فصل: تنبيه (في منشأ الخلاف في سلب القاتل):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا يستحق القاتل سلب المقتول، إلا أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتالهم.
فأما إن قتل امرأة، أو صبيًا، أو شيخًا فانيًا، أو ضعيفًا مهينًا، أو مثخنًا بالجراح لم تبق فيه منفعة، فليس له سلبه.
ولا خلاف بين العلماء: في أن من قتل صبيًا، أو امرأة، أو شيخًا فانيًا، لا يستحق سلبهم، إلا قولًا ضعيفًا جدًا يروى عن أبي ثور، وابن المنذر: في استحقاق سلب المرأة.
والدليل على أن من قتل مثخنًا بالجراح لا يستحق سلبه، أن عبد الله بن مسعود، هو الذي ذفف على أبي جهل يوم بدر، وحز رأسه. وقد قضى النَّبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاد بن عمرو بن الجموح الذي أثبته، ولم يعط ابن مسعود شيئًا.
وهذا هو الحق الذي جاء به الحديث المتفق عليه، فلا يعارض بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقله سيف أبي جهل يوم بدر. لأنه من رواية ابنه أبي عبيدة، ولم يسمع منه، وكذلك المقدم للقتل صبرًا لا يستحق قاتله سلبه، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أمر بقتل النضر بن الحارث، العبدري، وعقبة بن أبي معيط الأموي صبرًا يوم بدر ولم يعط من قتلهما شيئًا من سلبهما.
واختلفوا فيمن أسر أسيرًا: هل يستحق سلبه إلحاقًا للأسر بالقتل أو لا؟ والظاهر أنه لا يستحقه، لعدم الدليل. فيجب استصحاب عموم {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] الآية حتى يرد مخصص من كتاب أو سنة صحيحة، وقد أسر النَّبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، أسارى بدر، وقتل بعضهم صبرًا كما ذكرنا، ولم يعط أحدًا من الذين أسروهم شيئًا من أسلابهم، ولا من فدائهم بل جعل فداءهم غنيمة.
أما إذا قاتلت المرأة أو الصبي المسلمين: فالظاهر أن لمن قتل أحدهما سلبه، لأنه حينئذ ممن يجوز قتله، فيدخل في عموم: «من قتل قتيلًا» الحديث، وبهذا جزم غير واحد. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن العلماء اختلفوا في استحقاق القاتل السلب، هل يشترط فيه قول الإمام: «من قتل قتيلًا فله سلبه»! أو يستحقه مطلقًا. قال الإمام ذلك أو لم يقله؟
وممن قال بهذا الأخير: الإمام أحمد، والشافعي، والأوزاعي، والليث، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، والطبري، وابن المنذر.
وممن قال بالأول: الذي هو أنه لا يستحقه إلا بقول الإمام: «من قتل قتيلًا» إلخ الإمام أبو حنيفة، ومالك، والثوري.
وقد قدمنا عن مالك وأصحابه: أن قول الإمام ذلك: لا يجوز قبل القتال، لئلا يؤدي إلى فساد النية، ولكن بعد وقوع الواقع، يقول الإمام: من قتل قتيلًا. إلخ.
واحتج من قال: باستحقاق القاتل سلب المقتول مطلقًا. بعموم الأدلة لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم. صرح بأن من قتل قتيلًا فله سلبه، ولم يخصص بشيء. العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، كما علم في الأصول.
واحتج مالك، وأبو حنيفة، ومن وافقهما بأدلة:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن الأكوع، المتفق عليه في قصة قتل معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ ابن عفراء الأنصاريين لأبي جهل يوم بدر. فإن فيه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه، فقال: «أيكما قتله»؟!، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: «هل مسحتما ًسيفيكما»؟ قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. اهـ.
قالوا: فتصريحه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، المتفق عليه، بأن كليهما قتله، ثم تخصيص أحدهما بسلبه، دون الآخر، صريح في أن القاتل لا يستحق السلب، إلا بقول الإمام: إنه له، إذ لو كان استحقاقه له بمجرد القتل لما كان لمنع معاذ بن عفراء وجه، مع أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه قتله مع معاذ بن عمرو، ولجعله بينهما.
ومنها: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، عن عوف بن مالك قال: قتل رجل من حمير، رجلًا من العدو، فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد، وكان واليًا عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عوف بن مالك فأخبره. فقال لخالد: «ما منعك أن تعطيه سلبه» قال: استكثرته يا رسول الله، قال: «ادفعه إليه»، فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فاستغضب فقال: لا تعطه يا خالد، لا تعطهيا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي، إنما مثلكم ومثلهم، كمثل رجل استرعى إبلًا، أو غنمًا فرعاها، ثم تحين سقيها فأوردها حوضًا فشرعت فيه، فشربت صفوه، وتركت كدره، فصفوه لكم وكدره عليهم.
وفي رواية عند مسلم أيضًا: عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة، في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من اليمن، وساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، غير نه قال في الحديث: قال عوف بن مالك: فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل، قال بلى، ولكني استكثرته، هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وفي رواية عن عوف أيضًا، عند الإمام أحمد وأبي داود قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من أهل اليمن، ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له، أشقر، عليه سرج مذهب. وسلاح مذهب. فجعل الرومي يفري في المسلمين. فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه. فخر وعلاه فقتله. وحاز فرسه. وسلاحه. فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد.
فأخذ السلب. قال عوف: فأتيته. فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قضى بالسلب للقاتل. قال. بلى ولكن استكثرته. قلت: لتردنه إليه، أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصت عليه قصة المددي، وما فعل خالد، وذكر بقية الحديث بمعنى ما تقدم. اهـ.
فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «لا تعطه يا خالد» دليل على أنه لم يستحق السلب بمجرد القتل، إذ لو استحقه به، لما منعه منه النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما ذكره ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن الأسود بن قيس، عن بشر بن علقمة قال: بارزت رجلًا يوم القادسية، فقتلته، وأخذت سلبه، فأتيت سعدًا، فخطب سعد أصحابه، ثم قال: هذا سلب بشر ابن علقمة لهو خير من اثني عشر ألف درهم، وإنا قد نفلناه إياه.
فلو كان السلب للقاتل قضاء من النَّبي صلى الله عليه وسلم، لما أضاف الأمراء ذلك التنفيل إلى أنفسهم باجتهادهم، ولأخذه القاتل دون أمرهم، قاله القرطبي.
قال مقيده- عفا الله عنه-: أظهر القولين عندي دليلًا، أن القاتل لا يستحق السلب إلا بإعطاء الإمام. لهذه الأدلة الصحيحة، التي ذكرنا فإن قيل: هي شاهدة لقول إسحاق: إن كان السلب يسيرًا فهو للقاتل، وإن كان كثيرًا خمس.
فالجواب: أن ظاهرها العموم مع أن سلب أبي جهل لم يكن فيه كثرة زائدة، وقد منع منه النَّبي صلى الله عليه وسلم معاذ ابن عفراء.

.تنبيه [في منشأ الخلاف في سلب القاتل]:

جعل بعض العلماء منشأ الخلاف في سلب القاتل، هل يحتاج إلى تنفيذ الإمام أو لا، هو الإختلاف في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلًا» الحديث، هل هو حكم؟ وعليه فلا يعم بل يحتاج دائمًا إلى تنفيذ الإمام، أو هو فتوى؟ فيكون حكمًا عامًا غير محتاج إلى تنفيذ الإمام.
قال صاحب (نشر البنود) شرح (مراقي السعود) في شرح قوله:
وسائر حكاية الفعل بما ** منه العموم ظاهرًا قد علما

ما نصه:

.تنبيه [على الاختلاف في احتياج سلب القتيل إلى تنفيذ الإمام]:

حكى ابن رشد خلافًا بين العلماء، في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلًا له عليه بينة، فله سلبه»، هل يحتاج سلب القتيل إلى تنفيذ الإمام، بناء على أن الحديث حكم فلا يعم، أو لا يحتاج إليه بناء على أنه فتوى، وكذا قوله لهند: «خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف» فيه خلاف. هل هو حكم فلا يعم، أو فتوى فيعم.
قال ميارة في التكميل:
وفي حديث هند الخلاف هل ** حكم يخصها أو إفتاء شمل

واعلم أن العلماء اختلفوا في السلب، هل بخمس أو لا؟ على ثلاثة أقوال: الأول: لا يخمس.
الثاني: يخمس.
الثالث: إن كان كثيرًا خمس، وإلا فلا.
وممن قال: إنه لا يخمس، الشافعي، وأحمد، وابن المنذر، وابن جرير، ويروى عن سعد بن أبي وقاص.
وممن روي عنه أنه يخمس: ابن عباس، والأوزاعي، ومكحول.
وممن فرق بين القليل والكثير: إسحاق، واحتج من قال: لا يخمس بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود وابن حبان، والطبراني، عن عوف بن مالك، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما. أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب.
وقال القرطبي في تفسيره، بعد أن ساق حديث عوف بن مالك الذي قدمنا عند مسلم ما نصه. وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده، الذي أخرجه به مسلم، وزاد بيانًا أن عوف بن مالك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب. اهـ.
وقال ابن حجر في التلخيص في حديث خالد وعوف المتقدم، ما لفظه: وهو ثابت في صحيح مسلم في حديث طويل فيه قصة لعوف مع خالد بن الوليد، وتعقبه الشوكاني في نيل الأوطار بما نصه: وفيه نظر، فإن هذا اللفظ الذي هو محل الحجة لم يكن في صحيح مسلم، بل الذي فيه هو ما سيأتي قريبًا، وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش، وفيه كلام معروف قد تقدم ذكره مرارًا. اهـ.
قال مقيده- عفا الله عنه-: وقد قدمنا حديث عوف المذكور بلفظ مسلم في صحيحه، وليس فيه ما ذكره الحافظ ابن حجر، فهو وهم منه، كما نبه عليه الشوكاني رحمهما الله تعالى.
والتحقيق في إسماعيل بن عياش أن روايته عن غير الشاميين ضعيفة. وهو قوي في الشاميين، دون غيرهم.
قال مقيده- عفا الله عنه-: وهذا الحديث من رواية إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك، وإسماعيل، وشيخه في هذا الحديث، الذي هو صفوان بن عمرو، كلاهما حمصي، فهو بلدي له:
وبه تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور، مع قوة شاهده، الذي قدمنا عن أبي بكر البرقاني، بسند على شرط مسلم.
واحتج من قال بأن السلب يخمس: بعموم قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية.
واحتج من قال: يخمس الكثير دون اليسير: بما رواه أنس، عن البراء بن مالك أنه قتل من المشركين مائة رجل، إلا رجلًا مبارزة، وأنهم لما غزوا الزاره، خرج دهقان الزاره، فقال: رجل ورجل، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما، ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده، ثم أخذ السيف فذبحه، وأخذ سلاحه ومنطقته، وأتى به عمر، فنفله السلاح، وقوم المنطقة بثلاثين ألفًا، فخمسها، وقال: إنها مال. اهـ. بنقل القرطبي.
وقال قبل هذا: وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك، حين بارز المرزبان فقتله. فكانت قيمة منطقته، وسواريه ثلاثين ألفًا، فخمس ذلك. اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني: وقال إسحاق: إن استكثر الإمام السلب، فذلك إليه، لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزاره بالبحرين فطعنه، فدق صلبه، وأخذ سواريه، وسلبه، فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره، فقال: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالًا، وأنا خامسه. فكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء. رواه سعيد في السنن.
وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفًا.
قال مقيده- عفا الله عنه-: أظهر الأقوال دليلًا عندي أن السلب لا يخمس لحديث عوف وخالد المتقدم، ويجاب عن أخذ الخمس من سلب البراء بن مالك، بأن الذي تدل عليه القصة أن السلب لا يخمس: لأن قول عمر إنا كنا لا نخمس السلب، وقول الراوي كان أول سلب خمس في الإسلام: يدل على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وأبا بكر، وعمر صدرًا من خلافته لم يخمسوا سلبًا، واتباع ذلك أولى.
قال الجوزجاني: لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق فيه من الرسول صلى الله عليه وسلم شيء إلا اتباعه. ولا حجة في قول أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن قدامة في (المغني)، والأدلة التي ذكرنا يخصص بها عموم قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] الآية.