فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}.
هذه كلمة تعجيب وتعظيم لما فيه العبد، أي لا ينبغي مع ظهور الآيات أن يجنح إلى الكفر قلبُه.
ويقال تعرَّف إلى الخلق بلوائح دلالاته، ولوامع آياته. فقال: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} يعني نطفة، أجزاؤها متساوية، {فَأَحْيَاكُمْ} بَشَرًا اختصَّ بعض أجزاء النطفة بكونه عظمًا، وبعضها بكونه لحمًا، وبعضها بكونه شَعْرًا، وبعضها بكونه جِلدًا.. إلى غير ذلك.
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بأن يجعلكم عظامًا ورفاتًا، {ثُمَّ يُحْييكُمْ} بأن يحشركم بعدما صرتم أمواتًا، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إلى ما سبق به حكم من السعادة والشقاوة.
ويقال: {كُنْتُمْ أمْوَاتًا} بجهلكم عنّا، ثم {فَأَحْيَاكُمْ} بمعرفتكم بنا، {ثم يميتكم} عن- شواهدكم، {ثم يحييكم} به بأن يأخذكم عنكم، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي بحفظ أحكام الشرع بإجراء الحق.
ويقال: {وكُنتُمْ أمْواتًا} لبقاء نفوسكم فأحياكم بفناء نفوسكم ثم يميتكم عنكم عن شهود ذلك لئلا تلاحظوه فيفسد عليكم، ثم يحييكم بأن يأخذكم عنكم ثم إليه ترجعون بتقلبكم في قبضته سبحانه وتعالى.
ويقال يحبس عليهم الأحوال؛ فلا حياة بالدوام ولا فناء بالكلية، كلّما قالوا هذه حياة- وبيناهم كذلك- إذ أدال عليهم فأفناهم، فإذا صاروا إلى الفناء أنبتهم وأبقاهم، فهم أبدًا بين نفي وإثبات، وبين بقاء وفناءَ، وبين صحو ومحو، كذلك جرت سنته سبحانه معهم. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله}.
قال ابن عطية: هذه الآية دليل على أنّ المراد بما قبلها المخالفة في توحيد الله تعالى والإيمان به إمّا على سبيل الخصوصية أو مع غيره وهو الأصل وغيره تابع له.
الزمخشري: {كَيْفَ} سؤال عن حال ومعناها معنى الهمزة لكن السؤال بالهمزة عن الذات، والسؤال بكيف عن صفة الذات فيستلزم السؤال عنها.
قال ابن عرفة: فإن قلت: لم وبّخوا بكيف، وهلا وبّخوا بالهمزة؟
وأجاب: بأنه إذا أنكر عليهم الكفر في حال من الأحوال فيلزم إنكار نفس الكفر من باب أحرى، لأن كل موجود لا ينفك عن صفة فنفي الصفة يستلزم نفيه بطريق البرهان.
قال ابن عرفة: هذا استدلال بنفي الملزوم على نفي اللازم وهو باطل عندهم ويقال له: الصفة تابعة لموصوفها، ولا يلزم من نفي التابع نفي المتبوع بل العكس الذي يلزم.
قيل لابن عرفة: هذا تابع لازم لا ينفك عنه المتبوع فنفيه يستلزم نفيه؟
فقال: قصارى أمره أنه دلّ على نفي المتبوع باللزوم لأن دلالته عليه بواسطة نفي الصفة والهمزة تدل على نفيه بالمطابقة.
قيل لابن عرفة: الكفر في ذاته لا ينفك عن حال من الأحوال فعموم النفي في حالاته يستلزم انتفاءه هو معها بخلاف نفيه هو في ذاته؟
فقال: نفيه في ذاته يستلزم انتفاء حالاته، وأيضا فالهمزة تدل على إنكار نفي الكفر بالمطابقة، وكيف بواسطة دلالتها على إنكار نفي صفته ودلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام.
قال: وكان يظهر لنا في الجواب عنه تقدير بأن النّفي بالهمزة مطلق في الشيء والنّفي بكيف عام في جميع حالات الشيء.
ودلالة العام أقوى من دلالة المطلق لأن الهمزة تدل على إنكار كفرهم في حالة ما، وكيف تدل على إنكار جميع أحوال كفرهم.
وتقريبه بالمثال أنّ الميتة والخمر عندنا محرمان، لكن الميتة مباحة للمضطر بخلاف الخمر على المشهور.
ونص في كتاب الصلاة الأول من العتبية في أول رسم تأخير صلاة العشاء، فتقول للانسان: أتأكل الميتة وهي محرمة؟ ولا تقول له: كيف تأكل الميتة وهي محرمة، ولا تقول له: أتشرب الخمر وهو محرم؟ هذا المختار عندهم.
قلت: وبدليل من غص بلقمة ولم يجد ما يدفعها به إلا الخمر وخاف الموت.
قال ابن رشد: الظاهر من قول أصبغ أنّ ذلك لا يجوز له وأجازه غيره غيره.
قال ابن عرفة: ومثله الزمخشري بقولك أتطير بغير جناح؟ وكيف تطير بغير جناح؟
قال ابن عرفة: هذا المثال لا يطابق الآية، إنّما يطابقها أن يقول: أتطير وأنت مكسور الجناح من غير ضرورة تدعوك لذلك لأن الطيران بلا جناح مستحيل بالبديهة، وكفر هؤلاء ليس بمحال.
قلت: والحاصل أن الزمخشري والشّيخ ابن عرفة اتّفقا على أنّ {كَيْفَ} سؤال عن جميع الأحوال واختلفا في الهمزة فهي عند الزمخشري سؤال عن حقيقة الشيء، وعند ابن عرفة مطلقة في السؤال عن ذاته وعن أحواله تصدق بصورة من صور ذلك.
وقال بعض الشّيوخ: ومن ظنّي أن كلام سيبويه موافق لما قال ابن عرفة.
قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}.
قال ابن عرفة: إن قلت ما الفرق بين هذا وبين ما تقدم في قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} وهل هو تكرار أم لا؟ قلنا: ليس بتكرار وتلك إرشاد للنظر في دليل الوحدانية والإيمان، وبعد تقرر الإيمان ذلك جاءت هذه توبيخا لمن نظر في الدليل ولم يعمل بمقتضاه.
ابن عرفة: وفي قوله: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} دليل على أن الموت أمر عدمي، فإنه أخبر أنهم كانوا متّصفين بالموت حالة كونهم عدما صرفا، والوجود لا يجامع العدم على المشهور، وإنما يجامع وجودا مثله.
قال ابن عرفة: وأتى في الدليل بأمرين: أحدهما مروي مشاهد، وهو وجودهم بعد عدمهم، وموتهم بعد ذلك ثم عطف عليه أمرا آخر نظريا لا يعلم إلا من جهة الرسل وهو حياتهم بعد ذلك، ورجوعهم إلى الله، والعطف يقتضي التسوية فهو إشارة إلى أن ذلك الأمر النظري اعتقدوه حقا كأنه ضروري فليكن عندهم مساويا للضرورة.
ونظيره العطف في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} قالوا: أفاد عطف الكبيرة التسوية في الإحصاء بينها وبين الصغيرة فالمراد أنه لا يدع شيئًا إلا أحصاه.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم عطف {فَأَحْيَاكُمْ} بالفاء {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بثم؟
فأجاب بأن الإحياء الأول غير متراخ عن الموت، ولذلك كان الإحياء الثاني متراخ عن الموت ورده ابن عرفة: بأنّه إن أراد أول أزمنة الموت فالإحياء الأول متراخ عنه فهلا عطف بثم؟ وإن أراد آخر أزمنة الموت فالإحياء الثاني عقيبه من غير تراخ بوجه.
قيل له: الإحياء الأول ليس بينه وبين الموت الذي قبله فاصل بوجه، وبينه وبين الموت الذي بعده فواصل، وهي التكاليف التي أمرنا الشرع بها.
فلما كانت معتبرة شرعا جعل زمن الحياة ممتدّا متراخيا، فعطف عليه الموت بثم.
قال ابن عرفة: هذا يعكر عليكم في قوله تعالى: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} لأنه ليس بينه وبين الموت الذي قبله أيضا فاصل.
قال: وإن كان يظهر لنا الجواب عن ذلك السؤال بأن الموت الأول لسنا نشاهده، ولا نحن نعلمه إلا من جهة الخبر والعلم به إن تطاول زمانه يأتينا دفعة واحدة يجعل كأنه شيء واحد والحياة الدنيا مشاهدة لنا ضرورية وزمانها لا نعلمه دفعة واحدة وإنما نعلمه شيئا بعد شيء إذ لا يدري أحدنا مقدار عمره ما هو؟ فالإماتة متراخية عنه فاعتبر فيه التراخي، والحياة الثانية أيضا إنما نعلمها من جهة الشرع وهو إنما أخبر بها بعد حصول الموت الأول وتقرره في جميع الناس حتى لا يبقى أحدهم منهم إلا مات فحياة أولهم موت متأخر عن موت آخرهم فاعتبروا فيها التراخي لهذا المعنى.
قلت: وقرر بعض الشيوخ كلام الزمخشري بأن الموت الأول لا بداية له بوجه فهو عدم مستمر غير مسبوق بشيء فروعي فيه آخره وأنه شيء واحد فعطفت عليه الحياة بالفاء إشارة إلى سرعة التكوين والحياة الأولى زمنها متطاول والخطاب بالآية إنما هو للاحياء فهو مدة حياتهم، وقد بقيت منها بقية ولها مبدأ ومنتهى، فاعتبر فيها التراخي، والموت الثاني عدم مسبوق بوجود قبله ومرتفع بوجود بعده فهو محصول له مبدأ ومنتهى فُروعي أيضا فيه التراخي فلذلك عطفت عليه الحياة الثانية بثم والله أعلم.
وأورد الزمخشري سؤالا على مذهبه في اشتراط البنية فقال: كيف قيل: لهم أموات في حال كونهم جمادا، وإنّما يقال: ميّت فيما تصح فيه الحياة من البناء.
وهذا على مذهبه اشتراط البنية وهي البلة والرطوبة المزاجية ولا يرد السؤال على مذهبنا بوجه. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{كيف} قد تقدم أنه اسم استفهام عن حال، وصحبه معنى التقرير والتوبيخ، فخرج عن حقيقة الاستفهام.
وقيل: صحبه الإنكار والتعجب، أي إن من كان بهذه المثابة من القدرة الباهرة والتصرف التام والمرجع إليه آخرًا فيثيب ويعاقب، لا يليق أن يكفر به.
والإنكار بالهمزة إنكار لذات الفعل، وبكيف إنكار لحاله؛ وإنكار حاله إنكار لذاته، لأن ذاته لا تخلو من حال يقع فيها، فاستلزم إنكار الحال إنكار الذات ضرورة، وهو أبلغ، إذ يصير ذلك من باب الكناية حيث قصد إنكار الحال، والمقصود إنكار وقوع ذات الكفر.
قال الزمخشري: وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها، وقد علم أن كل موجود لا ينفك من حال وصفة عند وجوده، ومحال أن يوجد تغير صفة من الصفات، كان إنكارًا لوجوده على الطريق البرهاني، انتهى كلامه.
وهذا الخطاب فيه التفات، لأن الكلام قبل كان بصورة الغيبة، ألا ترى إلى قوله: {وأما الذين كفروا} إلى آخره؟ وفائدة هذا الالتفات أن الإنكار إذا توجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجهه إلى الغائب لجواز أن لا يصله الإنكار، بخلاف من كان مخاطبًا، فإن الإنكار عليه أردع له عن أن يقع فيما أنكر عليه.
والناصب ل {كيف تكفرون}.
وأتى بصيغة تكفرون مضارعًا ولم يأت به ماضيًا وإن كان الكفر قد وقع منهم، لأن الذي أنكر أو تعجب منه الدوام على ذلك، والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون ذلك توبيخًا لمن وقع منه الكفر ثم آمن، إذ لو جاء كيف كفرتم {بالله} لاندرج في ذلك من كفرتم آمن كأكثر الصحابة رضي الله عنهم.
والواو في قوله: {وكنتم أمواتًا فأحياكم} واو الحال، نحو قوله تعالى: {وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمةٍ} {ونادى نوح ابنه وكان في معزل} قال الزمخشري: فإن قلت فكيف صح أن يكون حالا، وهو ماض؟ ولا يقال: جئت وقام الأسير، ولكن: وقد قام، إلا أن يضمر قد.
قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتًا وحده، ولكن على جملة قوله: {كنتم أمواتًا} إلي {ترجعون} كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتًا نطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء؟ {ثم يميتكم} بعد هذه الحياة؟ {ثم يحييكم} بعد الموت ثم يحاسبكم؟ انتهى كلامه.
ونحن نقول: إنه على إضمار قد، كما ذهب إليه أكثر الناس، أي وقد كنتم أمواتًا فأحياكم.
والجملة الحالية عندنا فعلية.
وأما أن نتكلف ونجعل تلك الجملة اسمية حتى نفر من إضمار قد، فلا نذهب إلى ذلك، وإنما حمل الزمخشري على ذلك اعتقاده أن جميع الجمل مندرجة في الحال، ولذلك قال: فإن قلت، بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالًا حتى يكون فعلًا حاضرًا وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالًا؟ قلت: هو العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة، وبأولها وبآخرها؟ انتهى كلامه.
ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال، إذ يحتمل أن يكون الحال قوله: {وكنتم أمواتًا فأحياكم} ويكون المعنى كيف تكفرون بالله وقد خلقكم فعبر عن الخلق بقوله تعالى: {وكنتم أمواتًا فأحياكم} ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» أي أن من أوجدك بعد العدم الصرف حر أن لا تكفر به، لأنه لا نعمة أعظم من نعمة الاختراع، ثم نعمة الاصطناع، وقد شمل النعمتين قوله تعالى: {وكنتم أمواتًا فأحياكم} لأن بالإحياء حصلتا.
ألا ترى أنها تضمنت الجملة الإيجاد والإحسان إليك بالتربية والنعم إلى زمان أن توجه عليك إنكار الكفر؟ ولما كان مركوزًا في الطباع ومخلوقًا في العقول أن لا خالق إلا الله، {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} كانت حالًا تقتضي أن لا تجامع الكفر، فلا يحتاج إلى تكلف.
إن الحال هو العلم بهذه الجملة.
وعلى هذا الذي شرحناه يكون قوله تعالى: {ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} جملًا أخبر الله تعالى بها مستأنفة لا داخلة تحت الحال، ولذلك غاير فيها بحرف العطف وبصيغة الفعل عما قبلها من الحرف والصيغة.
ومن جعل العلم بمضمون هذه الجمل هو الحال، جعل تمكنهم من العلم بالإحياء الثاني والرجوع لما نصب على ذلك من الدلائل التي توصل إليه بمنزلة حصول العلم.
فحصوله بالإماتتين والإحياء الأول، وكثير من الناس علموا ثم عاندوا، وفي ترتيب هاتين الموتتين والحياتين اللاتي ذكر الله تعالى وامتن عليها بها أقوال:
الأول: أن الموت الأول: العدم السابق قبل الخلق، والإحياء الأول: الخلق، والموت الثاني: المعهود في دار الدنيا، والحياة الثانية: البعث للقيامة، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد.
الثاني: أن الموت الأول: المعهود في الدنيا، والإحياء الأول: هو في القبر للمسألة، والموت الثاني: في القبر بعد المسألة، والإحياء الثاني: البعث، قاله ابن عباس وأبو صالح.
الثالث: أن الموت الأول: كونهم في أصلاب آبائهم، والإحياء الأول: الإخراج من بطون الأمهات، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث، قاله قتادة.
الرابع: أن الموت الأول: هو الذي اعتقب إخراجهم من صلب آدم نسمًا كالذر، والإحياء الأول: إخراجهم من بطون أمهاتهم، والموت الثاني: المعهود، والإحياء: البعث، قاله ابن زيد.
الخامس: أن الموت الأول: مفارقة نطفة الرجل إلى الرحم فهي ميتة إلى نفخ الروح فيحييها بالنفخ، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث.
السادس: أن الموت الأول هو الخمول، والإحياء الأول: الذكر والشرف بهذا الدين والنبي الذي جاءكم، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث، قاله ابن عباس.
السابع: أن الموت الأول: كون آدم من طين، والإحياء الأول: نفخ الروح فيه فحييتم بحياته، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث.
واختار ابن عطية القول الأول وقال: هو أولى الأقوال، لأنه لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه، ثم إن قوله: {وكنتم أمواتًا} وإسناده آخرًا الإماتة إليه، مما يقوي ذلك القول، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتًا معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها.
انتهى كلامه، وهو كلام حسن.
وللمنسوبين إلى علم الحقائق أقوال تخالف ما تقدم: أحدها: أمواتًا بالشرك فأحياكم بالتوحيد.
الثاني: أمواتًا بالجهل فأحياكم بالعلم.
الثالث: أمواتًا بالاختلاف فأحياكم بالائتلاف.
الرابع: أمواتًا بحياة نفوسكم وإماتتكم بإماتة نفوسكم وإحياء قلوبكم.
الخامس: أمواتًا عنه فأحياكم به، قاله الشبلي.
السادس: أمواتًا بالظواهر فأحياكم بمكاشفة السرائر، قاله ابن عطاء.
السابع: أمواتًا بشهودكم فأحياكم بمشاهدته ثم يميتكم عن شواهدكم ثم يحييكم بقيام الحق عنه ثم إليه ترجعون من جميع ما لكم، قاله فارس.
واختار الزمخشري: أن الموت الأول كونهم نطفًا في أصلاب آبائهم فجعلهم أحياء، ثم يميتهم بعد هذه الحياة، ثم يحييهم بعد الموت، ثم يحاسبهم.
وجوز أيضًا أن يكون المراد بالإحياء الثاني: الإحياء في القبر، وبالرجوع: النشور، وأن يراد بالإحياء الثاني أيضًا النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء.
وهذا الذي جوز أن يراد به الإحياء في القبر لا يفهم منه أنه يحيا للمسألة في القبر، ولا لأن ينعم فيه أو يعذب لأنه ليس مذهبه، لأن المعتزلة وأتباعهم أنكروا عذاب القبر، وأهل السنة والكرامية أثبتوه بلا خلاف بينهم، إلا أن أهل السنة يقولون: يحيا الميت الكافر فيعذب في قبره، والفاسق يجوز أن يعذب في قبره، والكرامية تقول: يعذب وهو ميت.
والأحاديث الصحيحة قد استفاضت بعذاب القبر، فوجب القول به واعتقاده.
واختار صاحب المنتخب أن المراد بقوله: {أمواتًا} أي ترابًا ونطفًا، لأن ابتداء خلق آدم من التراب، وخلق سائر المكلفين من أولاده، إلا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، من النطف.
قال: واختلفوا، فالأكثرون على أن إطلاق اسم الميت على الجماد مجاز، لأن الميت من يحله الموت، ولابد أن يكون بصفة من يجوز أن يكون حيًا في العادة، والقول بأنه حقيقة في الجماد مروي عن قتادة، انتهى كلامه.
وتفسيره الأموات بالتراب والنطف لا يظهر ذلك في التراب، لأن المخلوق من التراب لم يتصف بالصفة التي أنكرت أو تعجب منها وقتًا قط، فكيف يندرج في قوله: {وكنتم أمواتًا}؟ والذي نختاره أن كونهم أمواتًا، ومن وقت استقرارهم نطفًا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار من النطفة والعلقة والمضغة واكتساء العظام لحمًا.
والإماتة الثانية هي المعهودة، والإحياء هو البعث بعد الموت.
ويكون الإحياء الأول والموت الأول، والإحياء الثاني حقيقة، وأما كونهم أمواتًا، فمن ذهب إلى أن الجماد يوصف بالموت حقيقة فيكون إذ ذاك حقيقة، ومن ذهب إلى المجاز فهو مجاز سائغ قريب، لأنه على كل حال موجود، فقرب اتصافه بالموت، بخلاف من زعم أنه أريد به كونه معدومًا وكونه في الصلب.
أو حين كان آدم طينًا، فإن المجاز في ذلك بعيد لأن ذلك عدم صرف، والعدم الذي لم يسبقه وجود يبعد فيه أن يسمى موتًا، ألا ترى ما أطلق عليه في اللفظ لفظ الموت مما لا تحله الحياة كيف يكون موجودًا لا عدمًا صرفًا؟ {وآية لهم الأرض الميتة} {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} {إن الذي أحياها لمحيي الموتى} {وجعلنا من الماء كل شيء حيّ} وتقول العرب: أرض موات.
وأما قول من ذهب إلى أن الموت الأول: هو الخمول، والإحياء الأول: هو التنويه والذكر، فمجاز بعيد هنا، لأنه متى أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز الحقيقة أو المجاز القريب كان أولى.
وقد أمكن ذلك بما ذكرناه، ثم أكثر تلك الأقاويل يبعد فيها التعقيب بالفاء في قوله: {فأحياكم} لأن بين ذاك الموت والإحياء مدة طويلة، وعلى ما اخترناه تكون الفاء دالة على معناها من التعقيب.
ومن قال: إن الموت الأول: هو المعهود، والإحياء الأول هو للمسألة، فيكون فيه الماضي قد وضع موضع المستقبل مجاز التحقق وقوعه، أي وتكونون أمواتًا فيحييكم، كقوله: {أتى أمر الله}.
وقد استدل بهذه الآية قوم على نفي عذاب القبر، لأنه ذكر تعالى موتتين وحياتين، ولم يذكر حياة بين إحيائهم في الدنيا وإحيائهم في الآخرة.
قالوا: ولا يجوز أن يستدل بقوله تعالى: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} لأنه من كلام الكفار، ولأن كثيرًا من الناس أثبتوا حياة الذر في صلب آدم.
والجواب: أنه لا يلزم من عدم ذكر هذه الحياة للمسألة عدمها قبل وأيضًا، فيمكن أن يكون قوله: {ثم يحييكم} هو للمسألة، ولذلك قال: {ثم إليه ترجعون} فعطف بثم التي تقتضي التراخي في الزمان.
والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة التي للبعث، فدل ذلك على أن تلك الحياة المذكورة هي للمسألة.
قال الحسن: ذكر الموت مرتين هنا لأكثر الناس، وأما بعضهم فقد أماتهم ثلاث مرات، {أو كالذي مر على قرية} الآيات.
وفي قوله تعالى: {فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} دليل على اختصاصه تعالى بذلك، ودليل على النشر والحشر.
والظاهر في قوله تعالى: {ثم إليه ترجعون} أن الهاء عائدة على الله سبحانه وتعالى، لأن الضمائر السابقة عائدة عليه تعالى، ويكون ذلك على حذف مضاف، أي إلى جزائه من ثواب أو عقاب.
وقيل: عائدة على الجزاء على الأعمال.
وقيل: عائدة على الموضع الذي يتولى الله الحكم بينكم فيه.
وقيل: عائدة على الإحياء المدلول عليه بقوله: {فأحياكم}.
وشرح هذا أنكم ترجعون بعد الحياة الثانية إلى الحال التي كنتم عليها في ابتداء الحياة الأولى، من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئًا.
واستدلت المجسمة بقوله: {ثم إليه ترجعون} على أنه تعالى في مكان ولا حجة لهم في ذلك.
وقرأ الجمهور: ترجعون مبنيًا للمفعول من رجع المتعدي.
وقرأ مجاهد، ويحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، والفياض بن غزوان، وسلام، ويعقوب: مبنيًا للفاعل، حيث وقع في القرآن من رجع اللازم، لأن رجع يكون لازمًا ومتعديًا.
وقراءة الجمهور أفصح، لأن الإسناد في الأفعال السابقة هو إلى الله تعالى، {فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} فكان سياق هذا الإسناد أن يكون الفعل في الرجوع مسندًا إليه، لكنه كان يفوت تناسب الفواصل والمقاطع، إذ كأن يكون الترتيب: {ثم إليه مرجعكم} فحذف الفاعل للعلم به وبنى الفعل للمفعول حتى لا يفوت التناسب اللفظي.
وقد حصل التناسب المعنوي بحذف الفاعل، إذ هو وقبل البناء للمفعول مبني للفاعل.
وأما قراءة مجاهد، ومن ذكر معه، فإنه يفوت التناسب المعنوي، إذ لا يلزم من رجوع الشخص إلى شيء أن غيره رجعه إليه، إذ قد يرجع بنفسه من غير رادّ.
والمقصود هنا إظهار القدرة والتصرف التام بنسبة الإحياء والإماتة، والإحياء والرجوع إليه تعالى، وإن كنا نعلم أن الله تعالى هو فاعل الأشياء جميعها.
وفي قوله تعالى: {ثم إليه ترجعون} من الترهيب والترغيب ما يزيد المسيء خشية ويرده عن بعض ما يرتكبه، ويزيد المحسن رغبة في الخير ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان، وفيها رد على الدهرية والمعطلة ومنكري البعث، إذ هو بيده الإحياء والإماتة والبعث وإليه يرجع الأمر كله. اهـ.