فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين، وكم من مَوْتة وحياة للإنسان؟ فقال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتًا معدومين قبل أن تُخلقوا فأحياكم أي خلقكم ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة.
قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا مَحِيد للكفار عنه لإقرارهم بهما؛ وإذا أذعنتْ نفوس الكفار لكونهم أمواتًا معدومين، ثم للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها قَوِي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها.
قال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا.
وقيل: لم يعتدّ بها كما لم يعتدّ بموت من أماته في الدنيا ثم أحياه في الدنيا.
وقيل: كنتم أمواتًا في ظهر آدم، ثم أخرجكم من ظهره كالذرّ، ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم.
وقيل {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} أي نُطَفًا في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم في القبر للمسألة، ثم يميتكم في القبر، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر؛ وهي الحياة التي ليس بعدها موت.
قلت: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات، وثلاث إحياءات.
وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نُطَفًا في أصلاب الرجال وأرحام النساء؛ فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات.
وقد قيل: إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم؛ فيكون على هذا خمس موتات، وخمس إحياءات.
وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا النار؛ لحديث أبي سعيد الخُدْرِيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحيْون ولكنْ ناسٌ أصابتهم النارُ بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتةً حتى إذا كانوا فَحْمًا أذِن في الشفاعة فجيء بهم ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثُّوا على أنهار الجنة ثم قيل يأهل الجنة أفيضوا عليهم فَيَنْبُتُون نباتَ الحِبة تكون في حَمِيل السَّيْل» فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية.
أخرجه مسلم.
قلت: فقوله: {فأماتهم الله} حقيقة في الموت؛ لأنه أكّده بالمصدر، وذلك تكريمًا لهم.
وقيل: يجوز أنْ يكون أماتهم عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتًا على الحقيقة؛ والأوّل أصح.
وقد أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازًا، وإنما هو على الحقيقة؛ ومثله: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقيل: المعنى وكنتم أمواتًا بالخمول فأحياكم بأن ذُكِرتم وشُرِّفتم بهذا الدِّين والنبيِّ الذي جاءكم، ثم يميتكم فيموت ذِكْرُكم، ثم يحييكم للبعث. اهـ.

.قال الفخر:

تمسك المجسمة بقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} على أنه تعالى في مكان وهذا ضعيف، والمراد أنهم إلى حكمة يرجعون لأنه تعالى يبعث من في القبور ويجمعهم في المحشر وذلك هو الرجوع إلى الله تعالى وإنما وصف بذلك لأنه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم غيره كقولهم رجع أمره إلى الأمير، أي إلى حيث لا يحكم غيره. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ولقد دل قوله تعالى: {وكنتم أمواتًا فأحياكم} أن هذا الإيجاد على حال بديع وهو أن الإنسان كان مركب أشياء موصوفًا بالموت أي لا حياة فيه إذ كان قد أخذ من العناصر المتفرقة في الهواء والأرض فجمعت في الغذاء وهو موجود ثانٍ ميت ثم استخلصت منه الأمزجة من الدم وغيره وهي ميتة، ثم استخلص منه النطفتان للذكر والأنثى، ثم امتزج فصار علقة ثم مضغة كل هذه أطوار أولية لوجود الإنسان وهي موجودات ميتة ثم بثت فيه الحياة بنفخ الروح فأخذ في الحياة إلى وقت الوضع فما بعده، وكان من حقهم أن يكتفوا به دليلًا على انفراده تعالى بالإلهية.
وإطلاق الأموات هنا مجاز شائع بناء على أن الموت هو عدم اتصاف الجسم بالحياة سواء كان متصفًا بها من قبل كما هو الإطلاق المشهور في العرف أم لم يكن متصفًا بها إذا كان من شأنه أن يتصف بها فعلى هذا يقال للحيوان في أول تكوينه نطفة وعلقة ومضغة ميت لأنه من شأنه أن يتصف بالحياة فيكون إطلاق الأموات في هذه الآية عليهم حين كانوا غير متصفين بالحياة إطلاقًا شائعًا والمقصود به التمهيد لقوله: {فأحياكم} ثم التمهيد والتقريب لقوله: {ثم يميتكم ثم يحييكم}.
وقال كثير من أئمة اللغة الموت انعدام الحياة بعد وجودها وهو مختار الزمخشري والسكاكي وهو الظاهر، وعليه فإطلاق الأموات عليهم في الحالة السابقة على حلول الحياة استعارة.
واتفق الجميع على أنه إطلاق شائع في القرآن فإن لم يكن حقيقة فهو مجاز مشهور قد ساوى الحقيقة وزال الاختلاف.
والحياة ضد الموت، وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم.
وقد تعسر تعريف الحياة أو تعريف دوامها على الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين تعريفًا حقيقيًا بالحد، وأوضح تعاريفها بالرسم أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة وأنها مشروطة باعتدال المزاج والأعضاء الرئيسية التي بها تدوم الدورة الدموية، والمراد بالمزاج التركيب الخاص المناسب مناسبة تليق بنوع ما من المركبات العنصرية وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني، فباعتدال ذلك التركيب يكون النوع معتدلًا ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب، ولكل شخص من الصنف مزاج يخصه ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان نفخ الروح فيه وهي المعبر عنها بالروح النفساني.
وقد أشار إلى هذا التكوين حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه المَلك فينفخ فيه الروح» فأشار إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجًا مناسبًا حتى انبعثت فيه الحياة، ثم بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة وباختلاله تزول الحياة، وذلك الاختلال هو المعبر عنه بالفساد، ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني وهو الدم إذا اختلت دورته فعرض له فساد، وبعروض حالة توقف عمل المزاج وتعطل آثاره يصير الحي شبيهًا بالميت كحالة المغمى عليه وحالة العضو المفلوج، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك الموت.
فالموت عدم والحياة ملكة وكلاهما موجود مخلوق قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة} في سورة الملك (2).
وليس المقصود من قوله: {وكنتم أمواتًا فأحياكم} الامتنان بل هو استدلال محض ذكر شيئًا يعده الناس نعمة وشيئًا لا يعدونه نعمة وهو الموتتان فلا يشكل وقوع قوله: {أمواتًا} وقوله: {ثم يميتكم} في سياق الآية.
وأما قوله: {ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} فذلك تفريع عن الاستدلال وليس هو بدليل إذ المشركون ينكرون الحياة الآخرة فهو إدماج وتعليم وليس باستدلال، أو يكون ما قام من الدلائل على أن هناك حياة ثانية قد قام مقام العلم بها وإن لم يحصل العلم فإن كل من علم وجود الخالق العدل الحكيم ورأى الناس لا يجْرُون على مقتضى أوامره ونواهيه فيرى المفسد في الأرض في نعمة والصالح في عناء علم أن عدل الله وحكمته ما كان ليُضيع عمل عامل وأن هنالك حياة أحكم وأعدل من هذه الحياة تكون أحوال الناس فيها على قدر استحقاقهم وسمو حقائقهم.
وقوله: {ثم إليه ترجعون} أي يكون رجوعكم إليه، شُبِّه الحضور للحساب برجوع السائر إلى منزله باعتبار أن الله خلق الخلق فكأنهم صَدروا من حضرته فإذا أحياهم بعد الموت فكأنهم أرجعَهم إليه وهذا إثبات للحشر والجزاء.
وتقديم المتعلِّق على عامله مفيد القصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطَبين لإفادتهم ذلك إذ كانوا منكرين ذلك وفيه تأييس لهم من نفع أصنامهم إياهم إذ كان المشركون يحاجون المسلمين بأنه إن كان بعث وحشر فسيجدون الآلهة ينصرونهم.
و{تُرجَعون} بضم التاء وفتح الجيم في قراءة الجمهور، وقرأهُ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم والقراءة الأولى على اعتبار أن الله أرجعهم وإن كانوا كارهين لأنهم أنكروا البعث والقراءة الثانية باعتبار وقوع الرجوع منهم بقطع النظر عن الاختيار أو الجبر. اهـ.

.قال الفخر:

هذه الآية دالة على أمور:
الأول: أنها دالة على أنه لا يقدر على الإحياء والإماتة إلا الله تعالى فيبطل به قول أهل الطبائع من أن المؤثر في الحياة والموت كذا وكذا من الأفلاك والكواكب والأركان والمزاجات كما حكى عن قوم في قوله: {إِنْ هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24].
الثاني: أنها تدل على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل العقلي الدال عليه، لأنه تعالى بين أنه أحيا هذه الأشياء بعد موتها في المرة الأولى فوجب أن يصح ذلك في المرة الثانية.
الثالث: أنها تدل على التكليف والترغيب والترهيب.
الرابع: أنها دالة على الجبر والقدر كما تقدم بيانه، الخامس: أنها دالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال: {فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} فبين أنه لابد من الموت ثم بين أنه لا يترك على هذا الموت.
بل لابد من الرجوع إليه أما أنه لابد من الموت، فقد بين سبحانه وتعالى أنه بعد ما كان نطفة فإن الله أحياه وصوره أحسن صورة وجعله بشرًا سويًا وأكمل عقله وصيره بصيرًا بأنواع المنافع والمضار وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور، ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئًا ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ويبقى مدة طويلة في اللحود كما قال تعالى: {وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون: 100] ينادى فلا يجيب ويستنطق فلا يتكلم ثم لا يزوره الأقربون، بل ينساه الأهل والبنون.
كما قال يحيى بن معاذ الرازي:
يمر أقاربي بحذاء قبري ** كأن أقاربي لم يعرفوني

وقال أيضًا: إلهي كأني بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها، وانصرف المشيعون عن تشييعها، وبكى الغريب عليها لغربتها، وناداها من شفير القبر ذو مودتها، ورحمتها الأعادي عند جزعتها، ولم يخف على الناظرين عجز حيلتها، فما رجائي إلا أن نقول: ما تقول ملائكتي انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون، ووحيد قد جفاه المحبون، أصبح مني قريبًا وفي اللحد غريبًا، وكان لي في الدنيا داعيًا ومجيبًا، ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجيًا، فأحسِنْ إليَّ هناك يا قديم الإحسان، وحقق رجائي فيك يا واسع الغفران.
وأما أنه لابد من الرجوع إلى الله فلأن سبحانه يأمر بأن ينفخ في الصور {فَصَعِقَ مَن في السموات وَمَن في الأرض ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] وقال: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] ثم يعرضون على الله كما قال: {وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا} [الكهف: 48] فيقومون خاشعين خاضعين كما قال: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} [طه: 108] وقال بعضهم: إلهنا إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا.
ومن شدة الخوف شاحبة وجوهنا، ومن هول القيامة مطرقة رؤوسنا.
وجائعة لطول القيامة بطوننا، وبادية لأهل الموقف سوآتنا، وموقرة من ثقل الأوزار ظهورنا، وبقينا متحيرين في أمورنا نادمين على ذنوبنا، فلا تضعف المصائب بإعراضك عنا، ووسع رحمتك وغفرانك لنا، يا عظيم الرحمة يا واسع المغفرة. اهـ.

.قال في الأمثل:

أجمعت العلماء اليوم أن مسألة الحياة أعقد مسألة في عالمنا هذا، لأن لغز الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدّم هائل في حقل العلم والمعرقة. قد يستطيع العلم في المستقبل أن يكتشف بعض أسرار الحياة... لكن السؤال يبقى قائمًا بحاله: كيف يكفر الإِنسان بالله وينسب هذه الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصّماء الفاقدة لكل شعور وإدراك؟!
من هنا نقول إن ظاهرة الحياة في عالم الطبيعة أعظم سند لإثبات وجود الله تعالى. والقرآن يركز في الآية المذكورة على هذه المسألة بالذات، وهي مسألة تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتعمق، لكننا نكتفي هنا بهذه الإشارة.
بعد التذكير بهذه النعمة، تؤكد الآية على دليل واضح آخر وهو الموت {ثم يميتكم}.
ظاهرة الموت يراها الإِنسان في حياته اليومية، من خلال وفاة من يعرفهم ومن لا يعرفهم، وهذه الظاهرة تبعث أيضًا على التفكير، من الذي قبض أرواحهم؟ ألا يدلّ سلبُ الحياة منهم على أن هناك من منحهم هذه الحياة؟
نعم... إن خالق الحياة هو خالق الموت أيضًا، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة: {يالَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَ} (187).
بعد أن ذكرت الآية هذين الدليلين الواضحين على وجود الله، تناولت المعاد والحياة بعد الموت. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الآية:
هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء بدليل لفظة ثم التي هي للترتيب والانفصال وكذلك آية حم السجدة تدل أيضا على خلق الأرض قبل خلق السماء لأنه قال فيها: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الآية.
مع آية النازعات تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء لأنه قال فيها: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}.
قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} واعلم أولا أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية السجدة وآية النازعات فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء، ويدل لهذا أنه قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ولم يقل خلقها، ثم فسر دحوه إياها بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} الآية.
وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يَرِد عليه إشكال من آية البقرة هذه وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بما فيها بعد خلق السماء وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الآية.
وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرآن العظيم، وإيضاحه أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين كل منهما تدل عليه آية من القرآن:
الأول- إن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود والعرب تسمي التقدير خلقا ومنه قول زهير:
ولانت تفري ما خلقت وبعـ ** ـض القوم يخلق ثم لا يفرى

والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير أنه تعالى نصّ على ذلك في سورة فصلت حيث قال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} ثم قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الآية.
الوجه الثاني: أنه لما خلق الأرض غير مدحوه وهي أصل لكل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع وإن لم يكن موجودا بالفعل.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَة} الآية.
فقوله خلقناكم ثم صورناكم أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم هو أصلكم.
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} أي مع ذلك فلفظة بعد بمعنى مع ونظيره قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} وعليه فلا إشكال في الآية، ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة وبها قرأ مجاهد: الأرض مع ذلك دحاها، وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض وهو خلاف التحقيق منها: أن ثم بمعنى الواو.
منها: أنها للترتيب الذكري كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية. اهـ.