فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ}
انتقال لبيان ما أجمل من حكم الأنفال، الذي افتتحته السورة، ناسب الانتقال إليه ما جرى من الأمر بقتال المشركين إن عادوا إلى قتال المسلمين.
والجملة معطوفة على جملة {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} [الأنفال: 39].
وافتتاحه بـ {اعلموا} للاهتمام بشأنه، والتنبيهِ على رعاية العمل به، كما تقدّم في قوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} [الأنفال: 24] فإنّ المقصود بالعلم تقرّر الجزم بأنّ ذلك حكم الله، والعمل بذلك المعلوم، فيكون {اعلموا} كناية مرادًا به صريحه ولازمه.
والخطاب لجميع المسلمين وبالخصوص جيش بدر، وليس هذا نسخًا لحكم الأنفال المذكور أوّل السورة، بل هو بيان لإجمال قوله: {للَّه وللرسول} وقال أبو عبيد: إنّها ناسخة، وأنّ الله شرع ابتداء أنّ قسمة المغانم لرسوله صلى الله عليه وسلم يريد أنها لاجتهاد الرسول بدون تعيين، ثم شرع التخميس.
وذكروا: أنّ رسول الله لم يخمّس مغانم بدر، ثم خمّس مغانم أخرى بعد بدر، أي بعد نزول آية سورة الأنفال، وفي حديث علي: أنّ رسول الله أعطاه شارفًا من الخمس يوم بدر، فاقتضت هذه الرواية أنّ مغانم بدر خمّست.
وقد اضطربت أقوال المفسّرين قديمًا في المراد من المغنم في هذه الآية، ولم تنضبط تقارير أصحاب التفاسير في طريقة الجمع بين كلامهم على تفاوت بينهم في ذلك، ومنهم من خلطها مع آية سورة الحشر، فجعل هذه ناسخة لآية الحشر والعكس، أو أنّ إحدى الآيتين مخصّصة للأخرى: إمّا في السهام، وإمّا في أنواع المغانم، وتفصيل ذلك يطول.
وتردّدوا في مسمّى الفيء فصارت ثلاثة أسماء مجالًا لاختلاف الأقوال: النفَل، والغنيمة، والفيء.
والوجه عندي في تفسير هذه الآية، واتّصالها بقوله: {يسألونك عن الأنفال} [الأنفال: 1] أنَّ المراد بقوله: {ما غنمتم} في هذه الآية: ما حصلتم من الغنائم من متاع الجيش، وذلك ما سمّي بالأنفال، في أوّل السورة، فالنفل والغنيمة مترادفان، وذلك مقتضى استعمال اللغة، فعن ابن عبّاس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعكرمة، وعطاء: الأنفال الغنائم.
وعليه فوجه المخالفة بين اللفظين إذ قال تعالى هنا: {غنمتم} وقال في أوّل السورة [الأنفال: 1]: {يسألونك عن الأنفال} لاقتضاء الحال التعبيرَ هنا بفعلٍ، وليس في العربية فعل من مادّة النفَل يفيد إسناد معناه إلى من حَصَل له، ولذلك فآية: {واعلموا أنما غنمتم} سيقت هنا بيانًا لآية: {يسألونك عن الأنفال} فإنّهما وردتا في انتظام متّصل من الكلام.
ونرى أنّ تخصيص اسم النفَل بما يعطيه أميرُ الجيش أحدَ المقاتلين زائدًا على سهمه من الغنيمة سواء كان سلبًا أو نحوه ممّا يسعه الخمس أو من أصل مال الغنيمة على الخلاف الآتي، إنّما هو اصطلاح شاع بين أمراء الجيوش بعد نزول هذه الآية، وقد وقع ذلك في كلام عبد الله بن عمر، وأمّا ما روي عن ابن عبّاس: أنّ الأنفال ما يصل إلى المسلمين بغير قتال، فجعلها بمعنى الفيء، فمحمله على بيان الاصطلاح الذي اصطلحوا عليه من بعد.
وتعبيرات السلف في التفرقة بين الغنيمة والنفل غير مضبوطة، وهذا ملاك الفصل في هذا المقام لتمييز أصناف الأموال المأخوذة في القتال، فأما صور قسمتها فسيأتي بعضها في هذه الآية.
فاصطلحوا على أنّ الغنيمة، ويُقال: لها المغنم، ما يأخذه الغزاة من أمتعة المقاتلين غصبًا، بقتل أو بأسر، أو يقتحمون ديارهم غازين، أو مايتركه الأعداء في ديارهم، إذا فرّوا عند هجوم الجيش عليهم بعد ابتداء القتال.
فأمّا ما يظفر به الجيش في غير حالة الغزو من مال العدوّ، وما يتركه العدوّ من المتاع إذا أخلوا بلادهم قبل هجوم جيش المسلمين، فذلك الفيء وسيجيء في سورة الحشر.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في مقتضى هذه الآية مع آية: {يسألونك عن الأنفال} [الأنفال: 1] إلخ.
فقال مالك: ليس أموال العدوّ المقاتل حقّ لجيش المسلمين إلاّ الغنيمة والفيء.
وأمّا النفَل فليس حقًّا مستقلًا بالحكم، ولكنّه ما يعطيه الإمام من الخمس لبعض المقاتلين زائدًا على سهمه من الغنيمة، على ما يرى من الاجتهاد، ولا تعيين لمقدار النفل في الخمس ولا حدّ له، ولا يكون فيما زاد على الخُمس.
هذا قول مالك ورواية عن الشافعي.
وهو الجاري على ما عمل به الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة، والشافعي، في أشهر الروايتين عنه، وسعيد بن المسيّب: النفل من الخمس وهو خُمس الخمس.
وعن الأوزاعي، ومكحول، وجمهور الفقهاء: النفل ما يعطى من الغنيمة يخرج من ثلث الخمس.
و(ما) في قوله: {أنما} اسم موصول وهو اسم (أنَّ) وكتبت هذه في المصحف متّصلة بـ(أنّ) لأنّ زمان كتابة المصحف كان قبل استقرار قواعد الرسم وضبط الفروق فيه بين ما يتشابه نطقه ويختلف معناه، فالتفرقة في الرسم بين (ما) الكافّة وغيرها لم ينضبط زمن كتابة المصاحف الأولى، وبقيت كتابة المصاحف على مثال المصحف الإمام مبالغة في احترام القرآن عن التغيير.
و{من شيء} بيان لعموم (ما) لئلا يتوهّم أنّ المقصود غنيمة معيّنة خاصّة.
والفاء في قوله: {فأن لله خمسه} لما في الموصول من معنى الاشتراط، وما في الخبر من معنى المجازاة بتأويل: إن غنمتم فحقّ لله خمسُهُ إلخ.
والمصدر المؤوّل بعد (أنّ) في قوله: {فأن لله خمسه} مبتدأ حذف خبره، أو خبر حذف مبتدؤه، وتقدير المحذوف بما يناسب المعنى الذي دلّت عليه لام الاستحقاق، أي فحقّ لله خمسهُ.
وإنّما صيغ على هذا النظم، مع كون معنى اللام كافيًا في الدلالة على الأحقّيّة، كما قرئ في الشاذ {فللَّه خمسه} لما يفيده الإتيان بحرف (أنّ) من الإسناد مرتين تأكيدًا، ولأنّ في حذف أحد ركني الإسناد تكثيرًا لوجوه الاحتمال في المقدّر، من نحو تقدير: حقّ، أو ثبات، أو لازم، أو واجب.
واللام للملك، أو الاستحقاق، وقد علم أنّ أربعة الأخماس للغزاة الصادق عليهم ضمير {غنمتم} فثبت به أنّ الغنيمة لهم عدا خمسها.
وقد جعل الله خمس الغنيمة حقّا لله وللرسول ومن عطف عليهما، وكان أمر العرب في الجاهلية أنّ ربع الغنيمة يكون لقائد الجيش، ويسمّى ذلك المرباع بكسر الميم.
وفي عرف الإسلام إذا جعل شيء حقًّا لله، من غير ما فيه عبادة له: أنّ ذلك يكون للذين يأمر الله بتسديد حاجتهم منه، فلكلّ نوع من الأموال مستحقّون عيّنهم الشرع، فالمعنى في قوله: {فأن لله خمسه} أنّ الابتداء باسم الله تعالى للإشارة إلى أنّ ذلك الخمس حقّ الله يصرفه حيث يشاء، وقد شاء فوكل صرفه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولمن يخلف رسوله من أئمّة المسلمين.
وبهذا التأويل يكون الخمس مقسومًا على خمسة أسهم، وهذا قول عامّة علماء الإسلام وشذّ أبو العالية رفيع الرياحي ولاء من التابعين، فقال: إنّ الخمس يقسم على خمسة أسهم فيعزل منها سهم فيضرب الأمير بيده على ذلك السهم الذي عزله فما قبضت عليه يده من ذلك جعله للكعبة: أي على وجه يشبه القرعة، ثم يقسم بقية ذلك السهم على خمسة: سهم للنبيء صلى الله عليه وسلم وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
ونسب أبو العالية ذلك إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وأمّا الرسول عليه الصلاة والسلام فلحقه حالتان: حالة تصرّفه في مال الله بما ائتمنه الله على سائر مصالح الأمة، وحالة انتفاعه بما يحبّ انتفاعه به من ذلك.
فلذلك ثبت في الصحيح: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من الخمس نفقته ونفقة عياله، ويجعل الباقي مجعل مال الله.
وفي الصحيح: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفيء: «ما لي ممّا أفاء الله عليكم إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم» فيقاس عليه خمس الغنيمة، وكذلك كان شأن رسول الله في انتفاعه بما جعله الله له من الحقّ في مال الله.
وأوضح شيء في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب في محاورته مع العباس وعلي، حين تحاكما إليه، رواه مالك في الموطأ ورجال الصحيح، قال عمر: إنّ الله كان قد خصّ رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره قال: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} [الحشر: 7] فكانت هذه خالصة لرسول الله، ووالله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثّها فيكم حتّى بقي منها هذا المال.
فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله.
والغرض من جلب كلام عمر قوله: ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله.
وأمّا ذو {القربى} ف (أل) في {القربى} عوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى في سورة [البقرة: 177]: {وآتى المال على حبه ذوي القربى} أي ذوي قرابة المؤتي المال.
والمراد هنا هو (الرسول) المذكور قبله، أي ولذوي قربى الرسول، والمراد بـ (ذي) الجنس، أي: ذوي قربى الرسول، أي: قرابته، وذلك إكرام من الله لرسوله إذ جعل لأهل قرابته حقًّا في مال الله، لأن الله حرّم عليهم أخذ الصدقات والزكاة.
فلا جرم أنّه أغناهم من مال الله.
ولذلك كان حقّهم في الخمس ثابتًا بوصف القرابة.
فذو القربى مراد به كلّ من اتّصف بقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام فهو عام في الأشخاص، ولكن لفظ {القربى} جنس فهو مجمل، وأجملت رتبة القرابة إحالة على المعروف في قربى الرجل، وتلك هي قربى نسب الآباء دون الأمّهات.
ثم إنّ نسب الآباء بين العرب يعدّ مشتركًا إلى الحَدّ الذي تنشقّ منه الفصائل، ومحملها الظاهر على عَصبة الرجل من أبناء جدّه الأدنى.
وأبناء أدنى أجداد النبي صلى الله عليه وسلم هم بنو عبد المطلب بن هاشم، وإن شئت فقل: هم بنو هاشم، لأنّ هاشمًا لم يبقَ له عقب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ مِن عبد المطلب، فالأرجح أنّ قربى الرسول صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم، وهذا قول مالك وجمهور أصحابه، وهو إحدى روايتين عن أحمد بن حنبل، وقاله ابن عبّاس، وعلي بن الحسين، وعبد الله بن الحسن، ومجاهد، والأوزاعي، والثوري.
وذهب الشافعي، وأحمد في إحدى روايتين عنه، التي جرى عليها أصحابه، وإسحاق وأبو ثور: أنّ القربى هنا: هم بنو هاشم وبنو المطلب، دون غيرهم من بني عبد مناف.
ومال إليه من المالكية ابنُ العربي، ومتمسّك هؤلاء ما رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، عن جبير بن مُطعِم: أنّه قال: أتيت أنا وعثمان بن عفّان رسولَ الله نكلّمه فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله: قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئًا، وقرابتُنا وقرابتهم واحدة فقال: «إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد».
وهو حديث صحيح لا نزاع فيه، ولا في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بني هاشم وبني المطلب دون غيرهم.