أن ما يرمز به للمشبه به المطروح في المكنية قد يكون مستعملًا في معنى حقيقي على طريقة التخييل وذلك حيث لا يكون للمشبه المذكور في صورة المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المطروح مثل إثباتتِ الأظفار للمنية في قولهم أظفارُ المنية وإثباتتِ المخالببِ والناب للكُماة في قول أبي فِراس الحمداني:
فلما اشتدت الهيجاءُ كنَّا ** أَشَدَّ مخالِبًا وأَحَدَّ نابا

وإثباتتِ اليد للشمال في قول لَبيد:
وغداة ريححٍ قد كشفتُ وقِرَّةٍ ** إذْ أصبحت بِيَد الشَّمال زِمامُها

وقد يكون مستعملًا في معنى مجازي إذا كان للمشبه في المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المضمر نحو {ينقضون عهد الله} وقد زدنا أنها تمثيلية أيضًا والبليغ لا يفلت هاته الاستعارة مهما تأت له ولا يتكلف لها مهما عسرت فليس الجواز المذكور في قرينة المكنية إلا جوازًا في الجملة أي بالنظر إلى اختلاف الأحوال.
وهذا الذي هو من روادف المشبه به في صورة المكنية وغيرها قد يقطع عن الربط بالمكنية فيكون استعارة مستقلة وذلك حيث لا تذكر معه لفظًا يراد تشبيهه بمشبه به مضمر نحو أن تقول فلان ينقض ما أبرم.
وقد يربط بالمكنية وذلك حيث يذكر معه شيء أريد تشبيهه بمشبه به مضمر كما في الآية حيث ذكر النقض مع العهد.
وقد يربط بمصرحة وذلك حيث يذكر مع لفظ المشبه به الذي الرادف من توابعه نحو قوله: إن بيننا وبين القوم حبالًا نحن قاطعوها وحينئذٍ يكون ترشيحًا للمجاز وهذه الاعتبارات متداخلة لامتضادة إذ قد يصح في الموضع اعتباران منها أو جميعها وإنما التقسيم بالنظر إلى ما ينظر إليه البليغ أول النظر.
واعلم أن رديف المشبه به في المكنية إذا اعتبر استعارة في ذاته قد يتوهم أن اعتباره ذلك ينافي كونه رمزًا للمشبه به المضمر كالنقض فإنه لما أريد به إبطال العهد لم يكن من روادف الحبل، لكن لما كان إيذانه بالحبل سابقًا عند سماع لفظه لسبق المعنى الحقيقي إلى ذهن السامع حتى يتأمل في القرينة كفى ذلك السبق دليلًا ورمزًا على المشبه به المضمر فإذا حصل ذلك الرمز لم يضر فهمَ الاستعارة في ذلك اللفظ، وأجاب عبد الحكيم بأن كونه رادفًا بعد كونه استعارة بناء على أنه لما شبه به الرادف وسمي به صار رادفًا ادعائيًا وفيه تكلف.
و{عهد الله} هو ما عهد به أي ما أوصى برعيه وحفاظه، ومعاني العهد في كلام العرب كثيرة وتصريفه عرفي.
قال الزجاج: قال بعضهم ما أدري ما العهد ومرجع معانيه إلى المعاودة والمحافظة والمراجعة والافتقاد ولا أدري أي معانيه أصل لبقيتها وغالب ظني أنها متفرع بعضها عن بعض والأقرب أن أصلها هو العهد مصدر عهده عهدًا إذا تذكره وراجع إليه نفسه يقولون عهدتك كذا أي أتذكر فيك كذا وعهدي بك كذا، وفي حديث أم زرع: ولا يسأل عما عهد أي عما عهد وترك في البيت ومنه قولهم في عهد فلان أي زمانه لأنه يقال للزمان الذي فيه خير وشر لا ينساه الناس، وتعهد المكان أو فلانًا وتعاهده إذا افتقده وأحدث الرجوع إليه بعد ترك العهد والوصية ومنه ولي العهد.
والعهد اليمين والعهد الالتزام بشيء، يقال عهد إليه وتعهد إليه لأنها أمور لا يزال صاحبها يتذكرها ويراعيها في مواقع الاحتراز عن خفرها.
وسمي الموضع الذي يتراجعه الناس بعد البعد عنه معهدًا.
والعهد في الآية الذي أخذه الله على بني آدم أن لا يعبدوا غيره: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} [يس: 60] الآية، فنقضه يشمل الشرك وقد وصف الله المشركين بنقض العهد في قوله: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} الآية في سورة الرعد.
(25) وفسر بالعهد الذي أخذه الله على الأمم على ألسنة رسلهم أنهم إذا بعث بعدهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} [آل عمران: 81] الآيات لأن المقصود من ذلك أخذ العهد على أممهم.
وفسر بالعهد الذي أخذه الله على أهل الكتاب ليبننه للناس: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس} [آل عمران: 187] الآية في تفاسير أخرى بعيدة.
والصحيح عندي أن المراد بالعهد هو العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل غير مرة من إقامة الدين وتأييد الرسل وأن لا يسفك بعضهم دماء بعض وأن يؤمنوا بالدين كله، وقد ذكرهم القرآن بعهود الله تعالى ونقضهم إياها في غير ما آية من ذلك قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [البقرة: 40].
{ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا} إلى قوله: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 12 13] الخ وقوله: {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلًا} [المائدة: 70] إلى قوله: {فعموا وصموا} [المائدة: 70، 71].
{وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} إلى قوله: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 80 84] إلى قوله: {وتكفرون ببعض} [البقرة: 85] بل إن كتبهم قد صرحت بعهود الله تعالى لهم وأنحت عليهم نقضهم لها وجعلت ذلك إنذارًا بما يحل بهم من المصائب كما في كتاب أرميا ومراثي أرميا وغير ذلك، بل قد صار لفظ العهد عندهم لقبًا للشريعة التي جاء بها موسى.
ولما كان قوله: {الذين ينقضون عهد الله} الآية وصفًا للفاسقين وكان المراد من الفاسقين اليهود كما علمت كان ذكر العهد إيماء إلى أن الفاسقين هنا هم، وتسجيلًا على اليهود بأنهم قد حق عليهم هذا الوصف من قبل اليوم بشهادة كتبهم وعلى ألسنة أنبيائهم فكان لاختيار لفظ العهد هنا وقع عظيم يتنزل منزلة المفتاح الذي يوضع في حل اللغز ليشير للمقصود فهو العهد الذي سيأتي ذكره في قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي} [البقرة: 40].
والميثاق مفعال وهو يكون للآلة كثيرًا كمرقاة ومرآة ومحراث، قال الخفاجي كأنه إشباع للمِفْعَل، وللمصدر أيضًا نحو الميلاد والميعاد وهو الأظهر هنا.
والضمير للعهد أي من بعد توكيد العهد وتوثيقه.
ولما كان المراد بالعهد عهدًا غير معيّننٍ، بل كل ما عاهدوا عليه كان توكيد كل ما يفرضه المخاطب بما تقدمه من العهود وما تأخر عنه فهو على حد: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيده} [النحل: 91] فالميثاق إذن عهد آخر اعتبر مؤكدًا لعهد سبقه أو لحقه.
وقوله: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} قيل ما أمر الله به أن يوصل هو قرابة الأرحام يعني وحيث ترجح أن المراد به بعض عمل اليهود فذلك إذ تقاتلوا وأخرجوا كثيرًا منهم من ديارهم ولم تزل التوراة توصي بني إسرائيل بحسن معاملة بعضهم لبعض.
وقيل الإعراض عن قطع ما أمر الله به أن يوصل هو موالاة المؤمنين.
وقيل اقتران القول بالعمل.
وقيل التفرقة بين الأنبياء في الإيمان ببعض والكفر ببعض.
وقال البغوي يعني بما أمر الله به أن يوصل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل.
وأقول تكميلًا لهذا إن مراد الله تعالى مما شرع للناس منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد وهو إبلاغ البشر إلى الغاية التي خلقوا لها وحفظ نظام عالمهم وضبط تصرفاتهم فيه على وجه لا يعتوره خلل، وإنما اختلفت الشرائع على حسب مبلغ تهييء البشر لتلقي مراد الله تعالى ولذلك قلما اختلفت الأصول الأساسية للشرائع الإلهية قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين} [الشورى: 13] الآية.
وإنما اختلفت الشرائع في تفاريع أصولها اختلافًا مراعى فيه مبلغ طاقة البشر لطفًا من الله تعالى بالناس ورحمة منه بهم حتى في حملهم على مصالحهم ليكون تلقيهم لذلك أسهلَ، وعملُهم به أدوم، إلى أن جاءت الشريعة الإسلامية في وقت راهَقَ فيه البشرُ مَبلغَ غاية الكمال العقلي وجاءهم دين تناسب أحكامه وأصوله استعدادهم الفكري وإن تخالفت الأعصار وتباعدت الأقطار فكان دينًا عامًا لجميع البشر، فلا جرم أن كانت الشرائع السابقة تمهيدًا له لتهييء البشر لقبول تعاليمه وتفاريعها التي هي غاية مراد الله تعالى من الناس ولذا قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19].
فما من شريعة سلفت إلا وهي حلقة من سلسلة جعلت وِصلة للعُروة الوثقى التي لا انفصام لها وهي عروة الإسلام فمتى بلغها الناس فقد فَصوا ما قبلها من الحلق وبلغوا المراد، ومتى انقطعوا في أثناء بعض الحلق فقد قطعوا ما أراد الله وصله، فاليهود لما زعموا أنهم لا يحل لهم العدول عن شريعة التوارة قد قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ففرقوا مجتمعه.
والفساد في الأرض تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {ألا إنهم هم المفسدون} [البقرة: 12] ومن الفساد في الأرض عكوف قوم على دين قد اضمحل وقت العمل به وأصبح غير صالح لما أراد الله من البشر فإن الله ما جعل شريعة من الشرائع خاصة وقابلة للنسخ إلا وقد أراد منها إصلاح طائفة من البشر معينة في مدة معينة في علمه، وما نسخ دينًا إلا لتمام وقت صلوحيته للعمل به فالتصميم على عدم تلقي الناسخ وعلى ملازمة المنسوخ هو عمل بما لم يبق فيه صلاح للبشر فيصير ذلك فسادًا في الأرض لأنه كمداواة المريض بدواء كان وصف له في حالة تبدلت من أحوال مرضه حتى أتى دين الإسلام عامًا دائمًا لأنه صالح للكل.
وقوله: {أولئك هم الخاسرون} قصر قلب لأنهم ظنوا أنفسهم رابحين وهو استعارة مكنية تمثيلية تقدمت في قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} [البقرة: 16].
وذكر الخسران تخييل مراد منه الاستعارة في ذاته على نحو ما قرر في {ينقضون عهد الله} فهذه الآية ظاهرة في أنها موجهة إلى اليهود لما علمت عند قوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} ولما علمت من كثرة إطلاق وصف الفاسقين على اليهود، وإن كان الذين طعنوا في أمثال القرآن فريقين: المشركين واليهود، كما تقدم، وكان القرآن قد وصف المشركين في سورة الرعد (25) وهي مكية بهذه الصفات الثلاث في قوله: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} فالمراد بهم المشركون لا محالة فذلك كله لا يُناكد جعل آية سورة البقرة موجهة إلى اليهود إذ ليس يلزم المفسر حمله آي القرآن على معنى واحد كما يوهمه صنيع كثير من المفسرين حتى كان آي القرآن عندهم قوالب تفرغ فيها معان متحدة.
واعلم أن الله قد وصف المؤمنين بضد هذه الصفات في قوله تعالى: {إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} الآية في سورة الرعد (25).
واعلم أن نزول هذه الآيات ونحوها في بعض أهل الكتاب أو المشركين هو وعيد وتوبيخ للمشركين وأهل الكتاب وهو أيضًا موعظة وذكرى للمؤمنين ليعلم سامعوه أن كل من شارك هؤلاء المذمومين فيما أوجب ذمهم وسبب وعيدهم هو آخذ بحظ مما نالهم من ذلك على حسب مقدار المشاركة في الموجب. اهـ.