فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله عز وجل: {وما لهم ألا يعذبهم الله}
توعد بعذاب الدنيا، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون أن في موضع نصب، وقال الطبري: تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا، والظاهر في قوله: {وما} أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسيؤال، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة، ويصح أن تكون {ما} نافية ويكون القول إخبارًا، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون، وقوله: {وهم يصدون} على التأويلين جملة في موضع الحال، و{يصدون} في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم، فهو متعدٍّ كما قال الشاعر: [الوافر]
صددتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو

وقد تجيء صد عير متعدٍّ كما أنشد أبو علي: [البسيط]
صدت خليدة عنّا ما تكلّمُنا

والضمير في قوله: {أولياؤه} عائد على الله عز وجل من قوله: {يعذبهم الله}، أو على المسجد الحرام، كل ذلك جيد، روي الأخير عن الحسن، والضمير الآخر تابع للأول وقوله: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه، وقوله: {أكثرهم} ونحن نجد كلهم بهذه الصفة، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب، ومنه حكى سيبويه من قولهم: قل من يقول ذلك، وهم يريدون لا يقوله أحد.
وإما أن يقول: إنه أراد بقوله: {أكثرهم} أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قومًا قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله: {أكثرهم} وكذلك كانت حال مكة وأهلها، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل وغيرها، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن: إن قوله: {وما لهم ألا يعذبهم الله}، ناسخ لقوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، لأنه خبر لا يدخله نسخ. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}
هذه الآية أجازت تعذيبهم، والأُولى نفت ذلك، وهل المراد بهذا: العذابُ الاولُ، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه هو الأول، إلا أن الأول امتنع بشيئين.
أحدهما: كون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم.
والثاني: كون المؤمنين المستغفرين بينهم، فلما وقع التمييز بالهجرة، وقع العذاب بالباقين يوم بدر، وقيل: بل وقع بفتح مكة.
والثاني: أنهما مختلفان، وفي ذلك قولان:
أحدهما: أن العذاب الثاني: قَتْلُ بعضِهم يوم بدر، والأول: استئصال الكُلِّ، فلم يقع الأول لِما قد عُلم من إيمان بعضهم، وإسلام بعضِ ذراريهم، ووقع الثاني.
والثاني: أن العذاب الأول: عذاب الدنيا.
والثاني: عذاب الآخرة، قاله ابن عباس، فيكون المعنى: وما كان اللهُ معذِّبَ المشركين لاستغفارهم في الدنيا، وما لهم ألا يعذبهم الله في الآخرة.
قوله تعالى: {وهم يصدون} قال الزجاج: المعنى: وهم يصدون {عن المسجد الحرام} أولياءَه.
وفي هاء الكناية في قوله: {وما كانوا أولياءَه} قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى المسجد، وهو قول الجمهور.
قال الحسن: إن المشركين قالوا: نحن أولياء المسجد الحرام، فرد الله عليهم بهذا.
والثاني: أنها تعود إلى الله عز وجل، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: {إنْ أولياؤُه} أي: ما أولياؤه {إلاَّ المتقون} للشرك والمعاصي، ولكنَّ أكثر أهل مكة لا يعلمون من الأولى ببيت الله. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}
المعنى: وما يمنعهم من أن يعذّبوا.
أي إنهم مستحقون العذاب لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، ولكن لكل أجل كتاب؛ فعذبهم الله بالسيف بعد خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك نزلت: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] وقال الأخفش: إنّ أنْ زائدة.
قال النحاس: لو كان كما قال لرفع {يعذبهم}.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي إن المتقين أولياؤه. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} يعني أي شيء يمنعهم من أن يعذبهم يعني بعد خروجك من بين أظهرهم، لأنه سبحانه وتعالى بيَّن في الآية الأولى أنه لا يعذبهم وهو مقيم فيهم بين أظهرهم وبيَّن في هذه الآية أنه معذبهم.
ثم اختلفوا في هذا العذاب فقيل: هو القتل والأسر يوم بدر.
وقيل: أراد به عذاب الآخرة.
وقيل: أراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال وأراد بالعذاب الثاني: العذاب بالسيف.
وقيل: أراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا وبهذا العذاب عذاب الآخرة.
وقال الحسن: الآية الأولى وهو قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم} منسوخة بقوله وما لهم ألا يعذبهم الله وفيه بعد لأن الاخبار لا يدخلها النسخ ثم بين ما لأجله يعذبهم فقال تعالى: {وهم يصدون عن المسجد الحرام} يعني وهم يمنعون المؤمنين عن الطواف بالبيت وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية {وما كانوا أولياءه} قال الحسن: كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام فرد الله عليهم بقوله وما كانوا أولياءه يعني ليسوا أولياء المسجد الحرام {إن أولياؤه إلا المتقون} يعني المؤمنين الذين يتقون الشرك {ولكن أكثرهم} يعني المشركين {لا يعلمون}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام}.
الظاهر أن {ما} استفهامية أي أيّ شيء لهم في انتفاء العذاب وهو استفهام معناه التقرير أي كيف لا يعذبون وهم متّصفون بهذه الحالة المتقضية للعذاب وهي صدّهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت ولا متأهّلين لولايته ومن صدّهم ما فعلوا بالرسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وإخراجه مع المؤمنين داخل في الصدّ كانوا يقولون نحن ولاة البيت نصدّ من نشاء وندخل من نشاء {وأنْ} مصدرية، وقال الأخفش: هي زائدة، قال النّحّاس: لو كان كما قال لرفع تعذيبهم انتهى، فكان يكون الفعل في موضع الحال كقوله: {وما لنا لا نؤمن بالله} وموضع إن نصب أو جر على الخلاف إذ حذف منه اني وهي تتعلق بما تعلّق به {لهم} أي أيّ شيء كائن أو مستقرّ لهم في أن لا يعذبهم الله والمعنى لا حظ لهم في انتفاء العذاب وإذا انتفى ذلك فهم معذبون ولابد وتقدير الطبري وما يمنعهم من أن يعذبوا هو تفسير معنى لا تفسير إعراب وكذلك ينبغي أن يتأوّل كلام ابن عطية أنّ التقدير وما قدرتهم ونحوه من الأفعال موجب أن يكون في موضع نصب والظاهر عود الضمير في أولياءه على {المسجد} لقربه وصحّة المعنى، وقيل {ما} للنفي فيكون إخبارًا أي وليس لهم أن لا يعذبهم الله أي ليس ينتفي العذاب عنم مع تلبّسهم بهذه الحال، وقيل الضمير في {أولياءه} عائد على الله تعالى، وروي عن الحسن والظاهر أن قوله: {وما كانوا أولياءه} استئناف إخبار أي وما استحقوا أن يكونوا ولاة أمره {إن أولياؤه إلا المتقون} أي المتقون للشرك وقال الزمخشري: {إلا المتقون} من المسلمين ليس كل مسلم أيضًا ممن يصلح أن يلي أمره إنما يستأهل ولايته من كان برًا تقيًا فكيف عبدة الأصنام انتهى؟ ويجوز أن يكون {وما كانوا أولياءه} معطوفًا على {وهم يصدّون} فيكون حالًا والمعنى كيف لا يعذبهم الله وهم متّصفون بهذين الوصفين صدّهم عن المسجد الحرام وانتفاء كونهم أولياءه أو أولياءه أي أولياء المسجد أي ليسوا ولاته فلا ينبغي أن يصدّوا عنه أو أولياء الله فهو كفار فيكون قد ارتقى من حال إلى أعظم منها وهو كونهم ليسوا مؤمنين فمن كان صادًّا عن المسجد كافرًا بالله فهو حقيق بالتعذيب والضمير في أنّ {أولياؤه} مترتب على ما يعود عليه في قوله: {وما كانوا أولياءه} واختلفوا في هذا التعذيب فقال قوم: هو الأول إلا أنه كان امتنع بشيئين كون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم واستغفار من بينهم من المؤمنين فلما وقع التمييز بالهجرة وقع بالباقين يوم بدر، وقيل: بل وقع بفتح مكة، وقال قوم: هذا التعذيب غير ذلك فالأوّل: استئصال كلهم فلم يقع لما علم من إسلام بعضهم وإسلام بعض ذراريهم، والثاني: قتل بعضهم يوم بدر، وقال ابن عباس: الأوّل عذاب الدنيا، والثاني: عذاب الآخرة، فالمعنى وما كان الله معذب المشركين لاستغفارهم في الدنيا وما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة ومتعلّق {لا يعلمون} محذوف تقديره {لا يعلمون} أنهم ليسوا أولياءه بل يظنون أنهم أولياؤه والظاهر استدراك الأكثر في انتفاء العلم إذ كان بينهم وفي خلالهم من جنح إلى الإيمان فكان يعلم أن أولئك الصادّين ليسوا أولياء البيت أو أولياء الله فكأنه قيل {ولكن أكثرهم} أي أكثر المقيمين بمكة {لا يعلمون} لتخرج منهم العباس وأم الفضل وغيرهما ممن وقع له علم أو إذ كان فيهم من يعلمه وهو يعاند طلبًا للرياسة أو أريد بالأكثر الجميع على سبيل المجاز فكأنه قيل ولكنهم لا يعلمون كما قيل: قلما رجل يقول ذلك في معنى النفي المحض وإبقاء الأكثر على ظاهره أولى وكونه أريد به الجميع هو تخريج الزمخشري وابن عطية. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبْهُمُ الله}
بيانٌ لاستحقاقهم العذابَ بعد بيانِ أن المانعَ ليس من قِبَلهم، أي وما لهم مما يمنع تعذيبَهم متى زال ذلك وكيف لا يعذّبون {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي وحالُهم ذلك، ومِنْ صدّهم عنه إلجاءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة وإحصارُهم عام الحديبية {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} حالٌ من ضمير يصدون مفيدةٌ لكمال قُبحِ ما صنعوا من الصد فإن مباشرتَهم للصد عنه مع عدم استحقاقِهم لولاية أمرِه في غاية القُبح وهو ردٌّ لما كانوا يقولون: نحنُ ولاةُ البيتِ والحرم فنصد من نشاء ونُدخِل من نشاء {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} من الشرك الذين لا يعبُدون فيه غيرَه تعالى: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه لا ولايةَ لهم عليه، وفيه إشعارٌ بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند، وقيل: أريد بأكثرهم كلُّهم كما يراد بالقلة العدم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله} أي أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم أي لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة إذا زال المانع وكيف لا يعذبون {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي وحالهم الصد عن ذلك حقيقة كما فعلوا عام الحديبية وحكمًا كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى ألجأوهم للهجرة، ولما كانت الآيتان يتراءى منهما التناقض زادوا في التفسير إذا زال ليزول كما ذكرنا، وأنت تعلم أنه إذا حمل التعذيب في كل على تعذيب الاستئصال احتيج إلى القول بوقوعه بعد زوال المانع وهو خلاف الواقع، وقال بعضهم في دفع ذلك: إن التعذيب فيما مر تعذيب الاستئصال وهنا التعذيب بقتل بعضهم، ونقل الشهاب عن الحسن والعهدة عليه أن هذه نسخت ما قبلها، والظاهر أنه أراد النفيين السابقين، والذي في الدر المنثور أنه وكذا عكرمة والسدي قالوا: إن قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] منسوخ بهذه الآية، وأيامًا كان يرد عليه أنه لا نسخ في الإخبار إلا إذا تضمنت حكمًا شرعيًا، وفي تضمن المنسوخ هنا ذلك خفاء، وقال محمد بن إسحاق: أن الآية الأولى متصلة بما قبلها على أنها حكاية عن المشركين فإنهم كانوا يقولون: إن الله تعالى لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب سبحانه أمة ونبيها معها فقص الله تعالى ذلك على نبيه صلى الله عليه وسلم مع قولهم الآخر فكأنه قيل: وإذ قالوا اللهم إلخ وقالوا أيضًا: كيت وكيت ثم رد عليهم بقوله سبحانه: {لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله} على معنى أنهم يعذبون وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون، وفيه أن وقوع ذلك القول منهم في غاية البعد مع أن الظاهر حينئذ أن يقال: ليعذبنا ومعذبنا ونحن نستغفر ليكون على طرز قولهم السابق، وأيضًا الأخبار الكثيرة تأبى ذلك، فقد أخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في شعيب الايمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان فيكم إمامان مضى أحدهما وبقي الآخر وتلا {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ} [الأنفال: 33] إلخ.
وجاء مثل ذلك عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري، وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه الصلاة والسلام فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده ثم قال: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ونحن نستغفرك ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته وقد انحصت الشمس وذهب الجبائي إلى أن المنفي فيما مر عذاب الدنيا وهذا العذاب عذاب الآخرة أي أنه يعذبهم في الآخرة لا محالة وهو خلاف سياق الآية، {وَمَا} على ما عليه الجمهور وهو الظاهر استفهامية، وقيل: إنها نافية أي ليس ينفي عنهم العذاب مع تلبسهم بالصد عن المسجد الحرام {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} أي وما كانوا مستحقين ولاية المسجد الحرام مع شركهم، والجملة في موضع الحال من ضمير يصدون مبينة لكمال قبح ما صنعوا من الصدفان مباشرتهم للصد عنه مع عدم استحقاقهم لولاية أمره في غاية القبح، وهذا رد لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ} أي ما أولياء المسجد الحرام {إِلاَّ المتقون} من الشرك الذي لا يعبدون فيه غيره تعالى، والمراد بهم المسلمون وهذه المرتبة الأولى من التقوى، وما أشرنا إليه من رجوع الضميرين إلى المسجد هو المتبادر المروي عن أبي جعفر والحسن، وقيل: هما راجعان إليه تعالى، وعليه فلا حاجة إلى اعتبار الاستحقاق فيما تقدم آنفًا إذ لم تثبت لهم ولاية الله تعالى أصلًا بخلاف ولاية المسجد فإنهم كانوا متولين له وقت النزول فاحتيج إلى التأويل بنفي الاستحقاق، ويفسر المتقون حينئذ بما هو أخص من المسلمين لأن ولاية الله تعالى لا يكفي فيها الإسلام بل لابد فيها أيضًا من المرتبة الثانية من التقوى وإن وجدت المرتبة الثالثة منها فالولاية ولاية كبرى، وهذا ما نعرفه من نصوص الشرعية المطهرة والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، وغالب الجهلة اليوم على أن الولي هو المجنون ويعبرون عنه بالمجذوب، صدقوا ولكن عن الهدى، وكلما أطبق جنونه وكثر هذيانه واستقذرت النفوس السليمة أحواله كانت ولايته أكمل وتصرف في ملك الله تعالى أتم، وبعضهم يطلق الولي عليه وعلى من ترك الأحكام الشرعية ومرق من الدين المحمدي وتكلم بكلمات القوم وتزيا بزيهم، وليس منهم في عير ولا نفير، وزعم أن من أجهد نفسه في العبادة محجوبًا ومن تمسك بالشريعة مغبونًا، وإن هناك باطن يخالف الظاهر إذا هو عرف انحل القيد ورفع التكليف وكملت النفس:
وألقت عصاها واستقر بها النوى ** كما قرعينا بالأياب المسافر

ويسمون هذا المرشد، صدقوا ولكن إلى النار، والشيخ صدقوا ولكن النجدي، والعارف صدقوا ولكن بسباسب الضلال، والموحد صدقوا ولكن للكفر والايمان، وقد ذكر مونا حجة الإسلام الغزالي هذا النوع من الكفرة الفجرة وقال: إن قتل واحد منهم أفضل عند الله تعالى من قتل مائة كافر، وكذا تكلم فيهم الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بنحو ذلك:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة ** إلى أين يسعى من يغص بماء

والزمخشري جعل المتقون أخص من المسلمين على الوجه الأول أيضًا وهو أبلغ في نفي الولاية عن المذكورين أي لا يصلح لأن يلي أمر المسجد من ليس بمسلم وإنما يستأهل ولايته من كان برًا تقيًا فكيف بالكفرة عبدة الأوثان {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن لا ولاية لهم عليه، وكأنه نبه سبحانه بذكر الأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ولكن يجحده عنادًا، وقد يراد بالأكثر الكل لأن له حكمه في كثير من الأحكام كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم. اهـ.