فصل: باب قِسْمَةِ الْخُمُسِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ وَحَظْرِهِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَصَارَ فَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا كَفَرْقِ مَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْهَزِيلِ وَالسَّمِينِ وَالْجَوَادِ وَمَا دُونَهُ، وَأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لَمْ يُوجِبْ اخْتِلَافَ سِهَامِهِمَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرَسَ الْعَرَبِيَّ وَإِنْ كَانَ أَجْرَى مِنْ الْبِرْذَوْنِ فَإِنَّ الْبِرْذَوْنَ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّجُلَ الْعَرَبِيَّ وَالْعَجَمِيَّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ السِّهَامِ كَذَلِكَ الْخَيْلُ الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ صَدَقَةِ الْبَرَاذِينِ فَقَالَ سَعِيدٌ: وَهَلْ فِي الْخَيْلِ مِنْ صَدَقَةٍ؟ وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: الْبَرَاذِينُ بِمَنْزِلَةِ الْخَيْلِ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ: أَوَّلُ مَنْ قَسَمَ لِلْبَرَاذِينِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَوْمَ دِمَشْقَ، قَسَمَ لِلْبَرَاذِينِ نِصْفَ سُهْمَانِ الْخَيْلِ لِمَا رَأَى مِنْ جَرْيِهَا وَقُوَّتِهَا، فَكَانَ يُعْطِي الْبَرَاذِينَ سَهْمًا سَهْمًا، وَهَذَا حَدِيثٌ مَقْطُوعٌ وَقَدْ أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ لِمَا رَأَى مِنْ قُوَّتِهَا، فَإِذًا لَيْسَ بِتَوْقِيفٍ وَقَدْ رَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَغَارَتْ الْخَيْلُ بِالشَّامِ وَعَلَى النَّاسِ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ يُقَالُ لَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي حِمَّصَةَ الْوَادِعِيُّ، فَأَدْرَكَتْ الْخَيْلُ الْعِرَابُ مِنْ يَوْمِهَا وَأَدْرَكَتْ الْكَوَادِنُ مِنْ الْغَدِ، فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَا أَدْرَكَ كَمَا لَمْ يُدْرِكْ، فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ فِيهِ، فَكَتَبَ عُمَرُ: هَبِلَتْ الْوَادِعِيَّ أُمُّهُ لَقَدْ اذَّكَّرَتْ بِهِ، أَمْضُوهَا عَلَى مَا قَالَ فَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُسْهِمْ لِلْبَرَاذِينِ بِذَلِكَ.
وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ رَأْيَ عُمَرَ، وَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَقَدْ حَكَمَ بِهِ أَمِيرُ الْجَيْشِ فَأَنْفَذَهُ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَغْزُو بِأَفْرَاسٍ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُسْهَمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ.
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْجَيْشَ قَدْ كَانُوا يَغْزُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ بِفَتْحِ خَيْبَرَ وَمَكَّةَ وَحُنَيْنٍ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَغَازِي، وَلَمْ يَكُنْ يَخْلُو الْجَمَاعَةُ مِنْهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فَرَسَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرَسَ آلَةٌ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُضْرَبَ لَهُ بِسَهْمٍ كَسَائِرِ الْآلَاتِ، فَلَمَّا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالِاتِّفَاقِ سَهْمُ الْفَرَسِ الْوَاحِدِ أَثْبَتْنَاهُ وَلَمْ نُثْبِتْ الزِّيَادَةَ إلَّا بِتَوْقِيفٍ؛ إذْ كَانَ الْقِيَاسُ يَمْنَعُهُ.

.باب قِسْمَةِ الْخُمُسِ:

قال الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْخُمُسِ فِي الْأَصْلِ، فَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ الْغَنِيمَةُ تُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ؛ فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا، وَخُمُسٌ وَاحِدٌ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَرُبُعٌ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى يَعْنِي قَرَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَهُوَ لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْخُذْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا، وَالرُّبُعُ الثَّانِي لِلْيَتَامَى، وَالرُّبُعُ الثَّالِثُ لِلْمَسَاكِينِ، وَالرُّبُعُ الرَّابِعُ لِابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ الْفَقِيرُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ.
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ خُمُسٌ، وَلِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمُسٌ، وَلِلْيَتَامَى خُمُسٌ، وَلِلْمَسَاكِينِ خُمُسٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ خُمُسٌ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ خُمُسُ اللَّهِ وَخُمُسُ الرَّسُولِ وَاحِدٌ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ مِفْتَاحُ الْكَلَامِ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْت الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ: هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامٍ، لَيْسَ لِلَّهِ نَصِيبٌ، لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ الْجَزَّارِ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قَالَ: لِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ وَإِنَّمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمُسُ الْخُمُسِ.
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فَمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ سَهْمُ بَيْتِ اللَّهِ؛ ثُمَّ يُقَسِّمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةٍ، فَيَكُونُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمٌ وَلِذَوِي الْقُرْبَى سَهْمٌ وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ، وَاَلَّذِي جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ هُوَ السَّهْمُ الَّذِي لِلَّهِ تَعَالَى.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ يَحْمِلُ الْخُمُسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا كَثُرَ الْمَالُ جَعَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْخُمُسَ الَّذِي كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ سَهْمٌ، وَلِذَوِي الْقُرْبَى سَهْمٌ، وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ، وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ، ثُمَّ قَسَمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: إنَّ الْقِسْمَةَ كَانَتْ عَلَى أَرْبَعَةٍ سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى كَانَ وَاحِدًا، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: قوله: {لِلَّهِ} افْتِتَاحُ كَلَامٍ وَهُوَ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِلَّهِ سَهْمٌ يُجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسَمَّيْنَ فِي الْآيَةِ سَهْمٌ.
وَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ قَسَمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ يَحْمِلُ مِنْ الْخُمُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ جُعِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَهُوَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: جَعَلَ اللَّهُ الرَّأْيَ فِي الْخُمُسِ إلَى نَبِيِّهِ كَمَا كَانَتْ الْأَنْفَالُ لَهُ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ، فَنَسَخَتْ الْأَنْفَالَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ وَتُرِكَ الْخُمُسُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَمَا قَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} فَذَكَرَ هَذِهِ الْوُجُوهَ ثُمَّ قَالَ: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} فَبَيَّنَ فِي آخِرِهِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ النَّبِيِّ.
وَكَذَلِكَ الْخُمُسُ قَالَ فِيهِ إنَّهُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ يَعْنِي قِسْمَتُهُ مَوْكُولَةٌ إلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْوُجُوهَ الَّتِي يُقَسِّمُ عَلَيْهَا عَلَى مَا يَرَى وَيَخْتَارُ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ بِالْخُمُسِ؟ قَالَ: كَانَ يَحْمِلُ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الرَّجُلَ ثُمَّ الرَّجُلَ ثُمَّ الرَّجُلَ.
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي مِنْهُ الْمُسْتَحِقِّينَ وَلَمْ يَكُنْ يُقَسِّمُهُ أَخْمَاسًا وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقِسْمَةَ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ عَلَى سِتَّةٍ وَإِنَّ سَهْمَ اللَّهِ كَانَ مَصْرُوفًا إلَى الْكَعْبَةِ فَلَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا وَلَكَانَتْ الْخُلَفَاءُ بَعْدَ النَّبِيِّ أَوْلَى النَّاسِ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْهُمْ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ سَهْمَ الْكَعْبَةِ لَيْسَ بِأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سَائِرِ السِّهَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ إذْ كُلُّهَا مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِسَهْمِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِفْتَاحًا لِلْكَلَامِ عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَعَلَى وَجْهِ تَعْلِيمِنَا التَّبَرُّكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَافْتِتَاحَ الْأُمُورِ بِاسْمِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْخُمُسَ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ ثُمَّ بَيَّنَ تِلْكَ الْوُجُوهَ فَقَالَ: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ، فَأَجْمَلَ بَدِيًّا حُكْمَ الْخُمُسِ ثُمَّ فَسَّرَ الْوُجُوهَ الَّتِي أَجْمَلَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَرَادَ مَا قُلْت لَقَالَ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ لِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى، وَلَمْ يَكُنْ يُدْخِلُ الْوَاوَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ رَسُولِ اللَّهِ.
قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ إدْخَالُ الْوَاوِ وَالْمُرَادُ إلْغَاؤُهَا كَمَا قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} وَالْوَاوُ مُلْغَاةٌ وَالْفُرْقَانُ ضِيَاءٌ، وَقال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} مَعْنَاهُ: لَمَّا أَسْلَمَا تَلَّهُ لِلْجَبِينِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} يَقْتَضِي جَوَابًا وَجَوَابُهُ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ؛ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: بَلَى شَيْءٌ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيْءٍ وَأَحْيَانًا وَبَاطِلُهُ كَثِيرُ وَمَعْنَاهُ: يُوَافِقُ بَعْضَ شَيْءٍ أَحْيَانًا، وَالْوَاوُ مُلْغَاةٌ؛ وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: فَإِنَّ رَشِيدًا وَابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ حَتَّى يُصْدِرَ الْأَمْرَ مَصْدَرَا وَمَعْنَاهُ: فَإِنَّ رَشِيدَ بْنَ مَرْوَانَ؛ وَقَالَ الْآخَرُ: إلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ وَالْوَاوُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دُخُولُهَا وَخُرُوجُهَا سَوَاءٌ.
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا؛ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مُرَادَيْنِ لَاحْتِمَال الْآيَةِ لَهُمَا، فَيَنْتَظِمُ تَعْلِيمُنَا افْتِتَاحَ الْأُمُورِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الْخُمُسَ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمٌ مِنْ الْخُمُسِ وَكَانَ لَهُ الصَّفِيُّ وَسَهْمٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ كَسَهْمِ رَجُلٍ مِنْ الْجُنْدِ إذَا شَهِدَ الْقِتَالَ.
وَرَوَى أَبُو حَمْزَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَتُعْطُوا سَهْمَ اللَّهِ مِنْ الْغَنَائِمِ وَالصَّفِيِّ.
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَهْمِ الرَّسُولِ وَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ سَهْمُ الرَّسُولِ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ فِي الْكُرَاعِ وَالْعِدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَقَطَ سَهْمُهُ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ بِمَوْتِهِ، فَرَجَعَ سَهْمُهُ إلَى جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ كَمَا رَجَعَ إلَيْهَا وَلَمْ يَعُدْ لِلنَّوَائِبِ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ خُمُسُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدٌ، وَخُمُسُ ذَوِي الْقُرْبَى لِكُلِّ صِنْفٍ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُمُسَ الْخُمُسِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخُمُسِ هُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ وَمَا بَقِيَ فَلِلطَّبَقَاتِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُعْطِي مِنْ الْخُمُسِ أَقْرِبَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَرَى وَيَجْتَهِدُ.
وَقَالَ: الْأَوْزَاعِيُّ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ سُمِّيَ فِي الْآيَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَسَّمُ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} لَفْظٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ وَلَيْسَ بِعُمُومٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَا الْقُرْبَى لَا يَخْتَصُّ بِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا أَقْرِبَاءَ سَائِرِ النَّاسِ، فَصَارَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ أَقْرِبَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُسْتَحِقِّينَ لِسَهْمِ الْخُمُسِ مِنْ الْأَقْرِبَاءِ هُمْ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ نُصْرَةٌ وَإِنَّ السَّهْمَ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْأَمْرَيْنِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَالنُّصْرَةِ وَإِنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ نُصْرَةٌ مِمَّنْ حَدَثَ بَعْدُ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْفَقْرِ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ سَائِرُ الْفُقَرَاءِ؛ وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْته أَنَا وَعُثْمَانُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ بِمَكَانِك الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ فِيهِمْ، أَرَأَيْت بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَمَنَعْتنَا وَإِنَّمَا هُمْ وَنَحْنُ مِنْك بِمَنْزِلَةٍ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ بِالْقَرَابَةِ فَحَسْبُ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي الْقُرْبِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ، فَأَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يُعْطِ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْقَرَابَةِ لَسَاوَى بَيْنَهُمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْبَيَانِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِ ذِي الْقُرْبَى، وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّصْرَةَ مَعَ الْقَرَابَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ نُصْرَةٌ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْفَقْرِ.