فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{فلم تقتلوهم} أي: بقوّتكم {ولكنّ الله قتلهم} أى: بنصره إياكم بأن هزمهم لكم.
قال البيضاوي تبعًا للزمخشريّ: والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم، فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم. اهـ.
ورده ابن هشام بأنّ الجواب المنفي بلم لا تدخل عليه الفاء، واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {وما رميت} يا محمد {إذ رميت ولكنّ الله رمى} على ثلاثة أقوال: الأوّل وهو قول أكثر المفسرين نزلت في يوم بدر، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب إلى قتال بدر نزلوا بدرًا ووردت عليهم روّاد قريش وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج وأبو يسار غلام لبني العاصي بن سعد، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أين قريش؟ فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذي بالعدوة القصوى الكثيب العقنقل، وهو الكثيب العظيم المتداخل الرمل، قاله الجوهريّ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم القوم؟» قالا: كثير، قال: ما عدّتهم، قالا: لا ندري، قال: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يومًا عشرة ويومًا تسعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف»، ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وأبو جهل بن هشام وعدّا جماعة أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» فلما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام: «هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهمّ إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبريل عليه السلام، وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعليّ رضي الله عنه: «أعطني قبضة من حصباء الوادي» فرمى بها في وجوههم وقال: «شاهت الوجوه» أي: قبحت، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخره، فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، والمعنى إنّ الرمية التي رميتها بلغ أثرها إلى ما لا يبلغه أثر البشر لكونها كانت برمي الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم؛ لأن كفًا من الحصباء لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية البشر فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ صورتها وجدت منه ونفاها عنه؛ لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله تعالى، فكان الله تعالى هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول صلى الله عليه وسلم أصلًا.
القول الثاني: إنها نزلت يوم خيبر، روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ قوسًا وهو على باب خيبر، فرمى سهمًا، فأقبل السهم حتى قتل لبابة بن أبي الحقيق وهو على فرسه فنزلت.
القول الثالث: إنها نزلت في يوم أحد في قتل أبيّ بن خلف، وذلك إنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وفتته وقال: يا محمد من يحيي هذه وهي رميم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «يحييه الله، ثم يميتك، ثم يحييك ثم يدخلك النار» فأسر يوم بدر، فلما افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ عندي فرسًا أعلفها كل يوم فرقًا من ذرة أقتلك عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى» فلما كان يوم أحد أقبل أبيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استأخروا» ورماه بحربة كسر ضلعًا من أضلاعه، فمات ببعض الطريق فنزلت، والأصح الأوّل وإلا أدخل في أثناء القصة كلامًا أجنبيًا عنها، وذلك لا يليق، وقال الرازي: لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: {ولكن الله قتلهم}، {ولكن الله رمى} بكسر النون مخففة ورفع الهاء من اسم الله فيهما والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الهاء وقوله تعالى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا} معطوف على قوله تعالى: {ولكن الله رمى} أي: ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة، ثم ختم الله تعالى هذه الآية بقوله تعالى: {إنّ الله سميع} لأقوالكم {عليم} بأحوال قلوبكم وهذا جرى مجرى التحذير والترهيب؛ لئلا يغترّ العبد بظواهر الأمور ويعلم أنّ الخالق تعالى يطلع على ما في الضمائر والقلوب، وقوله تعالى: {ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع أي: الغرض ذلكم، وقوله تعالى: {وإنّ الله موهن كيد الكافرين} معطوف على {ذلكم} أي: المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الواو وتشديد الهاء وتنوين النون ونصب الدال، وقرأ حفص بسكون الواو وتخفيف الهاء وعدم تنوين النون وخفض الدال والباقون بسكون الواو وتخفيف الهاء مع تنوين النون ونصب الدال وقوله تعالى: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} أكثر المفسرين على أنه خطاب للكفار.
روي أنّ أبا جهل لعنه الله قال يوم بدر: اللهمّ أينا كان أقطع للرحم وأفجر فأهلكه الغداة، وقال السدي: إنّ المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهمّ انصر أعلى الجندين وأهدى القبيلتين وأكرم الحزبين بأفضل الدين، فأنزل الله تعالى هذه الآية أي: إن تستنصروا لأهدى القبلتين وتستقضوا، فقد جاءكم النصر والقضاء بهلاك من هو كذلك، وهو أبو جهل، ومن قتل معه دون النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وقيل: خطاب للمؤمنين وذلك إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المشركين وكثرة عددهم وعددهم استغاث بالله تعالى وطلب ما وعده الله تعالى به من إحدى الطائفتين، وتضرع إلى الله تعالى، وكذلك الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقال تعالى: {إن تستفتحوا} أي: إن تطلبوا النصر الذي تقدّم به الوعد فقد جاءكم الفتح أي: حصل ما وعدتم فاشكروا الله تعالى والزموا الطاعة.
قال القاضي عياض: وهذا القول أولى؛ لأنّ قوله تعالى: {فقد جاءكم الفتح} لا يليق إلا بالمؤمنين. اهـ.
قال البيضاوي: إنه خطاب لأهل مكة عن سبيل التهكم. اهـ.
ويدل له قوله تعالى: {وإن تنتهوا} أي: عن الكفر ومعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فهو خير لكم} أي: لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلتين {وإن تعودوا} أي: لقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم {نعد} أي: لنصرته عليكم {ولن تغني} أي: تدفع {عنكم فئتكم} أي: جماعتكم {شيئًا}؛ لأنّ الله تعالى على الكافرين فيخذلهم: {ولو كثرت} فئتكم {وإنّ الله مع المؤمنين} بالنصر والمعونة، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الهمزة على ولأنّ الله تعالى والباقون بالكسر على الاستئناف.
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا} أي: تعرضوا {عنه} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم بمخالفة أمره، فإنّ المراد من الآية الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه، وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أنّ طاعة الله في طاعة الرسول لقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}
وقيل: الضمير للجهاد {وأنتم تسمعون} أي: القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق.
{ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا} أي: بألسنتهم {وهم لا يسمعون} سمعًا ينتفعون به، وهذه صفة المنافقين.
{إنّ شر الدواب عند الله} أي: إنّ شر من دب على وجه الأرض من خلق الله عنده {الصم} عن سماع الحق {البكم} عن النطق بالحق فلا يقولونه {الذين لا يعقلون} أمر الله، وسماهم دواب لقلة انتفاعهم بعقولهم كما قال تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل}
قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون: نحن صم بكم عما جاء به محمد، فقتلوا جميعًا بأحد وكانوا أصحاب اللواء، ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة.
{ولو علم الله فيهم خيرًا} أي: سعادة كتبت لهم أو انتفاعًا بالآيات {لأسمعهم} سماع تفهم {ولو أسمعهم} على سبيل الفرض، وقد علم أن لا خير فيهم {لتولوا} عنه ولم ينتفعوا به وارتدّوا عن التصديق والقبول {وهم معرضون} لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره، وقيل: إنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحي لنا قصيًا فإنه كان شيخًا مباركًا يشهد لك بالنبوّة، فنؤمن بك، فقال الله تعالى: {ولو أسمعهم} كلام قصي {لتولوا وهم معرضون}.
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا وللرسول} أي: أجيبوهما بالطاعة، ووحد الضمير في قوله تعالى: {إذا دعاكم}؛ لأنّ دعوة الله تعالى تسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على أبيّ بن كعب وهو يصلي فدعاه، فعجل في صلاته ثم جاء، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما منعك عن إجابتي؟» قال: كنت أصلي، قال: «ألم تجد فيما أوحي إليّ {استجيبوا وللرسول}؟» ويؤخذ من ذلك أنّ إجابته صلى الله عليه وسلم بالقول: لا تقطع الصلاة، وهو كذلك، بل ولا بالفعل الكثير كما قاله بعض أصحابنا، وهو ظاهر الحديث أيضًا.
ولما كان اجتناء ثمرة الطاعة في غاية القرب منه نبه على ذلك باللام دون إلى فقال: {لما يحييكم} من العلوم الدينية فإنها حياة القلوب والجهل موتها، قال أبو الطيب:
لا تعجبنّ الجهول حليته ** فذاك ميت وثوبه كفن

أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد، وقال السدي: هو الإيمان؛ لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان، وقال ابن إسحاق: هو الجهاد أعزكم الله تعالى به بعد الذل، وقال العتبي: هو الشهادة لقوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم يرزقون}
{واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه} أي: إنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليمًا كما يردّه الله تعالى، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله.
وقال الضحاك: يحول بين المرء المؤمن والمعصية وبين الكافر والطاعة، وقال السدي: يحول بين المرء وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه، وقال مجاهد: يحول بين المرء وقلبه، فلا يعقل ولا يدري ما يعمل.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قالوا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: «القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» {وإنه} أي: واعلموا أنه تعالى: {إليه تحشرون} لا إلى غيره فلا تتركوا مهملين معطلين فيجازيكم بأعمالكم وفي هذا تشديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة.
{واتقوا فتنة} أي: ذنبًا، قيل: هو إقرار المنكر بين أظهرهم، وقيل: افتراق الكلمة، وقيل: فتنة عذابًا، وقوله تعالى: {لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} جواب الأمر، والمعنى إن إصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، ولكنها تعمكم، كما يحكى إنّ علماء بني إسرائيل لم ينهوا عن المنكر، فعمهم الله تعالى بالعذاب.
فإن قيل: كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر؟
أجيب: بأنّ فيه معنى النهي كقولك: انزل عن الدابة لا تطرحك ولا تطرحنك، وكقوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان}
{واعلموا أنّ الله شديد العقاب} لمن خالفه.
{واذكروا} يا معاشر المهاجرين {إذ أنتم} في أوائل الإسلام {قليل} أي: عددكم {مستضعفون} أي: لا منعة لكم {في الأرض} أي: أرض مكة، وإطلاقها لأنها لعظمها كأنها هي الأرض كلها، أو لأنّ حالهم كان في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريبًا من ذلك، ولهذا عبر بالناس في قوله تعالى: {تخافون أن يتخطفكم الناس} أي: تأخذكم الكفار بسرعة كما تتخطف الجوارح الصيد {فآواكم} إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصنون فيه على أعدائكم {وأيدكم} أي: قوّاكم {بنصره} أي: بإمداد الملائكة يوم بدر، وبمظاهرة الأنصار {ورزقكم من الطيبات} أي: الغنائم أحلها لكم، ولم يحلها لأحد قبلكم {لعلكم تشكرون} هذه النعم العظيمة.
{يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} أي: بأن تضمروا خلاف ما تظهرون.
روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة واسمه رفاعة، أو مروان بن عبد المنذر وكان مناصحًا لهم؛ لأنّ ماله وعياله عندهم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح أي: حكم سعد هو القتل، فلا تفعلوا، فقال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأمّا إذ فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله تعالى عليه، فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا حتى خرّ مغشيًا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك، فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي، فقال له صلى الله عليه وسلم: «يجزيك الثلث أن تتصدّق به» فنزلت هذه الآية.