فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ البَيتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}
في المكاء قولان:
أحدهما: أنه إدخال أصابعهم في أفواههم، قاله مجاهد.
والثاني: هو أن يشبك بين أصابعه ويصفر في كفه بفيه فيكون المكاء هو الصفير، ومنه قول عنترة:
وحليل غنيةٍ تركت مُجدّلا ** تمكو فريصته بشدق الأعلم

أي تصفر بالريح لما طعنته.
وأما التصدية ففيها خمسة أقاويل:
أحدهما: أنه التصفيق، قاله ابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد وقتادة والسدي ومنه قول عمرو بن الإطنابة:
وظلواْ جميعًا لهم ضجة ** مكاء لدى البيت بالتصدية

والثاني: أنه الصد عن البيت الحرام، قاله سعيد بن جبير وابن زيد.
والثالث: أن يتصدى بعضهم لبعض ليفعل مثل فعله، ويصفر له إن غفل عنه، قاله بعض المتأخرين.
الرابع: أنها تفعلة من صد يصد، وهو الضجيج، قاله أبو عبيدة. ومنه قوله تعالى: {إِذَا قَومُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] أي يضجون.
الخامس: أنه الصدى الذي يجيب الصائح فيرد عليه مثل قوله، قاله ابن بحر.
فإن قيل: فلم سمَّى الله تعالى ما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية صلاة وليس منها؟
قيل عن ذلك جوابان:
أحدهما: أنهم كانوا يقيمون التصفيق والصفير مقام الدعاء والتسبيح فجعلوا ذلك صلاة وإن لم يكن في حكم الشرع صلاة.
والثاني: أنهم كانوا يعملون كعمل الصلاة.
{فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُم تَكْفُرُونَ} فيه قولان:
أحدهما: عذاب السيف يوم بدر، قاله الحسن الضحاك وابن جريج وابن إسحاق.
والثاني: أنه يقال لهم في الآخرة {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} وفيه وجهان:
أحدهما: فالقوا.
الثاني: فجربوا.
وحكى مقاتل في نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في المسجد الحرام قام من كفار بني عبد الدار بن قصي رجلان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم يصفران كما يصفر المكاء والمكاء طائر، ورجلان منهم عن يساره يصفقان بأيديهما ليخلطوا عليه صلاته وقراءته، فنزلت هذه الآية فيهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}
قرأ الجمهور {وما كان صلاتُهم} بالرفع {عند البيت لا مكاءً} بالنصب {وتصديةً} كذلك، وروي عن عاصم أنه قرأ: {صلاتَهم} بالنصب {إلا مكاءٌ وتصديةٌ} بالرفع، ورويت عن سليمان الأعمش بخلاف عنه فيما حكى أبو حاتم، وذكر أبو علي عن الأعمش أنه قال في قراءة عاصم: أفإن لحن عاصم تلحن أنت؟ قال أبو الفتح: وقد روي الحرف كذلك عن أبان بن تغلب، قال قوم: وهذه القراءة خطأ لأنه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة، قال أبو حاتم: فإن قيل إن المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس معرفًا ومنكرًا واحد في التعريف، قيل إن استعماله هكذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، كما قال حسان: [الوافر].
كأنَّ سبيئةً من بيت رأس ** يكون مزاجها عسلٌ وماءُ

ولا يقاس على ذلك، فأما أبو الفتح فوجه هذه القراءة بما ذكرناه من تعريف اسم الجنس وبعد ذلك يرجح قراءة الناس قال أبو علي الفارسي: وإنما ذهب من ذهب إلى هذه القراءة لما رأى الفعل أن الصلاة مؤنثة ورأى المسند إليها ليس فيه علامة تأنيث فأراد تعليقه بمذكر وهو المكاء، وأخطأ في ذلك، فإن العرب تعلق الفعل لا علامة فيه بالمؤنث، ومنه قوله تعالى: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} [هود: 67] وقوله: {فانظر كيف كان عاقبة مكرهم} [النمل: 51] {وكيف كان عاقبة المفسدين} [الأعراف: 86- 103، النمل: 14] ونحو هذا مما أسند فيه الفعل دون علامة إلى المؤنث، والمكاء على وزن الفعال الصفير قاله ابن عباس والجمهور، فقد يكون بالفم وقد يكون بالأصابع والكف في الفم، قال مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد يشارك الأنف يقال مكا يمكو إذا صفر، ومنه قول عنترة: [الكامل]
وخليل غانية تركت مجدلًا ** تمكو فريصته كشدق الأعلم

ومنه قول الشاعر:
فكأنما يمكو بأعصم عاقل ** يصف رجلًا فر به حيوان

ومنه قول الطرماح: [الكامل]
فنحا لأولاها بطعنة محفظ ** تمكو جوانبها من الإنهار

ومكت است الدابة إذا صفرت يقال ولا تمكو إلا است مكشوفة ومن هذا قيل للاست مكوة قال أبو علي: فالهمزة في {مكاء} منقلبة عن واو.
قال القاضي أبو محمد: ومن هذا قيل للطائر المكّاء لأنه يمكو أي يصفر في تغريده، ووزنه فعّال بشد العين كخطاف، والأصوات في الأكثر تجيء على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والدعاء والجؤار والنباح ونحوه، وروي عن قتادة أن المكاء صوت الأيدي وذلك ضعيف، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ {إلا مكا} بالقصر، والتصدية عبر عنها أكثر الناس بأنها التصفيق، وقتادة بأنه الضجيج والصياح، وسعيد بن جبير بأنها الصد والمنع، ومن قال التصفيق قال: إنما كان للمنع عن ذكر الله ومعارضة لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، والتصدية يمكن أن تكون من صدى يصدى إذا صوت والصدى الصوت، ومنه قول الرماح يصف الأروية: [الطويل]
لها كلما ريعت صداة وركدة ** بمصران أعلى ابني شمام البوائن

فيلتئم على هذا الاشتقاق قوم من قال: هو التصفيق، وقول من قال الضجيج، ولا يلتئم عليه قول من قال هو الصد والمنع إلا أن يجعل التصويت إنما يقصد به المنع، ففسر اللفظ بالمقصود لا بما يخصه من معناه، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصد استعمل الفعل مضعفًا للمبالغة والتكثير لا ليعدى فقيل صدد، وذلك أن الفعل الذي يتعدى إذا ضعف فإنما يضعف للتكثير، إذ التعدي حاصل قبل التضعيف، وذلك نحو قوله: {وغلقت الأبواب} [يوسف: 23] والذي يضعف ليعدى هو كقولهم علم وغرم فإذا قلنا في صد صدد ففعل في الصحيح يجيء مصدره في الأكثر على تفعيل وفي الأقل على تفعلة مثل كمل تكميلًا وتكملة وغير ذلك، بخلاف المعتل فإنه يجيء في الأكثر على تفعلة مثل عزى وتعزية وفي الشاذ على تفعيل، مثل قول الشاعر: [الرجز]
بات ينزي دَلْوَه تنزّيا

وإذا كان فعل في الصحيح يتسق فيه المثلان رفض فيه تفعلة مثل قولنا تصدية وصير إلى تفعيل لتحول الياء بين المثلين كتخفيف وتشديد، فلما سلكوا مصدر صدد المسلك المرفوض أصلح ذلك بأن إبدال أحد المثلين ياء كبدلهم في تظننت ونحوه، فجاء تصدية فعلى هذا الاشتقاق يلتئم قول من قال التصدية الصد عن البيت والمنع، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصِد بكسر الصاد في المستقبل إذا ضج، ويبدل أيضًا على هذا أحد المثلين، ومنه قوله تعالى: {إذا قومك منه يصِدون} [الزخرف: 57] بكسر الصاد، ذكره النحاس، وذهب أكثر المفسرين إلى أن المكاء والتصدية إنما أحدثها الكفار عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقطع عليه يمينه وشماله من يمكو ويصدي حتى تختلط عليه قراءته، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول، وكيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده؟ فقطع الله هذا الاعتراض بأن قال وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية، وهذا كما يقول رجل أنا أفعل الخير فيقال له ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل، أي هذه عادتك وغايتك.
قال القاضي أبو محمد: والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كان من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع، ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء، وبينهما أربعة أميال، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة، إنما كانت مُكاء وتصدية من نوع اللعب، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة، وقوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف قاله ابن جريج والحسن والضحاك، فيلزم من هذا أن هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولابد.
قال القاضي أبو محمد: والأشبه أن الكل نزل بعد بدر حكاية عما مضى والله ولي التوفيق برحمته. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ}
سبب نزولها: أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويصفِّقون ويَصْفِرُون ويضعون خدودهم بالأرض، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر.
فأما المكاء ففيه قولان:
أحدهما: أنه الصَّفير، قاله ابن عمر، وابن عباس، وابن جبير، وقتادة، وأبو عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة.
قال ابن فارس: يقال: مكا الطائر يمكو مُكاءً: إذا صَفَر، ويقال: مَكِيَتْ يده تَمكى مَكىً، مقصور، أي: غلُظت وخشُنت، ويقال: تمكّى: إذا توضأ.
وأنشدوا:
[إنَّكَ والجَوْرَ على سبيل] ** كالمُتَمَكِّي بدمِ القتيلِ

وسئل أبو سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء، فجمع كفَّيِه وجعل يَصْفِر فيهما.
والثاني: أنه إدخال أصابعهم في أفواههم يخلطون به وبالتصدية على محمد صلى الله عليه وسلم صلاتَه، قاله مجاهد: قال ابن الأنباري: أهل اللغة ينكرون أن يكون المكاء إدخالَ الأصابع في الأفواه، وقالوا: لا يكون إلا الصفير.
وفي التصدية قولان:
أحدهما: أنها التَّصفيق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والجمهور.
قال ابن قتيبة: يقال: صدَّى: إذا صفَّق بيديه.
قال الراجز:
ضنَّت بخَدٍّ وجَلَت ْعَن خَدِّ ** وأنا مِنْ غَرْوِ الهوى أُصَدِّي

الغرو: العجب، يقال: لا غرو من كذا، أي: لا عجب.
والثاني: أن التصدية: صدُّهم الناس عن البيت الحرام، قاله سعيد بن جبير.
وقال ابن زيد: هو صدُّهم عن سبيل الله ودينه.
وزعم مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في المسجد الحرام، قام رجلان من المشركين من بني عبد الدار عن يمينه فيصفِران، ورجلان عن يساره فيصفِّقان، فتختلط على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وقراءته، فقتلهم الله ببدر، فذلك قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} بتوحيد الله.
فإن قيل: كيف سمى المكاءَ والتصديةَ صلاةً؟.
فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري.
أحدهما: أنهم جعلوا ذلك مكان الصلاة، ومشهور في كلام العرب أن يقول الرجل: زرت عبد الله، فجعل جفائي صِلَتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة، قال الشاعر:
قُلْتُ له اطْعِمِني عَمِيْمُ تَمْرَا ** فَكَانَ تَمْريْ كَهْرَةً وَزَبْرا

أي: أقام الصياح عليَّ مقام التمر.
والثاني: أن من كان المكاءُ والتصديةُ صلاتَه، فلا صلاة له، كما تقول العرب: ما لفلان عيب إلا السخاء، يريدون: مِنَ السخاء عيبه، فلا عيب له، قال الشاعر:
فتىً كَمُلَتْ خيراتُهُ غير أنَّه ** جوادٌ فلا يُبقي من المال باقيا

. اهـ.