فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد إلى هذا الموضع فمن هذا الموضع إلى قوله: {يا بنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم} [البقرة: 40] في شرح النعم التي عمت جميع المكلفين وهي أربعة: أولها: نعمة الإحياء وهي المذكورة في هذه الآية.
واعلم أن قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} وإن كان بصورة الاستخبار فالمراد به التبكيت والتعنيف، لأن عظم النعمة يقتضي عظم معصية المنعم، يبين ذلك أن الوالد كلما عظمت نعمته على الولد بأن رباه وعلمه وخرجه وموله وعرضه للأمور الحسان، كانت معصيته لأبيه أعظم، فبين سبحانه وتعالى بذلك عظم ما أقدموا عليه من الكفر، بأن ذكرهم نعمه العظيمة عليهم ليزجرهم بذلك عما أقدموا عليه من التمسك بالكفر ويبعثهم على اكتساب الإيمان، فذكر تعالى من نعمه ما هو الأصل في النعم وهو الأحياء، فهذا هو المقصود الكلي، فإن قيل لم كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم؟ قلنا لأن الأحياء الأول قد يعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخيًا ظاهرًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}.
ثُني عنان الخطاب إلى الناس الذين خوطبوا بقوله آنفًا: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21]، بعد أن عقب بأفانين من الجمل المعترضة من قوله: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري} [البقرة: 25] إلى قوله: {الخاسرون} [البقرة: 27].
وليس في قوله: {كيف تكفرون بالله} تناسب مع قوله: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلًا ما} [البقرة: 26] وما بعده مما حكى عن الذين كفروا في قولهم: {ماذا أراد الله بهذا مثلًا} [البقرة: 26] حتى يكون الانتقالُ إلى الخطاب في قوله: {تكفرون} التفاتًا، فالمناسبة بين موقع هاته الآية بعد ما قبلها هي مناسبة اتحاد الغرض، بعد استيفاء ما تخلل واعترض.
ومن بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات أن كانت العلل التي قرن بها الأمر بعبادة الله تعالى في قوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] الخ هي العلل التي قرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر به تعالى في قوله هنا: {كيف تكفرون بالله} فقال فيما تقدم: {الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 21] {الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناء} [البقرة: 22] الآية وقال هنا: {وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29] وكان ذلك مبدأ التخلص إلى ما سيرد من بيان ابتداء إنشاء نوع الإنسان وتكوينه وأطواره.
فالخطاب في قوله: {تكفرون} متعين رجوعه إلى {الناس} وهم المشركون لأن اليهود لم يكفروا بالله ولا أنكروا الإحياء الثاني. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{فأحياكم} وبابه بالإمالة: علي.
{ترجعون} بفتح التاء وكسر الجيم كل القرآن: يعقوب. وهو بابه بسكون الهاء: أبو جعفر ونافع غير ورش وعلي وأبو عمرو.

.الوقوف:

{فأحياكم} ج للعدول أي ثم هو يميتكم مع اتحاد مقصود الكلام {ترجعون} ط {سموات} ط {عليم}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال القرطبي:

{كيف} سؤال عن الحال، وهي اسم في موضع نصب ب {تَكْفُرُونَ} وهي مبنيّة على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة؛ لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف، واختير لها الفتح لخفته؛ أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجّب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله؟ فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أمر محمد عليه السلام ولم يصدّقوه فيما جاء به فقد أشركوا؛ لأنهم لم يقرّوا بأن القرآن من عند الله.
ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضًا للعهد.
وقيل: {كيف} لفظه لفظ الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ؛ أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه! قال الواسطيّ: وبّخهم بهذا غاية التوبيخ؛ لأن المَوَات والجماد لا ينازع صانعه في شيء، وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية.
قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} هذه الواو واو الحال، وقد مضمرة.
قال الزجاج: التقدير وقد كنتم، ثم حذفت قد.
وقال الفرّاء: {أمواتًا} خبر {كنتم}.
{فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} هذا وقف التمام؛ كذا قال أبو حاتم. اهـ.

.قال الطبرسي:

وهذا التعجب إنما هو للخلق، أو للمؤمنين أي: اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون، وقد ثبتت حجة الله عليهم. ومعنى وكنتم: وقد كنتم. والواو واو الحال. وإضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه، ومثله قوله تعالى: {أو جاءوكم حصرت صدورهم} أي: قد حصرت صدورهم. وهي جملة في موضع الحال، وإنما وجب إظهار قد في مثل هذا، أو تقديرها، لأن الماضي لا يكون حالا. وقد إنما يكون لتقريب العهد. ولتقريب الحال، فبدخوله يصلح أن يكون الفعل الماضي حالا. المعنى: ثم عاد الله تعالى إلى الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث، وجحودهم لرسله وكتبه، بما أنعم به عليهم، فقال: {كيف تكفرون بالله} ومن قال هو توبيخ قال: معناه ويحكم كيف تكفرون؟ كما يقال: كيف تكفر نعمة فلان وقد أحسن إليك؟ ومن قال هو تعجب قال: تقديره عجبا منكم على أي حال يقع منكم الكفر بالله، مع الدلائل الظاهرة على وحدانيته، والمعجزات القاهرة على صدق من اختصه برسالته، وقيام الحجج الباهرة على وجوب طاعته، وشكر نعمته. اهـ.

.قال ابن عاشور:

و{كيف} اسم لا يعرف اشتقاقه يدل على حالة خاصة وهي التي يقال لها الكيفية نسبة إلى كيف ويتضمن معنى السؤال في أكثر موارد استعماله فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء لأنه أفاد معنى في نفسه إلا أن المعنى الاسمي الذي دل عليه لما كان معنى مبهمًا شابه معنى الحرف فلما أشربوه معنى الاستفهام قوي شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء فلذلك لابد له من محلِّ إعراب، وأكثر استعماله اسمُ استفهام فيعرب إعراب الحال.
ويستفهم بكيف عن الحال العامة.
والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة قوله: {وكنتم أمواتًا} الخ أي إن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفيًا لا تركن إليه النفس الرشيدة لوجود ما يصرف عنه وهو الأحوال المذكورة بعْدُ فكان من شأنه أن يُنكر فالإنكار متولد من معنى الاستفهام ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم اللفظ، وكأن المنكر يريد أن يقطع معذرة المخاطب فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب بما يُظهر السبب فيُبطل الإنكار والعجَب حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقًا باللوم والوعيد.
والكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكَفَر الثلاثي القاصر وأصله جَحْد المنعَم عليه نعمةَ المنْعِم، اشتق من مادة الكَفر بفتح الكاف وهو الحَجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها.
وضده الشكر ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشُّكر وقالوا أيضًا كفران على وزن شُكران، ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجَّهَ بالشكر لغير المنعِم وتركَ المنعِم حين عزمه على التوجه بالشكر ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم يتفطن لذلك، فكان أكثرُ إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم يَرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله.
وقل ورود فعل الكفر أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} [البقرة: 105] وقولِه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] يريد اليهود.
وأما إطلاقه في السنة وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك.
وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول عليه السلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقًا على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر ولكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله.
وفرق المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات بعض الصفات لله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى.
ومذهب أهل الحق من السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين، والقول بتكفير العصاة خطر على الدين لأنه يؤول إلى أنحلال جامعة الإسلام ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشدًا أنا الغريق فما خوفي من البلل.
ولا يكفر أحد بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن كثيرًا من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالًا لله تعالى وربما أفرطوا في ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى، وكثير من الفرق أثبتوا صفات ما قصدوا من إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم بأن الله لا يشبه الحوادث. اهـ.

.قال الألوسي:

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} التفات إلى خطاب أولئك بعد أن عدد قبائحهم المستدعية لمزيد سخطه تعالى عليهم والإنكار إذا وجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجيهه إلى الغائب وأردع له لجواز أن لا يصله.
و{كَيْفَ} اسم إما ظرف وعزي إلى سيبويه فمحلها نصب دائمًا، أو غير ظرف وعزي إلا الأخفش فمحلها رفع مع المبتدأ، ونصب مع غيره، وادعى ابن مالك أن أحدًا لم يقل بظرفيتها إذ ليست زمانًا ولا مكانًا لكن لكونها تفسر بقولك على أي حال أطلق اسم الظرف عليها مجازًا، واستحسنه ابن هشام ودخول الجر عليها شاذ.
وأكثر ما تستعمل استفهامًا والشرط بها قليل والجزم غير مسموع، وأجازه قياسًا الكوفيون وقطرب، والبدل منها أو الجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوب ومع ما لا يستغني مرفوع إن كان مبتدأ ومنصوب إن كان ناسخًا.
وزعم ابن موهب أنها تأتي عاطفة وليس بشيء، وهي هنا للاستخبار منضمًا إليه الإنكار والتعجيب لكفرهم بإنكار الحال الذي له مزيد اختصاص بها وهي العلم بالصانع والجهل به، ألا يرى أنه ينقسم باعتبارهما فيقال: كافر معاند وكافر جاهل؟ فالمعنى أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل وأنتم عالمون بهذه القصة؟ وهو يستلزم العلم بصانع موصوف بصفات منزه عن النقصان، وهو صارف قوي عن الكفر، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتوبيخ، وفيه إيذان بأن كفرهم عن عناد وهو أبلغ في الذم.
وفيه من المبالغة أيضًا ما ليس في أتكفرون لأن الإنكار الذي هو نفي قد توجه للحال التي لا تنفك، ويلزم من نفيها نفي صاحبها بطريق البرهان، وإن شئت عممت الحال.
وإنكار أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها مع أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال يستدعي إنكار وجود الكفر بذلك الطريق، ولا يرد أن الاستخبار محال على اللطيف الخبير عز شأنه لأنه إما أن يكون بمعنى طلب الخبر فلا نسلم المحالية إذ قد يكون لتنبيه المخاطب وتوبيخه ولا يقتضي جهل المستخبر ولا يلزم من ضم الإنكار والتعجيب إليه وهما من المعاني المجازية للاستفهام الجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان الاستخبار حقيقة للصيغة، وبين معنيين مجازيين إن كان مجازًا لأن الانفهام بطريق الاستتباع واللزوم لا من حاق الوسط، أو أنه تجوّز على تجوّز لشهرة الاستفهام في معنى الاستخبار حتى كأنه حقيقة فيه، وإما أن يكون بمعنى الاستفهام فنقول: لا قدح في صدوره ممن يعلم المستفهم عنه لأنه كما في الإتقان طلب الفهم.
أما فهم المستفهم وهو محال عليه تعالى أو وقوع فهمه ممن لا يفهم كائنًا من كان ولا استحالة فيه منه تعالى، وكذا لا استحالة في وقوع التعجيب منه تعالى بل قالوا: إذا ورد التعجب من الله جل وعلا لم يلزم محذور إذ يصرف إلى المخاطب أو يراد غايته أو يرجع إلى مذهب السلف، وأتى سبحانه بتكفرون ولم يأت بالماضي وإن كان الكفر قد وقع منهم لأن الذي أنكر الدوام والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون في الكلام توبيخ لمن وقع منه الكفر ممن آمن كأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم. اهـ.

.قال الفخر:

قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن الكفر من قبل العباد من وجوه:
أحدها: أنه تعالى لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} موبخًا لهم، كما لا يجوز أن يقول كيف تسودون وتبيضون وتصحون وتسقمون لما كان ذلك أجمع من خلقه فيهم.
وثانيها: إذا كان خلقهم أولًا للشقاء والنار وما أراد بخلقهم إلا الكفر وإرادة الوقوع في النار، فكيف يصح أن يقول موبخًا لهم كيف تكفرون؟
وثالثها: أنه كيف يعقل من الحكيم أن يقول لهم: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} حال ما يخلق الكفر فيهم ويقول: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ} [الإسراء: 94] حال ما منعهم عن الإيمان ويقول: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20]، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وهو يخلق فيهم الأعراض ويقول: {أَنّى تُؤْفَكُونَ فأنى تُصْرَفُونَ} ويخلق فيهم الإفك والصرف ومثل هذا الكلام بأن يعد من السخرية أولى من أن يذكر في باب إلزام الحجة على العباد.
ورابعها: أن الله تعالى إذا قال للعبيد: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} فهل ذكر هذا الكلام توجيهًا للحجة على العبد وطلبًا للجواب منه أو ليس كذلك؟ فإن لم يكن لطلب هذا المعنى لم يكن في ذكره فائدة فكان هذا الخطاب عبثًا، وإن ذكره لتوجيه الحجة على العبد، فللعبد أن يقول حصل في حقي أمور كثيرة موجبة للكفر.
فالأول: أنك علمت بالكفر مني والعلم بالكفر يوجب الكفر.
والثاني: أنك أردت الكفر مني وهذه الإرادة موجبة له.
والثالث: أنك خلقت الكفر في وأنا لا أقدر على إزالة فعلك.
والرابع: أنك خلقت في قدرة موجبة للكفر.
والخامس: أنك خلقت في إرادة موجبة للكفر.
والسادس: أنك خلقت في قدرة موجبة للإرادة الموجبة للكفر ثم لما حصلت هذه الأسباب الستة في حصول الكفر والإيمان يوقف على حصول هذه الأسباب الستة في طرف الإيمان وهي بأسرها كانت مفقودة، فقد حصل لعدم الإيمان اثنا عشر سببًا كل واحد منها مستقل بالمنع من الإيمان، ومع قيام هذه الأسباب الكثيرة كيف يعقل أن يقال كيف تكفرون بالله؟
وخامسها: أنه تعالى قال لرسوله قل لهم كيف تكفرون بالله الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة أعني نعمة الحياة وعلى قول أهل الجبر لا نعمة له تعالى على الكافر، وذلك لأن عندهم كل ما فعله الله تعالى بالكافر فإنما فعله ليستدرجه إلى الكفر ويحرقه بالنار، فأي نعمة تكون لله على العبد على هذا التقدير وهل يكون ذلك إلا بمنزلة من قدم إلى غيره صحفة فالوذج مسموم فإن ظاهره وإن كان لذيذًا ويعد نعمة لكن لما كان باطنه مهلكًا فإن أحدًا لا يعده نعمة، ومعلوم أن العذاب الدائم أشد ضررًا من ذلك السم فلا يكون لله تعالى نعمة على الكافر، فكيف يأمر رسوله بأن يقول لهم كيف تكفرون بمن أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة، والجواب: أن هذه الوجوه عند البحث يرجع حاصلها إلى التمسك بطريقة المدح والذم والأمر والنهي والثواب والعقاب، فنحن أيضًا نقابلها بالكلام المعتمد في هذه الشبهة، وهو أن الله سبحانه وتعالى علم أنه لا يكون، فلو وجد لانقلب علمه جهلًا وهو محال ومستلزم المحال محال، فوقوعه محال مع أنه قال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} وأيضًا فالقدرة على الكفر إن كانت صالحة للإيمان امتنع كونها مصدرًا للإيمان على التعيين إلا لمرجح، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد السؤال، وإن كان من الله فما لم يحصل ذلك المرجح من الله امتنع حصول الكفر، وإذا حصل ذلك المرجح وجب، وعلى هذا كيف لا يعقل قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} واعلم أن المعتزلي إذا طول كلامه وفرع وجوهه في المدح والذم فعليك بمقابلتها بهذين الوجهين فإنهما يهدمان جميع كلامه ويشوشان كل شبهاته وبالله التوفيق. اهـ.
قال الفخر:
اتفقوا على أن قوله: {وَكُنتُمْ أمواتا} المراد به وكنتم ترابًا ونطفًا، لأن ابتداء خلق آدم من التراب وخلق سائر المكلفين من أولاده إلا عيسى عليه السلام من النطف، لكنهم اختلفوا في أن إطلاق اسم الميت على الجماد حقيقة أو مجاز والأكثرون على أنه مجاز لأنه شبه الموات بالميت وليس أحدهما من الآخر بسبيل لأن الميت ما يحل به الموت ولابد وأن يكون بصفة من يجوز أن يكون حيًا في العادة فيكون اللحمية والرطوبة وقال الأولون هو حقيقة فيه وهو مروي عن قتادة، قال كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى ثم أخرجهم ثم أماتهم الموتة التي لابد منها، ثم أحياهم بعد الموت.
فهما حياتان وموتتان واحتجوا بقوله: {خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] والموت المقدم على الحياة هو كونه مواتًا فدل على أن إطلاق الميت على الموات ثابت على سبيل الحقيقة والأول هو الأقرب، لأنه يقال في الجماد إنه موات وليس بميت فيشبه أن يكون استعمال أحدهما في الآخر على سبيل التشبيه قال القفال: وهو كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان: 1] فبين سبحانه وتعالى أن الإنسان كان لا شيء يذكر فجعله الله حيًا وجعله سميعًا بصيرًا ومجازه من قولهم فلان ميت الذكر.
وهذا أمر ميت، وهذه سلعة ميتة، إذا لم يكن لها طالب ولا ذاكر قال المخبل السعدي:
وأحييت لي ذكرى وما خاملا.. ولكن بعض الذكر أنبه من بعض فكذا معنى الآية: {وَكُنتُمْ أمواتا} أي خاملين ولا ذكر لكم لأنكم لم تكونوا شيئًا {فأحياكم} أي فجعلكم خلقًا سميعًا بصيرًا. اهـ.
قال الفخر:
احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القبر، قالوا لأنه تعالى بين أنه يحييهم مرة في الدنيا وأخرى في الآخرة ولم يذكر حياة القبر ويؤكده قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15، 16] ولم يذكر حياة فيما بين هاتين الحالتين، قالوا ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] لأنه قول الكفار، ولأن كثيرًا من الناس أثبتوا حياة الذر في صلب آدم عليه السلام حين استخرجهم وقال: {أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ} [الأعراف: 172] وعلى هذا التقدير حصل حياتان وموتتان من غير حاجة إلى إثبات حياة في القبر، فالجواب لم يلزم من عدم الذكر في هذه الآية أن لا تكون حاصلة، وأيضًا فلقائل أن يقول: إن الله تعالى ذكر حياة القبر في هذه الآية.
لأن قوله في يحييكم ليس هو الحياة الدائمة وإلا لما صح أن يقول: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لأن كلمة ثم تقتضي التراخي، والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة الدائمة من غير تراخ فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلًا على حياة القبر كان قريبًا. اهـ.
سؤال:
فإن قيل: كيف يجوز التعجب من الله تعالى؟ وإنما يجوز التعجب ممن رأى شيئًا لم يكن رآه أو سمع شيئًا لم يكن سمعه فيتعجب لذلك، والله تعالى قد علم الأشياء قبل كونها.
قيل له: التعجب من الله تعالى يكون على وجه التعجيب، والتعجيب هو أن يدعو إلى التعجب فكأنه يقول: ألا تتعجبون أنهم يكفرون بالله؟ وهذا كما قال في آية أخرى {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} [الرعد: 5]. اهـ.
قال الفخر:
قال الحسن رحمه الله قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} يعني به العامة، وأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات نحو ما حكى في قوله: {أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] إلى قوله: {فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259] وكقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أحياهم} [البقرة: 243] وكقوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 55 56] وكقوله: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كذلك يُحْىِ الله الموتى} [البقرة: 73] وكقوله: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21] وكقوله في قصة أيوب عليه السلام: {وآتيناه أهله ومثلهم معهم} [الأنبياء: 84] فإن الله تعالى رد عليه أهله بعد ما أماتهم. اهـ.