فصل: قال البيضاوي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم خاطبهم على سبيل المجازاة بقوله: {فذوقوا العذاب} عذاب القتل والأسر يوم بدر أو عذاب الآخرة {بما كنتم تكفرون} بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.
ولما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية فقال: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم} الآية. قال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلًا: أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حزام وأبيّ بن خلف وزمعة بن أسود والحرث بن عامر بن نوفل والعباس ابن عبد المطلب. وكلهم من قريش وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. وقال سعيد بن جبير وابن أبزى: نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش- والأحبوش جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة- وأنفق عليهم أربعين أوقية من فضة. والأوقية اثنان وأربعون مثقالًا- قاله في الكشاف. وقال محمد بن إسحاق عن رجاله: لما أصيب قريش يوم بدر فرجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدًا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرًا لمن أصيب منا فأنزل الله تعالى الآية. ومعنى {ليصدّوا عن سبيل الله} أن غرضهم في الإنفاق كان هو الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك. ثم أخبر عن الغيب على وجه الإعجاز فقال: {فيسنفقونها} أي سيقع منهم هذا الإنفاق ثم تكون عاقبة إنفاقها ندمًا وحسرة فكأن ذاتها تصير ندمًا وتنقلب حسرة ثم يغلبون آخر الأمر وإن كانت الخرب بينهم وبين المؤمنين سجالًا لقوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] ومعنى ثمك في الجملتين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكوروبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة. ثم قال: {والذين كفروا} أي الكافرون منهم ولم يقل ثم يغلبون وإلى جهنم يحشرون لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه فذكر أن الذي بقوا على الكفر لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم دون من أسلم منهم. ثم بين الغاية والغرض فيما يفعل بهم من الغلبة ثم الحشر إلى جهنم فقال: {ليميز الله الخبيث} أي الفريق الخبيث من الكفار {من} الفريق {الطيب} وهم المؤمنون {ويجعل} الفريق {الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا} عبارة عن الجمع والضم وفرط الازدحام.
يقال: ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعض {أولئك} الفريق الخبيث {هم الخاسرون} وقيل: الخبيث والطيب صفة المال أي ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المال الطيب الذي أنفقه المهاجرون والأنصار في نصرته فيركمه فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها على بعض فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها كقوله: {فتكوى بها جباههم وجنوبهم} [التوبة: 35] وعلى هذا فاللام في قوله: {ليميز الله} يتعلق بقوله: {ثم تكون عليهم حسرة} قاله في الكشاف. ولا يبعد عندي أن يتعلق ب {يحشرون} و{أولئك} إشارة إلى الذين كفروا. ولما بين ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى الطريق المستقيم وما يتبعه من الصلاح فقال: {قل للذين كفروا} أي قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عما هم عليه من عداوة الرسول وقتاله بالدخول في السلم والإسلام {يغفر لهم ما قد سلف} من الكفر والمعاصي. ولو كان المراد خطابهم بهذا القول لقيل: أن تنتهوا يغفر لكم. وقد قرأ بذلك ابن مسعود {وإن تعودوا} لقتاله {فقد مضت سنة الأوّلين} منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر أو سنة الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم فأهلكوا أو غلبوا كقوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] واستدل كثير من العلماء منهم أصحاب أبي حنيفة الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام لأن الخطاب مع الكفر باطل بالإجماع وبعد زواله لا يؤمر بقضاء العبادات الفائتة، بل ذهب أبو حنيفة إلى أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردة وقبلها وفسر {وإن يعودوا} بالعودة إلى الردة. واختلفوا في أن الزنديق هل تقبل تبوته أم لا؟ والصحيح أنها مقبولة لشمول الآية جميع الكفار لقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن نحكم بالظاهر» ولأنه يكلف بالرجوع ولا طريق له إلا التوبة، فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق. ثم أمر بقتالهم إن أصروا على الكفر فقال: {وقاتلوهم} الآية. وقد مر تفسيره في سورة البقرة إلا أنه زاد هاهنا لفظة {كله} في قوله: {ويكون الدين كله لله} لأن القتال هاهنا مع جميع الكفار وهناك كان مع أهل مكة فحسب {فإن انتهوا} عن الكفر وأسلموا {فإن الله بما يعملون بصير} يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. ومن قرأ بتاء الخطاب أراد فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه بصير يجازيكم عليه أحسن الجزاء.
{وإن تولوا} ولم ينتهوا {فاعلموا أن الله مولاكم} ناصركم ومتولي أموركم يحفظكم ويدفع شر الكفار عنكم فإنه {نعم المولى ونعم النصير} فثقوا بولايته ونصرته. اهـ.

.قال البيضاوي في الآيات السابقة:

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} بقوتكم.
{ولكن الله قَتَلَهُمْ} بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم. روي: أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان تناول كفًا من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال: «شاهت الوجوه»، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت، فنزلت. والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم.
{وَمَا رَمَيْتَ} يا محمد رميًا توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه.
{إِذْ رَمَيْتَ} أي إذ أتيت بصورة الرمي.
{ولكن الله رمى} أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعًا حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم، وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه. وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم. وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات. أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه، والجمهور على الأول. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {ولكن} بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين.
{وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات فعل ما فعل.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ} لاستغاثتهم ودعائهم.
{عَلِيمٌ} بنياتهم وأحوالهم.
{ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل أو الرمي، ومحله الرفع أي المقصود أو الأمر ذلكم وقوله: {وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} معطوف عليه أي المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {مُوهِنُ} بالتشديد، وحفص {مُوهِنُ كَيْدِ} بالإِضافة والتخفيف.
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح} خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين.
{وَإِن تَنتَهُواْ} عن الكفر ومعاداة الرسول {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين.
{وَإِن تَعُودُواْ} لمحاربته.
{نَعُدُّ} لنصرته عليكم.
{وَلَن تُغْنِىَ} ولن تدفع.
{عَنكُمْ فِئَتُكُمْ} جماعتكم.
{شَيْئًا} من الإغناء أو المضار.
{وَلَوْ كَثُرَتْ} فئتكم.
{وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} بالنصر والمعونة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص {وَأَنْ} بالفتح على تقدير ولأن الله مع المؤمنين كان ذلك. وقيل الآية خطاب للمؤمنين والمعنى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يستأثره الرسول فهو خير لكم وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو، ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فإنه مع الكاملين في إيمانهم ويؤيد ذلك.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} أي ولا تتولوا عن الرسول، فإن المراد من الآية الأمر بطاعته والنهي عن الإِعراض عنه، وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله في طاعة الرسول لقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} وقيل الضمير للجهاد أو للأمر الذي دل عليه الطاعة.
{وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق.
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا} كالكفرة والمنافقين الذين ادعوا السماع.
{وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} سماعًا ينتفعون به فكأنهم لا يسمعون رأسًا.
{إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} شر ما يدب على الأرض، أو شر البهائم.
{الصم} عن الحق.
{البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ} إياه، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها لإِبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله.
{وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا} سعادة كتبت لهم أو انتفاعًا بالآيات.
{لأَسْمَعَهُمْ} سماع تفهم.
{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} وقد علم أن لا خير فيهم.
{لَتَوَلَّواْ} ولم ينتفعوا به، أو ارتدوا بعد التصديق والقبول.
{وَهُم مُّعْرِضُونَ} لعنادهم. وقيل كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أحيي لنا قصيًا فإنه كان شيخًا مباركًا حتى يشهد لك ونؤمن بك. والمعنى لأسمعهم كلام قصي.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} بالطاعة.
{إِذَا دَعَاكُمْ} وحد الضمير فيه لما سبق ولأن دعوة الله تسمع من الرسول. وروي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك عن إجابتي قال: كنت أصلي، قال: «ألم تخبر فيما أوحي إلي: {استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}». واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضًا إجابة. وقيل لأن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله وظاهر الحديث يناسب الأول.
{لِمَا يُحْيِيكُمْ} من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته. قال:
لاَ تعْجَبَنَّ الجَهُولَ حِلَّته ** فَذَاكَ مَيتٌ وَثَوْبُهُ كَفَن

أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال، أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم، أو الشهادة لقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} {واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته، وبينه وبين الإِيمان إن قضى شقاوته. وقرئ {بَيْنَ المرء} بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل مجرى الوقف على لغة من يشدد فيه.
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازيكم بأعمالكم.
{واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} اتقوا ذنبًا يعمكم أثره كإقرار المنكر بين أظهركم والمداهنة في الأمر بالمعروف وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد على أن قوله لا تصيبن إما جواب الأمر على معنى أن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة بل تعمكم، وفيه أن جواب الشرط متردد فلا يليق به النون المؤكدة لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى: {ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} وأما صفة ل {لفتنة}، ولا للنفي وفيه شذوذ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم، أو لنهي على إرادة القول كقوله:
حتى إذا جن الظلام واختلط ** جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط