فصل: من فوائد أبي السعود في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} التفات إلى خطاب المذكورين مبنيٌّ على إيراد ما عُد من قبائحهم السابقة لتزايد السَخَط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع، والاستفهامُ إنكاري لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} الخ، بل المعنى إنكارُ الواقعِ واستبعادُه والتعجيبُ منه، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكارِ إلى نفس الكفرِ بأن يقال: أتكفرون، لأن كل موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعًا فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البُرهاني، وقوله عز وجل: {وَكُنتُمْ أمواتا} إلى آخر الآية، حالٌ من ضمير الخطاب في تكفرون مؤكدةٌ للإنكار والاستبعادِ بما عُدِّد فيها من الشئون العظيمة الداعيةِ إلى الإيمان الرادعةِ من الكفر من حيث كونُها نعمةً عامة ومن حيث دلالتُها على قدرة تامةٍ كقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} وكيف منصوبةٌ على التشبيه بالظرف عند سيبويه، وبالحال عند الأخفش، أي في أيِّ حال أو على أي حالٍ تكفُرون به تعالى، والحالُ أنكم كنتم أمواتًا أيْ أجسامًا لا حياة لها، عناصرَ وأغذيةً ونُطفًا ومُضَغًا مخلّقةٍ وغيرَ مخلّقةٍ، والأمواتُ جمع ميت كأقوال جمع قيل، وإطلاقُها على تلك الأجسام باعتبار عدمِ الحياةِ مطلقًا كما في قوله تعالى: {بَلْدَةً مَّيْتًا} وقوله تعالى: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة} {فأحياكم} بنفْخِ الأرواحِ فيكم، والفاء للدلالة على التعقيب فإنّ الإحياءَ حاصلٌ إثرَ كونِهم أمواتًا وإنْ توارد عليهم في تلك الحالة أطوارٌ مترتبةٌ بعضُها متراخٍ عن بعض كما أشير إليه آنفًا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي عند انقضاءِ آجالِكم، وكونُ الإماتة من دلائل القدرةِ ظاهر، وأما كونُها من النعم فلكونها وسيلةً إلى الحياة الثانية التي هي الحيَوان والنعمةُ العظمى، والتراخي المستفادُ من كلمة ثم بالنسبة إلى زمان الإحياءِ دون زمان الحياة، فإن زمانَ الإماتةِ غيرُ متراخٍ عنه {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالنشور يوم يُنفَخُ في الصور أو للسؤال في القبور، وأيًا ما كان فهو متراخٍ من زمان الإماتة، وإن كان إثرَ زمانِ الموتِ المستمر {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الحشرِ لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشر، أو إليه تُنْشرون من قبوركم للحساب، وهذه الأفعالُ وإن كان بعضُها ماضيًا وبعضُها مستقبلًا لا يتسنى مقارنةُ شيءٍ منها لما هو حالٌ منه في الزمان، لكن الحالَ في الحقيقة هو العلم المتعلّقُ بها كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وأنتم عالمون بهذه الأحوال المانعةِ منه، ومآلُه التعجيبُ من وقوعه مع تحقق ما ينفيه، وإنما نُظم ما ينكرونه من الإحياء الأخيرِ والرَّجْعِ في سِلك ما يعترفون به من الإحياء الأولِ والإماتةِ تنزيلًا لتمكّنهم من العلم لما عاينوه من الدلائل القاطعةِ منزلةَ العلمِ بذلك بالفعل في إزاحة العللِ والأعذار.
والحياةُ حقيقةٌ في القوة الحساسة أو ما يقتضيها، وبها سُمي الحيوان حيوانًا، مجازٌ في القوة النامية لكونها من طلائعها وكذا فيما يخصُّ الإنسانَ من العقل والعلم والإيمان من حيث إنه كمالُها وغايتُها، والموتُ بإزائها يطلق على ما يقابل كلَّ مرتبة من تلك المراتب قال تعالى: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وقال تعالى: {اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} وقال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في الناس} وعند وصفِه تعالى بها يُراد صِحةَ اتصافِه تعالى بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا، أو معنى قائمٌ بذاته تعالى مقتضٍ لذلك، وقرئ تَرجِعون بفتح التاء والأول هو الأليقُ بالمقام. اهـ.

.من فوائد السعدي في الآية:

قال رحمه الله:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا} أي: خلق لكم، برا بكم ورحمة، جميع ما على الأرض، للانتفاع والاستمتاع والاعتبار.
وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث، فإن تحريمها أيضا يؤخذ من فحوى الآية، ومعرفة المقصود منها، وأنه خلقها لنفعنا، فما فيه ضرر، فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته، منعنا من الخبائث، تنزيها لنا.
وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
{اسْتَوَى} ترد في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون معناها، الكمال والتمام، كما في قوله: عَن موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} وتارة تكون بمعنى علا وارتفع وذلك إذا عديت بعلى كما في قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وتارة تكون بمعنى قصد كما إذا عديت بإلى كما في هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض، قصد إلى خلق السماوات {فسواهن سبع سماوات} فخلقها وأحكمها، وأتقنها، {وهو بكل شيء عليم} ف {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} و{يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} يعلم السر وأخفى.
وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} لأن خلقه للمخلوقات، أدل دليل على علمه، وحكمته، وقدرته. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}.
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَمُرْتَبِطٌ بِهِ ارْتِبَاطًا مُحْكَمًا، وَالْخِطَابُ لِلْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَضِلُّونَ بِالْمَثَلِ؛ فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِنَقْضِ الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ الْمُوَثَّقِ، وَقَطْعِ مَا أَمَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوصَلَ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ تَكْوِينٍ وَهُوَ السُّنَنُ الْكَوْنِيَّةُ، أَوْ أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَهُوَ الدِّيَانَةُ السَّمَاوِيَّةُ، ثُمَّ بَعْدِ هَذَا الْبَيَانِ جَاءَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ عَنْ صِفَةِ كُفْرِهِمْ مُقْتَرِنًا بِالْبُرْهَانِ النَّاصِعِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا شُبْهَةَ تُسَوِّغُ الْإِقَامَةَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ} أَيْ بِأَيِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى تَأْخُذُونَ، وَعَلَى أَيَّةِ شُبْهَةٍ فِيهِ تَعْتَمِدُونَ، وَحَالُكُمْ فِي مَوْتَتَيْكُمْ وَحَيَاتَيْكُمْ تَأْبَى عَلَيْكُمْ ذَلِكَ وَلَا تَدَعُ لَكُمْ عُذْرًا فِيهِ؟ وَبَيَّنَ هَذِهِ الْحَالَ بِقَوْلِهِ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلَ هَذِهِ النَّشْأَةِ الْأُولَى مِنْ حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا أَمْوَاتًا مُنْبَثَّةٌ أَجَزَاؤُكُمْ فِي الْأَرْضِ، بَعْضُهَا فِي طَبَقَتِهَا الْجَامِدَةِ وَبَعْضُهَا فِي طَبَقَتِهَا السَّائِلَةِ وَبَعْضُهَا فِي طَبَقَتِهَا الْغَازِيَّةِ الْهَوَائِيَّةِ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَجْزَاءِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، فَخَلَقَكُمْ أَطْوَارًا مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ فَكُنْتُمْ بِالطَّوْرِ الْأَخِيرِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَفَضَّلَكُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ بِمَا وَهَبَكُمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ، وَمَا سَخَّرَ لَكُمْ مِنَ الْكَائِنَاتِ {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}.
بِقَبْضِ الرُّوحِ الْحَيِّ الَّذِي بِهِ نِظَامُ حَيَاتِكُمْ هَذِهِ فَتَنْحَلُ أَبْدَانُكُمْ بِمُفَارَقَتِهِ إِيَّاهَا وَتَعُودُ إِلَى أَصْلِهَا الْمَيِّتِ؛ وَتَنْبَثُّ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَتُدْغَمُ فِي عَوَالِمِهَا حَتَّى يَنْعَدِمَ هَذَا الْوُجُودُ الْخَاصُّ بِهَا {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} حَيَاةً ثَانِيَةً كَمَا أَحْيَاكُمْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى بِلَا فَرْقٍ إِلَّا مَا تَكُونُ بِهِ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ أَرْقَى فِي مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ وَأَكْمَلَ لِمَنْ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِي تِلْكَ، وَأَدْنَى مِنْهَا وَأَسْفَلَ فِيمَنْ يَدُسُّونَهَا وَيُفْسِدُونَ فِطْرَتَهَا {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [91: 9- 10] {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا عَمِلْتُمْ، وَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى مَا قَدَّمْتُمْ، وَيُجَازِيكُمْ بِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ تَرَاخِيَ الْإِرْجَاعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَنْ حَيَاةِ الْبَعْثِ عِبَارَةٌ عَنْ تَأْخِيرِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ طُولَ زَمَنِ الْوُقُوفِ وَالِانْتِظَارِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَغَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ مَعَهُ وَهَذَا فَضْلُهُ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا مَبْدَؤُكُمْ وَذَلِكَ مُنْتَهَاكُمْ، فَكَيْفَ تَكْفُرُونَ بِهِ وَتُنْكِرُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ لَكُمْ مَثَلًا تَهْتَدُونَ بِهِ، وَيَبْعَثُ فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ قِيَامِ مَصَالِحِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الْأُولَى، وَسَعَادَتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الْأُخْرَى؟
لَا يُقَالُ: كَيْفَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُهَا وَمُثْبِتُهَا؟ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ عَلَى مَجْمُوعِ النَّاسِ بِمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ، وَلَا عِبْرَةَ بِالشُّذَّاذِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْحَيَاةِ الْأَوْلَى بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى كَافٍ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَإِنْكَارِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا لِهِدَايَةِ النَّاسِ زَعْمًا أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَدَ هَذَا الْإِنْسَانَ الْكَرِيمَ، وَجَعَلَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَرَكَّبَ صُورَتَهُ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ الصَّغِيرَةِ وَالنُّطْفَةِ الْمَهِينَةِ الْحَقِيرَةِ، وَالْعَلَقَةِ الدَّمَوِيَّةِ أَوِ الدُّودِيَّةِ، وَالْمُضْغَةِ اللَّحْمِيَّةِ {لَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوَضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِإِبْطَالِ شُبَهِ مُنْكِرِي الْمَثَلِ وَالْقُرْآنِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، لَا لِإِبْطَالِ شُبَهِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ بِلَوَامِعِ شُهُبِهِ، ثُمَّ إِنَّ تَمْثِيلَ إِحْدَى الْحَيَاتَيْنِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْأُخْرَى دَاحِضٌ لِحُجَّةِ مَنْ يَزْعُمُ عَدَمَ إِمْكَانِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ فِي أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ جَازَ فِي الْآخَرِ، وَالْكَلَامُ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ لِلنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ تَابِعٌ لَهُ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}.
كيف في اللغة للسؤال عن الحال. والحق سبحانه وتعالى أوردها في هذه الآية الكريمة ليس بغرض الاستفهام، ولكن لطلب تفسير أمر عجيب ما كان يجب أن يحدث. وبعد كل ما رواه الحق سبحانه وتعالى في آيات سابقة من أدلة دامغة عن خلق السماوات والأرض وخلق الناس.. أدلة لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يخطئها.. فكيف بعد هذه الأدلة الواضحة تكفرون بالله؟ كفركم لا حجة لكم فيه ولا منطق.. والسؤال يكون مرة للتوبيخ.. كأن تقول لرجل كيف تسب أباك؟ أو للتعجب من شيء قد فعله وما كان يجب أن يفعله.. وكلاهما متلاقيان. سواء كان القصد التوبيخ أو التعجب فالقصد واحد.. فهذا ما كان يجب أن يصح منك. ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بأدلة أخرى لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يكذب بها.. فيقول جل جلاله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}.
وهكذا ينتقل الكلام إلى أصل الحياة والموت. فبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى.. ماذا يفعل الكافرون الفاسقون والمنافقون من إفساد في الأرض.. وقطع لما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يوصل.. صعد الجدل إلى حديث عن الحياة والموت. وقوله تعالى: {كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} قضية لا تحتمل الجدل.. ربما استطاعوا المجادلة في مساءلة عدم اتباع المنهج، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل.. ولكن قضية الحياة والموت لا يمكن لأحد أن يجادل فيها. فالله سبحانه وتعالى خلقنا من عدم.. ولم يدع أحد قط أنه خلق الناس أو خلق نفسه.. وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للناس أن الذي خلقكم هو الله.. لم يستطع أحد أن يكذبه ولن يستطيع.. ذلك أننا كنا فعلا غير موجودين في الدنيا.. والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجدنا وأعطانا الحياة.
وقوله تعالى: {ثم يميتكم}. فإن أحدا لا يشك في أنه سيموت.. الموت مقدر على الناس جميعا.. والخلق من العدم واقع بالدليل.. والموت واقع بالحس والمشاهدة.
إن قضية الموت هي سبيلنا لمواجهة أي ملحد.. فإن قالوا إن العقل كاف لإدارة الحياة.. وأنه لا يوجد شيء اسمه غيب.. قلنا: الذي تحكم في الخلق إيجادا، هو الذي يتحكم فيه موتا.. والحياة الدنيا هي مرحلة بين قوسين.. القوس الأول هو أن الله يخلقنا ويوجدنا.. وتمضي رحلة الحياة إلى القوس الثاني.. الذي تخمد فيه بشريتنا وتتوقف حياتنا وهو الموت. أي أننا في رحلة الحياة من الله وإليه.. إذن فحركة الحياة الدنيا هي بداية من الله بالحق ونهاية بالموت.
إنهم عندما تحدثوا عن أطفال الأنابيب.. وهي عملية لعلاج العقم أكثر من أي شيء آخر.. ولكنهم صوروها تصويرا جاهليا.. وكل ما يحدث أنهم يأخذون بويضة من رحم الأم التي يكون المهبل عندها مسدودا أو لا يسمح بالتلقيح الطبيعي.. يأخذون هذه البويضة من رحم الأم.. ويخصبونها بالحيوانات المنوية للزوج.. ثم يزرعونها في رحم الأم.
إنهم أخذوا من خلق الله وهي بويضة الأم والحيوان المنوي من الرجل.. وكل ما يفعلونه هو عملية التلقيح ومع ذلك يسمونه أطفال الأنابيب.. كأن الأنبوبة يمكن أن تخلق طفلا!! والحقيقة غير ذلك.. فبويضة الأم، والحيوان المنوي للرجل هما من خلق الله.. وهم لم يخلقوا شيئا.. أننا نقول لهم: إذا كنتم تملكون الموت والحياة فامنعوا إنسانا واحدا أن يموت.. بدلا من إنفاق ألوف الجنيهات في معالجة عقم قد ينجح أو لا ينجح.. ابقوا واحدا على قيد الحياة.. ولن يستطيعوا.
إن الموت أمر حسي مشاهد.. ولذلك فمن رحمة الله بالعقل البشري بالنسبة للأحداث الغيبية أن الله سبحانه وتعالى قربها لنا بشيء مشاهد.. كيف؟ عندما ينظر الإنسان إلى نفسه وهو حي.. لا يعرف كيف أحياه الله وكيف خلقه.. الله سبحانه وتعالى ذكر لنا غيب الخلق في القرآن الكريم فقال جل جلاله أنه خلق الإنسان من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون ثم نفخ فيه من روحه.
واقرأ قول الحق سبحانه: {إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحج: 5].
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12].
وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11].
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26].
وقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72].
فالحق تبارك وتعالى أخبرنا عن مرحلة في الخلق لم نشهدها.. ولكن الموت شيء مشهود لنا جميعا.. ومادام مشهودا لنا، يأتي الحق سبحانه وتعالى به كدليل على مراحل الخلق التي لم نشهدها.. فالموت نقض للحياة.. والحياة أخبرنا الله تبارك وتعالى بأطوارها.. ولكنها غيب لم نشهده.
ولكن الذي خلق قال أنا خلقتك من تراب.. من طين. من حمأ مسنون. من صلصال كالفخار.. فالماء وضع على تراب فأصبح طينا.. والطين تركناه فتغير لونه وأصبح صلصالا.. الصلصال.. جف فأصبح حمأ مسنونا، ثم نحته في صورة إنسان ونفخ الحق سبحانه وتعالى فيه الروح فأصبح بشرا.. ثم يأتي الموت وهو نقض للحياة.. ونقض كل شيء يأتي على عكس بنائه.
بناء العمارة يبدأ من أسفل إلى أعلى.. وهدمها يبدأ من أعلى إلى أسفل.
ولذلك فإن آخر مرحلة من رحلة ما.. هي أول خطوة في طريق العودة.. فإذا كنت مسافرا إلى الإسكندرية.. فأول مكان في طريق العودة هو آخر مكان وصلت إليه.
أول شيء يخرج من الجسد هو الروح وهو آخر ما دخل فيه.. ثم بعد ذلك يتصلب الجسد ويصبح كالحمأ المسنون.. ثم يتعفن فيصبح كالصلصال.. ثم يتبخر الماء الذي فيه فيعود ترابا.. وهكذا يكون الموت نقض صورة الحياة.. متفقا مع المراحل التي بينها لنا الحق سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. أي أن الله تبارك وتعالى يبعثكم ليحاسبكم.. لقد حاول الكفار والملحدون وأصحاب الفلسفة المادية أن ينكروا قضية البعث.. وهم في هذا لم يأتوا بجديد.. بل جاءوا بالكلام نفسه الذي قاله أصحاب الجاهلية الأولى.. واقرأ قوله تعالىعما يقوله أصحاب الجاهلية الأولى: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].
وأمنية الكافر والمسرف على نفسه.. ألا يكون هناك بعث أو حساب.. والذين يتعجبون من ذلك نقول لهم: أن الله سبحانه وتعالى الذي أوجدكم من عدم يستطيع أن يعيدكم وقد كنتم موجودين.. يقول جل جلاله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27].
فإيجاد ما كان موجودا أسهل من الإيجاد من عدم على غير مثال موجود.. والله سبحانه وتعالى يرد على الكفار فيقول سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78- 79].
وهكذا فإن البعث أهون على الله من بداية الخلق.. وكل شيء مكتوب عند الله سبحانه وتعالى في كتاب مبين.. وما أخذته الأرض من جسد الإنسان ترده يوم القيامة.. ليعود من جديد.
وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان.. واقرأ قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
وقول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. هو اطمئنان لمن آمن.. ومادمنا إليه نرجع ومنه بدأنا.. فالحياة بدايتها من الله ونهايتها إلى الله.. فلنجعلها هي نفسها لله.. ولابد أن نلتفت إلى أن الله تبارك وتعالى أخفى عنا الموت زمانا ومكانا وسببا وعمرا.. لم يخفه ليحجبه، وإنما أخفاه حتى نتوقعه في كل لحظة.. وهذا إعلام واسع بالموت حتى يسرع الناس إلى العمل الصالح.. وإلى المثوبة. لأنه لا يوجد عمر متيقن في الدنيا.. فلا الصغير آمن على عمره.. ولا الشاب آمن على عمره.. ولا الكهل آمن على عمره.
ولذلك يجب أن يسارع كل منا في الخيرات.. حتى لا يفاجئه الموت.. فيموت وهو عاص.
ونلاحظ أن قصة الحياة جاء الله بها في آية واحدة. والرجوع إلى الله- وهو يقين بالنسبة للمؤمنين- يلزمهم بالمنهج، فيعيشون من حلال. والتزامهم هذا هو الذي يقودهم إلى طريق الجنة. ويطمئنهم على أولادهم بعد أن يرحل الآباء من الدنيا.
فعمل الرجل الصالح ينعكس على أولاده من بعده. واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].
إذن فصاحب الالتزام بالمنهج، يطمئن إلى لقاء ربه ويطمئن إلى جزائه، والذي لا يؤمن بالآخرة أخذ من الله الحياة فأفناها فيما لا ينفع. ثم بعد ذلك لا يجد شيئا إلا الحساب والنار.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
أي أن الكافر سيفاجأ في الآخرة بالله الذي لم يكن في باله أنه سيحاسبه على ما فعل.. وقوله تعالى: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تقرأ قراءتان. بضمة على التاء. ومرة بفتحة على التاء. الأولى معناها. أننا نُجْبِرُ على الرجوع. فلا يكون الرجوع إلى الله تعالى بإرادتنا، وهذا ينطبق على الكفار الذين يتمنون عدم الرجوع إلى الله. أما الثانية {تَرجعون} فهذه فيها إرادة. وهي تنطبق على المؤمنين لأنهم يتمنون الرجوع إلى الله. اهـ.