فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ ابن كثير في رواية قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص {من حيّ} بياء واحدة مشددة، وقرأ نافع وابن كثير في رواية البزي وعاصم في رواية أبي بكر {من حيِيَ} بإظهار الياءين وكسر الأولى وفتح الثانية، قال من قرأ {حيّ} فلأن الياء قد لزمتها الحركة فصار الفعل بلزوم الحركة لها مشبهًا بالصحيح مثل عض وشم ونحوه، ألا ترى أن حذف الياء من جوارٍ في الجر والرفع لا يطرد في حال النصب إذا قلت رأيت جواري لمشابهتها بالحركة سائر الحروف الصحاح، ومنه قوله: {كلا إذا بلغت التراقي} [القيامة: 26]، وعلى نحو: {حيّ} جاء قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
عيّوا بأمرهم كما ** عيّتْ ببيضتها الحمامه

ومنه قول لبيد: [الرمل]
سألتني جارتي عن أمتي ** وإذا ما عيَّ ذو اللب سأل

وقول المتلمس: [الطويل]
فهذا أوان العرض حيّ ذبابه ** زنابيره والأزرق المتلمس

ويروى جن ذبابه، قال أبو علي وغيره: هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلية فالإدغام في ماضيه جائز، ألا ترى أن قوله تعالى: {على أن يحيي الموتى} [الأحقاف: 33، القيامة: 40] لا يجوز الإدغام فيه لأن حركة النصب غير لازمة، ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم، ولا يلتفت إلى ما أنشد بعضهم لأنه بيت مجهول: [الكامل]
وكأنها بين النساء سبيكة ** تمشي بسدة بيتها فتعي

قال ابو علي وأما قراءة من قرأ {حيي}، فبين ولم يدغم، فإن سيبويه قال: أخبرنا بهذه اللغة يونس، قال وسمعنا بعض العرب يقول أحيياء قال أبو حاتم: القراءة إظهار الياءين والإدغام حسن فاقرأ كيف تعلمت فإن اللغتين مشهورتان في كلام العرب، والخط فيه ياء واحدة.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه اللفظة استوعب أبو علي القول فيما تصرف من {حيي} كالحي الذي هو مصدر منه وغيره. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إذ أنتم بالعِدوة الدنيا}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {بالعِدوة} و{العِدوة} العين فيهما مكسورة.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: بضم العين فيهما.
قال الأخفش: لم يُسمع من العرب إلا الكسر.
وقال ثعلب: بل الضم أكثر اللغتين.
قال ابن السِّكّيت: عُدوة الوادي وعِدوته: جانبه؛ والجمع: عُدىً وعِدىً.
والدنيا: تأنيث الأدنى؛ وضدها: القصوى، وهي تأنيث الأقصى؛ وما كان من النعوت على فُعلى من ذوات الواو، فإن العرب تحوِّلُه إلى الياء، نحو الدنيا، من: دنوت؛ والعليا، من علوت؛ لأنهم يستثقلون الواو مع ضم الأول، وليس في هذا اختلاف، إلا أن أهل الحجاز قالوا: القُصوى، فأظهروا الواو، وهو نادر؛ وغيرهم يقول: القصيا.
قال المفسرون: إذ أنتم بشفير الوادي الأدنى من المدينة، وعدوُّكم بشفيره الأقصى من مكة، وكان الجمعان قد نزلا وادي بدر على هذه الصفة، والركب: أبو سفيان وأصحابه.
قال الزجاج: من نصب {أسفلَ} اراد: والركب مكانًا أسفلَ منكم، ويجوز الرفع على المعنى: والركب أشدُ تسفُّلًا منكم.
قال قتادة: وكان المسلمون أعلى الوادي، والمشركون أسفله.
وفي قوله: {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} قولان:
أحدهما: لو تواعدتم، ثم بلغكم كثرتهم، لتأخَّرتم عن الميعاد، قاله ابن اسحاق.
والثاني: لو تواعدتم على الاجتماع في المكان الذي اجتمعتم فيه من عِدوتي وادي بدر لاختلفتم في الميعاد، قاله أبو سليمان.
وقال الماوردي: كانت تقع الزيادة والنقصان، أو التقدم والتأخر من غير قصد لذلك.
قوله تعالى: {ولكنْ ليقضيَ الله أَمرًا كان مفعولًا} وهو إعزاز الإسلام، وإذلال الشرك.
قوله تعالى: {ليَهلِكَ من هلك عن بينة} وروى خلف عن يحيى: {ليُهلَك} بضم الياء وفتح اللام.
قوله تعالى: {ويحيى من حيَّ عن بينة} قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {من حيَّ} بياء واحدة مشددة، وهذه رواية حفص عن عاصم، وقنبل عن ابن كثير.
وروى شِبْلٌ عن ابن كثير، وابو بكر عن عاصم: {حيِي} بياءين الأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، وهي قراءة نافع.
فمن قرأ بياءين، بيَّن ولم يُدغم، ومن أدغم ياء {حيي} فلاجتماع حرفين من جنس واحد.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: ليُقتَل من قُتل من المشركين عن حُجة، ويبقى من بقي منهم عن حُجة.
والثاني: ليكفر من كفر بعد حُجة، ويؤمن من آمن عن حُجة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} أي أنزلنا إذ أنتم على هذه الصفة.
أو يكون المعنى: واذكروا إذ أنتم.
والْعُدْوة: جانب الوادي.
وقرئ بضم العين وكسرها؛ فعلى الضم يكون الجمع عُدى، وعلى الكسر عِدى، مثل لحية ولِحىً، وفرية وفِرىً.
والدنيا: تأنيث الأدنى.
والقصوى: تأنيث الأقصى.
من دنا يدنو، وقَصَا يقصو.
ويقال: القصيا.
والأصل الواو، وهي لغة أهل الحجاز قصوى.
فالدنيا كانت مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة.
أي إذ أنتم نزول بشفير الوادي بالجانب الأدنى إلى المدينة، وعدوكم بالجانب الأقصى.
{والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} يعني ركب أبي سفيان وغيره.
كانوا في موضع أسفل منهم إلى ساحل البحر فيه الأمتعة.
وقيل: هي الإبل التي كانت تحمل أمتعتهم، وكانت في موضع يأمنون عليها توفيقًا من الله عز وجل لهم، فذكّرهم نعمه عليهم.
{الركب} ابتداء {أسفل منكم} ظرف في موضع الخبر.
أي مكانًا أسفل منكم.
وأجاز الأخفش والكسائي والفراء {الركبُ أسفلُ منكم} أي أشد تسفلًا منكم.
والرَّكْبُ جمع راكب.
ولا تقول العرب: رَكْب إلا للجماعة الراكبي الإبل.
وحكى ابن السِّكِّيت وأكثر أهل اللغة أنه لا يقال راكب وركب إلا للذي على الإبل، ولا يقال لمن كان على فرس أو غيرها راكب.
والرَّكْب والأرْكُب والرّكبان والراكبون لا يكونون إلا على جمال؛ عن ابن فارس.
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} أي لم يكن يقع الاتفاق لكثرتهم وقلتكم؛ فإنكم لو عرفتم كثرتهم لتأخرتم فوفق الله عز وجل لكم.
{لِّيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} من نصر المؤمنين وإظهار الدِّين.
واللام في {لِيَقْضِيَ} متعلقة بمحذوف.
والمعنى: جمعهم ليقضي الله، ثم كررها فقال: {لِّيَهْلِكَ} أي جمعهم هنالك ليقضي أمرًا.
{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} {مَن} في موضع رفع.
{ويَحْيَا} في موضع نصب عطف على ليهلك.
والبينة إقامة الحجة والبرهان.
أي ليموت من يموت عن بينة رآها وعبرة عاينها.
فقامت عليه الحجة.
وكذلك حياة من يحيا.
وقال ابن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت عذره، ويؤمن من آمن على ذلك.
وقرئ {من حيي} بيائين على الأصل.
وبياء واحدة مشدّدة، الأولى قراءة أهل المدينة والبَزِّي وأبي بكر.
والثانية قراءة الباقين.
وهي اختيار أبي عبيد؛ لأنها كذلك وقعت في المصحف. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {إذ أنتم} أي اذكروا نعمة الله عليكم يا معشر المسلمين إذ أنتم {بالعدوة الدنيا} يعني بشفيرالوادي الأدنى من المدينة والدنيا هنا تأنيث الأدنى {وهم} يعني المشركين {بالعدوة القصوى} يعني بشفير الوادي الأقصى من المدينة مما يلي مكة والقصوى تأنيث الأقصى {والركب أسفل منكم} يعني أبا سفيان وأصحابه وهم غير قريش التي خرجوا لأجلها وكانوا في موضع أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر {ولو تواعدتم} يعني أنتم والمشركون {لاختلفتم في الميعاد} وذلك لأن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها من المسلمين فالتقوا على غير ميعاد والمعنى ولو تواعدتم أنتم والكفار على القتال لاختلفتم أنتم وهم لقلتكم وكثرة عدوكم {ولكن} يعني ولكن الله جمعكم على غير ميعاد {ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا} يعني من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه وأعداء دينه {ليهلك من هلك عن بينة} يعني ليموت من مات عن بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليها {ويحيى من حي عن بينة} يعني ويعيش من عاش عن بينة رآها وعبرة شاهدها وحجة قامت عليه وقال محمد بن إسحاق: معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ويؤمن من آمن على مثل ذلك لأن الهلاك هو الكفر الحياة هي الإيمان ونحوه قال قتادة ليضل من ضل على بينه ويهتدي من اهتدى على بينة {وإن الله لسميع عليم} يعني يسمع دعاءكم ويعلم نياتكم ولا تخفى عليه خافية. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم}
العدوة شطّ الوادي وتسمي شفيرًا وضفّة سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء أن يتجاوزه أي منعته.
وقال الشاعر:
عدتني عن زيارتها العوادي ** وقالت دونها حرب زبون

وتسمى الفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {بالعدوة} بكسر العين فيهما وباقي السبعة بالضم والحسن وقتادة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد بالفتح وأنكر أبو عمر والضم، وقال الأخفش لم يسمع من العرب إلاّ الكسر، وقال أبو عبيد الضمّ أكثرهما، وقال اليزيدي الكسر لغة الحجاز انتهى، فيحتمل أن تكون الثلاث لغى ويحتمل أن يكون الفتح مصدرًا سمي به وروي بالكسر والضمّ بيت أوس:
وفارس لم يحلّ اليوم عدوته ** ولو إسراعًا وما هموا بإقبال

وقرئ بالعدية بقلب الواو لكسرة العين ولم يعتدّوا بالساكن لأنه حاجز غير حصين كما فعلوا ذلك في صبية وقنية ودنيا من قولهم هو ابن عمي دنيا والأصل في هذا التصحيح كالصفوة والذروة والربوة وفي حرف ابن مسعود {بالعدوة} العليا {وهم بالعدوة} السفلى ووادي بدر آخذين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان، وقرأ زيد بن علي القصيا وقد ذكرنا أنه القياس وذلك لغة تميم والأحسن أن يكون وهم {والركب} معطوفان على {أنتم} فهي مبتدآت تقسيم لحالهم وحال أعدائهم ويحتمل أن تكون الواوان فيهما واوي الحال وأسفل ظرف في موضع الخبر، وقرأ زيد بن {على أسفل} بالرفع اتسع في الظرف فجعله نفس المبتدأ مجازًا {والركب} هم الأربعون الذين كانوا يقودون العِير عير أبي سفيان، وقيل الإبل التي كانت تحمل أزواد الكفار وأمتعتهم كانت في موضع يأمنون عليها.
قال الزمخشري: (فإن قلت): ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وإن العِير كانت أسفل منهم (قلت): الفائدة فيه الإخبار عن الحالة الدالة على قوّة شأن العدوّ وشوكته وتكامل عدّته وتمهد أسباب الغلبة له وضعف شأن المسلمين وشتات أمرهم وإن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعًا من الله تعالى ودليل على أن ذلك أمر لم يتيسّر إلا بحوله تعالى وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضًا لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة وكانت العِير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم وكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذبّ عن الحرم والغيرة على الحرم على بذل تجهيداتهم في القتال أن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطئهم ولا يخلو مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر انتهى، وهو كلام حسن.